تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ قَوْله تَعَالَى فِي أَوَّلِ مَا أَنْزَلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وَقَوْلُهُ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } . ذَكَرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِالْإِضَافَةِ الَّتِي تُوجِبُ التَّعْرِيفَ وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ إذْ الرَّبُّ تَعَالَى مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَبْدِ بِدُونِ الِاسْتِدْلَالِ بِكَوْنِهِ خَلَقَ . وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ مَعَ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ لَكِنْ هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْفِطْرَةِ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ ; وَمَعْرِفَتُهُ فِطْرِيَّةٌ مَغْرُوزَةٌ فِي الْفِطْرَةِ ; ضَرُورِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ أَوَّلِيَّةٌ . وَقَوْلُهُ { اقْرَأْ } وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا فَهُوَ خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } هُوَ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ مُطْلَقًا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخِطَابَ أَوْ مِنْ النَّوْعِ أَوْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا كَمَا قَدْ قِيلَ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ . مِثْلُ قَوْلِهِ { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قِيلَ خِطَابٌ لَهُ وَقِيلَ خِطَابٌ لِلْجِنْسِ ; وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ خِطَابٌ لَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا خُوطِبَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَالْأُمَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ . وَبِهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ . أَيْ هُمْ الَّذِينَ أُرِيدَ مِنْهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الشَّكِّ وَهُوَ لَمْ يُرَدْ مِنْهُ السُّؤَالُ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَكٌّ . وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مُخَاطَبًا وَمُرَادًا بِالْخِطَابِ بَلْ هَذَا صَرِيحُ اللَّفْظِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ . وَلِأَنَّ لَيْسَ فِي الْخِطَابِ أَنَّهُ أُمِرَ بِالسُّؤَالِ مُطْلَقًا بَلْ أُمِرَ بِهِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شَكٌّ . وَلَا أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ مُطْلَقًا بَلْ أُمِرَ بِهِ إنْ كَانَ هَذَا مَوْجُودًا وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } وَفِي قَوْلِهِ { وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ : إنَّ الْخِطَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ . أَيْ غَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ مُمْتَرِيًا وَمُطِيعًا لِأُولَئِكَ فَنُهِيَ وَهُوَ لَا يَكُونُ مُمْتَرِيًا وَلَا مُطِيعًا لَهُمْ . وَلَكِنْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ أَيْضًا مُخَاطَبٌ بِهَذَا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ نَهَاهُ عَمَّا حَرَّمَهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ . وَبِنَهْيِ اللَّهِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ فِي هَذَا اسْتَحَقَّ عَظِيمَ الثَّوَابِ وَلَوْلَا النَّهْيُ وَالطَّاعَةُ لَمَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ . وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ مِمَّنْ يُشَكُّ [ فِي ] طَاعَتِهِ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِيَ الرَّبَّ أَوْ يَعْصِيَهُ مُطْلَقًا وَلَا يُطِيعَهُ . بَلْ اللَّهُ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ وَيَأْمُرُ الْأَنْبِيَاءَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّ مَا أَطَاعُوهُ فِيهِ قَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ . وَلَا يُقَالُ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْأَمْرِ بَلْ بِالْأَمْرِ صَارَ مُطِيعًا مُسْتَحِقًّا لِعَظِيمِ الثَّوَابِ . وَلَكِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي قُدْرَتَهُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَهُ لِيُثَابَ عَلَى ذَلِكَ إذَا تَرَكَهُ . وَقَدْ يَقْتَضِي قِيَامَ السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى فِعْلِهِ فَيُنْهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ بِالنَّهْيِ وَإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى الِامْتِثَالِ يَمْتَنِعُ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ إذَا قَامَ السَّبَبُ الدَّاعِي لَهُ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ { سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ } إنَّهُ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ ; وَقِيلَ هُوَ أَمْرٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ . فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { اقْرَأْ } كَقَوْلِهِ فِي آخِرِهَا { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } وَقَوْلِهِ { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } هَذَا مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ . وَقَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } { قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } فَإِنَّهُ كَانَ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } لَمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ الْإِنْذَارِ . وَهَذَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ . فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يُبَلِّغُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَيُنْذِرُوا كَمَا أَنْذَرَ . قَالَ تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وَالْجِنُّ لَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ { وَلَّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ إنْسَانٍ فِي قَلْبِهِ مَعْرِفَةٌ بِرَبِّهِ . فَإِذَا قِيلَ لَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } عَرَفَ رَبَّهُ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِهِ كَمَا يَعْرِفُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَالْمَخْلُوقُ يَسْتَلْزِمُ الْخَالِقَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْإِقْرَارَ وَالِاعْتِرَافَ بِالْخَالِقِ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُفْسِدُ فِطْرَتَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى نَظَرٍ تَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ وَعَلَيْهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَارَةً تَحْصُلُ بِالضَّرُورَةِ وَتَارَةً بِالنَّظَرِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ النَّظَرُ أَوَّلَ وَاجِبٍ بَلْ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } لَمْ يَقُلْ " اُنْظُرْ وَاسْتَدِلَّ حَتَّى تَعْرِفَ الْخَالِقَ " وَكَذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ مَا بَلَّغَ هَذِهِ السُّورَةَ . فَكَانَ الْمُبَلِّغُونَ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا فِيهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ اعْتِرَاف النَّفْسِ بِالْخَالِقِ وَإِثْبَاتَهَا لَهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ نَظَرًا مَخْصُوصًا وَهُوَ النَّظَرُ فِي الْأَعْرَاضِ وَأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْأَجْسَامِ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْأَجْسَامِ بِدُونِهَا . قَالُوا : وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بَيِّنَةٌ بِنَفْسِهَا بَلْ ضَرُورِيَّةٌ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ وَالْمَحْدُودِ وَبَيْنَ الْجِنْسِ الْمُتَّصِلِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إمَّا لِظَنِّهِ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ أَوْ لِعَدَمِ خُطُورِهِ بِقَلْبِهِ . لَكِنْ وَإِنْ قِيلَ هُوَ مُمْتَنِعٌ فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ بَدِيهِيًّا . وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الْبَدِيهِيُّ أَنَّ الْحَادِثَ الَّذِي لَهُ مَبْدَأٌ مَحْدُودٌ كَالْحَادِثِ . وَالْحَوَادِثُ الْمُقَدَّرَةُ مِنْ حِينٍ مَحْدُودٌ فَتِلْكَ مَا لَا يَسْبِقُهَا فَهُوَ حَادِثٌ . وَمَا لَا يَخْلُو مِنْهَا لَمْ يَسْبِقْهَا فَهُوَ حَادِثٌ . فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْبِقْهَا كَانَ مَعَهَا أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ حَادِثٌ . وَأَمَّا إذَا قَدَّرَ حَوَادِثَ دَائِمَةً شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَهَذَا إمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مُمْكِنٌ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ مُمْتَنِعٌ . لَكِنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِهِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَمْ تَعَلُّمِ طَائِفَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَالُوا : إنَّ الْعِلْمَ بِامْتِنَاعِ هَذَا بَدِيهِيٌّ ضَرُورِيٌّ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ . بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُ هَذَا تَصَوُّرًا تَامًّا . بَلْ مَتَى تَصَوَّرَ الْحَادِثَ قَدَّرَ [ فِي ] ذِهْنِهِ مَبْدَأً ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فِي ذِهْنِهِ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ شَيْءٌ قَبْلَ ذَلِكَ لَكِنْ إلَى غَايَاتٍ مَحْدُودَةٍ بِحَسَبِ تَقْدِيرِ ذِهْنِهِ ; كَمَا يُقَدِّرُ الذِّهْنُ عَدَدًا بَعْدَ عَدَدٍ . وَلَكِنْ كُلُّ مَا يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ فَهُوَ مُنْتَهٍ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا قِيلَ لَهُ " الْأَزَلُ " أَوْ " كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي الْأَزَلِ " تَصَوَّرَ ذَلِكَ . وَهَذَا غَلَطٌ بَلْ " الْأَزَلُ " مَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ كَمَا أَنَّ " الْأَبَدَ " لَيْسَ لَهُ آخِرٌ وَكُلُّ مَا يُومِئُ إلَيْهِ الذِّهْنُ مِنْ غَايَةٍ ف " الْأَزَلُ " وَرَاءَهَا وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : مَعْرِفَةُ الرَّبِّ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ ثُمَّ قَالُوا : لَا تَحْصُلُ إلَّا بِهَذَا النَّظَرِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الجهمية الْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ . وَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى خَطَأِ هَؤُلَاءِ فِي إيجَابِهِمْ هَذَا النَّظَرَ الْمُعَيَّنَ وَفِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ . إذْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ هَذَا عَلَى الْأُمَّةِ وَلَا أَمَرَهُمْ بِهِ بَلْ وَلَا سَلَكَهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ . ثُمَّ هَذَا النَّظَرُ هَذَا الدَّلِيلُ لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ وَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ . وَقِيلَ : بَلْ يُمْكِنُ حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ بِدُونِهِ لَكِنَّهُ طَرِيقٌ آخَرُ إلَى الْمَعْرِفَةِ . وَهَذَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لَكِنْ لَا يُوجِبُهَا كالخطابي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي جَعْفَرٍ السمناني قَاضِي الْمَوْصِلِ شَيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَكَانَ يَقُولُ : إيجَابُ النَّظَرِ بَقِيَّةٌ بَقِيَتْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ الِاعْتِزَالِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُوجِبُونَ هَذَا النَّظَرَ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ النَّظَرَ مُطْلَقًا كالسمناني وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ فِي الْجُمْلَةِ كالخطابي وَأَبِي الْفَرَجِ المقدسي . وَالْقَاضِي أَبُو يُعْلَى يَقُولُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً بَلْ وَيَقُولُ تَارَةً بِإِيجَابِ النَّظَرِ الْمُعَيَّنِ كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ . ثُمَّ مِنْ الْمُوجِبِينَ لِلنَّظَرِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْمَعْرِفَةُ الْوَاجِبَةُ بِهِ وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ . كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ : أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْقَصْدُ إلَى النَّظَرِ كَعِبَارَةِ أَبِي الْمَعَالِي . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : بَلْ الشَّكُّ الْمُتَقَدِّمُ كَمَا قَالَهُ أَبُو هَاشِمٍ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَبَيَّنَ أَنَّهَا كُلَّهَا غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَلْ وَبَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنَّ أَوَّلَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ هُوَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : الْمَعْرِفَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالنَّظَرِ قَالُوا : لَوْ حَصَلَتْ بِغَيْرِهِ لَسَقَطَ التَّكْلِيفُ بِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ . فَيُقَالُ لَهُمْ : وَلَيْسَ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ أَنَّ مِنْهُمْ أَحَدًا أَوْجَبَهَا بَلْ هِيَ حَاصِلَةٌ عِنْدَ الْأُمَمِ جَمِيعِهِمْ . وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الرُّسُلِ افْتَتَحُوا دَعْوَتَهُمْ بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ . وَقَوْمُهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْخَالِقِ لَكِنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ الْكُفَّار مَنْ أَظْهَرَ جَحُودَ الْخَالِقِ كَفِرْعَوْنَ حَيْثُ قَالَ { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } وَقَالَ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَقَالَ لِمُوسَى { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَقَالَ { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . وَمَعَ هَذَا فَمُوسَى أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } { قَالَ رَبِّ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلَى هَارُونَ } { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } { قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ } { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ } { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } { قَالَ فَعَلْتُهَا إذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ } { فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } . قال فِرْعَوْنُ إنْكَارًا وَجَحْدًا { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } قَالَ مُوسَى { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } { قَالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا } الْآيَاتِ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الرَّبِّ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ عَنْ حُدُودِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ " مَا الْإِنْسَانُ ؟ مَا الْمَلَكُ ؟ مَا الْجِنِّيُّ ؟ " وَنَحْوُ ذَلِكَ . قَالُوا : وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْئُولِ عَنْهُ مَاهِيَّةٌ عَدَلَ مُوسَى عَنْ الْجَوَابِ إلَى بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ بَاطِلٌ . فَإِنَّ فِرْعَوْنَ إنَّمَا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجَحْدٍ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ مَاهِيَّةِ رَبٍّ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ بَلْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا . وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَقَالَ { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . فَاسْتِفْهَامُهُ كَانَ إنْكَارًا وَجَحْدًا يَقُولُ : لَيْسَ لِلْعَالِمِينَ رَبٌّ يُرْسِلُك فَمَنْ هُوَ هَذَا ؟ إنْكَارًا لَهُ . فَبَيَّنَ مُوسَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَأَنَّ آيَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا جَحْدُهُ . وَأَنَّكُمْ إنَّمَا تَجْحَدُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ مَا تَعْرِفُونَهُ بِقُلُوبِكُمْ كَمَا قَالَ مُوسَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِفِرْعَوْنَ { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } وَلَمْ يَقُلْ فِرْعَوْنُ وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّ " مَنْ " سُؤَالٌ عَنْ عَيْنِهِ يَسْأَلُ بِهَا مَنْ عَرَفَ جِنْسَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ شَكَّ فِي عَيْنِهِ كَمَا يُقَالُ لِرَسُولِ عَرَفَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ إنْسَانٍ " مَنْ أَرْسَلَك ؟ " . وَأَمَّا " مَا ؟ " فَهِيَ سُؤَالٌ عَنْ الْوَصْفِ . يَقُولُ : أَيُّ شَيْءٍ هُوَ هَذَا ؟ وَمَا هُوَ هَذَا الَّذِي سَمَّيْته " رَبَّ الْعَالَمِينَ " ؟ قَالَ ذَلِكَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا . فَلَمَّا سَأَلَ جَحْدًا أَجَابَهُ مُوسَى بِأَنَّهُ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُشَكَّ فِيهِ وَيُرْتَابَ . فَقَالَ { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } . وَلِمَ يَقُلْ " مُوقِنِينَ بِكَذَا وَكَذَا " بَلْ أَطْلَقَ فَأَيُّ يَقِينٍ كَانَ لَكُمْ بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَوَّلُ الْيَقِينِ الْيَقِينُ بِهَذَا الرَّبِّ كَمَا قَالَتْ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } . وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا يَقِينَ لَنَا بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ بَلْ سُلِبْنَا كُلَّ عِلْمٍ فَهَذِهِ دَعْوَى السَّفْسَطَةِ الْعَامَّةِ وَمُدَّعِيهَا كَاذِبٌ ظَاهِرُ الْكَذِبِ . فَإِنَّ الْعُلُومَ مِنْ لَوَازِمَ كُلِّ إنْسَانٍ فَكُلُّ إنْسَانٍ عَاقِلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلْمٍ . وَلِهَذَا قِيلَ فِي حَدِّ " الْعَقْلِ " : إنَّهُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ وَهِيَ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا عَاقِلٌ . فَلَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ { إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } وَهَذَا مِنْ افْتِرَاءِ الْمُكَذِّبِينَ عَلَى الرَّسُولِ لَمَّا خَرَجُوا عَنْ عَادَاتِهِمْ الَّتِي هِيَ مَحْمُودَةٌ عِنْدَهُمْ نَسَبُوهُمْ إلَى الْجُنُونِ . وَلَمَّا كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلْجَحْدِ بِالْخَالِقِ أَوْ لِلِاسْتِرَابَةِ وَالشَّكِّ فِيهِ هَذِهِ حَالُ عَامَّتِهِمْ وَدِينِهِمْ وَهَذَا عِنْدَهُمْ دِينٌ حَسَنٌ وَإِنَّمَا إلَهُهُمْ الَّذِي يُطِيعُونَهُ فِرْعَوْنُ قَالَ { إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } . فَبَيَّنَ لَهُ مُوسَى أَنَّكُمْ الَّذِينَ سُلِبْتُمْ الْعَقْلَ النَّافِعَ وَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَالَ { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } . فَإِنَّ الْعَقْلَ مُسْتَلْزِمٌ لِعُلُومِ ضَرُورِيَّةٍ يَقِينِيَّةٍ وَأَعْظَمُهَا فِي الْفِطْرَةِ الْإِقْرَارُ بِالْخَالِقِ . فَلَمَّا ذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِشَيْءِ فَهُوَ مُوقِنٌ بِهِ وَالْيَقِينُ بِشَيْءِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْلِ بَيَّنَ ثَانِيًا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهِ مِنْ لَوَازِمِ الْعَقْلِ . وَلَكِنَّ الْمَحْمُودَ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ صَاحِبُهُ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ قِيلَ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ . وَيُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ لَمْ يَتَّبِعْ مَا أَيْقَنَ بِهِ : إنَّهُ لَيْسَ لَهُ يَقِينٌ . فَإِنَّ الْيَقِينَ أَيْضًا يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِهَذَا الْعِلْمِ . فَلَا يُطْلَقُ " الْمُوقِنُ " إلَّا عَلَى مَنْ اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ . وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ اتِّبَاعٌ لِمَا عَرَفُوهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا يَقِينٌ . وَكَلَامُ مُوسَى يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ : إنْ كَانَ لَك يَقِينٌ فَقَدْ عَرَفْته وَإِنْ كَانَ لَك عَقْلٌ فَقَدْ عَرَفْته . وَإِنْ ادَّعَيْت أَنَّهُ لَا يَقِينَ لَك وَلَا عَقْلَ لَك فَكَذَلِكَ قَوْمُك فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْكُمْ بِسَلْبِكُمْ خَاصِّيَّةِ الْإِنْسَانِ . وَمَنْ يَكُونُ هَكَذَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ . مَعَ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْكُمْ فَإِنَّكُمْ مُوقِنُونَ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } . وَلَكُمْ عَقْلٌ تَعْرِفُونَهُ بِهِ وَلَكِنَّ هَوَاكُمْ يَصُدُّكُمْ عَنْ اتِّبَاعِ مُوجَبِ الْعَقْلِ وَهُوَ إرَادَةُ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ . فَأَنْتُمْ لَا عَقْلَ لَكُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ النَّارِ { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } . قَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } وَالْخَفِيفُ هُوَ السَّفِيهُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرُّسُلِ مَنْ قَالَ أَوَّلَ مَا دَعَا قَوْمَهُ : إنَّكُمْ مَأْمُورُونَ بِطَلَبِ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَانْظُرُوا وَاسْتَدِلُّوا حَتَّى تَعْرِفُوهُ . فَلَمْ يُكَلَّفُوا أَوَّلًا بِنَفْسِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى الْمَعْرِفَةِ إذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ تَعْرِفُهُ وَتُقِرُّ بِهِ وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ لَكِنْ عَرَضَ لِلْفِطْرَةِ مَا غَيَّرَهَا وَالْإِنْسَانُ إذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ مَا فِي فِطْرَتِهِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ فِي خِطَابِهِ لِمُوسَى { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } مَا فِي فِطْرَتِهِ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي بِهِ يَعْرِفُ رَبَّهُ وَيَعْرِفُ إنْعَامَهُ عَلَيْهِ وَإِحْسَانَهُ إلَيْهِ وَافْتِقَارَهُ إلَيْهِ فَذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ { أَوْ يَخْشَى } مَا يُنْذِرُهُ بِهِ مِنْ الْعَذَابِ فَذَلِكَ أَيْضًا يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } . فَالْحِكْمَةُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ فَيَقْبَلُهَا مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ بِلَا مُنَازَعَةً . وَمَنْ نَازَعَهُ هَوَاهُ وُعِظَ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ . فَالْعِلْمُ بِالْحَقِّ يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى اتِّبَاعِهِ . فَإِنَّ الْحَقَّ مَحْبُوبٌ فِي الْفِطْرَةِ . وَهُوَ أَحَبُّ إلَيْهَا . وَأَجَلُّ فِيهَا وَأَلَذُّ عِنْدِهَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَإِنَّ الْفِطْرَةَ لَا تُحِبُّ ذَاكَ . فَإِنْ لَمْ يَدْعُهُ الْحَقُّ وَالْعِلْمُ بِهِ خُوِّفَ عَاقِبَةَ الْجُحُودِ وَالْعِصْيَانِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَذَابِ فَالنَّفْسُ تَخَافُ الْعَذَابَ بِالضَّرُورَةِ . فَكُلُّ حَيٍّ يَهْرُبُ مِمَّا يُؤْذِيهِ بِخِلَافِ النَّافِعِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فَيَتَّبِعُ الْأَدْنَى دُونَ الْأَعْلَى . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِمَا خُوِّفَ بِهِ أَوْ يَتَغَافَلُ عَنْهُ حَتَّى يَفْعَلَ مَا يَهْوَاهُ . فَإِنَّهُ إذَا صَدَّقَ بِهِ وَاسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَبْعَثْ نَفْسُهُ إلَى هَوَاهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعٍ مِنْ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْلِ حَتَّى يَتَّبِعَهُ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ عَاصٍ لِلَّهِ جَاهِلًا كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَأَنَّ الْفِطْرَةَ مُقِرَّةٌ بِهِ . وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ قَوْلُهُ { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرُّسُلِ { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } هُوَ نَفْيٌ أَيْ لَيْسَ فِي اللَّهِ شَكٌّ . وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَ الْأُمَمِ عَلَى مَا هُمْ مُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ . فَإِنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ إذَا دَخَلَ عَلَى حَرْفِ النَّفْيِ كَانَ تَقْرِيرًا كَقَوْلِهِ : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ . بِخِلَافِ اسْتِفْهَامِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ لَا تَقْرِيرَ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ إلَّا أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ فَقَطْ وَدَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ إنْكَارٌ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِقْرَارُ بِهِ ثَابِتًا فِي كُلِّ فِطْرَةٍ فَكَيْفَ يُنْكِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ ؟ فَيُقَالُ أَوَّلًا : أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ فِي الْإِسْلَامِ بِإِنْكَارِ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ هُمْ أَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِي اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ مِنْ الجهمية وَالْقَدَرِيَّةِ . وَهُمْ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ أَضَلِّ الطَّوَائِفِ وَأَجْهَلِهِمْ . وَلَكِنْ انْتَشَرَ كَثِيرٌ مِنْ أُصُولِهِمْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ السَّلَفَ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّا خَالَفَهُمْ فِيهِ سَلَفُهُمْ الجهمية . فَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ صَدَرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا صَدَرَ أَوَّلًا عَمَّنْ ذَمَّهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ .