تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَمِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ مَعْرِفَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْهُ الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ كَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ { الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } و " الْخَلْقُ " مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَهُوَ نَوْعَانِ . فِعْلٌ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولٍ بِهِ مِثْلُ " خَلَقَ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ " رَزَقَ " كَقَوْلِهِ { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ } . وَكَذَلِكَ الْهُدَى وَالْإِضْلَالُ وَالتَّعْلِيمُ وَالْبَعْثُ وَالْإِرْسَالُ وَالتَّكْلِيمُ . وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } وَقَوْلِهِ { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وَقَوْلِهِ { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ } وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ [ كَثِيرٌ ] جِدًّا . وَالْأَفْعَالُ اللَّازِمَةُ كَقَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَوْلِهِ { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } . فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى إضَافَتِهِ إلَى اللَّهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ لَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لِشَيْءِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . لَكِنْ هَلْ قَامَ بِهِ فِعْلٌ هُوَ الْخَلْقُ أَوْ الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَالْخَلْقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ ؟ وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ يَثْبُتُ اتِّصَافُهُ بِالصِّفَاتِ . فَأَمَّا مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ مِنْ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ يَنْفُونَ قِيَامَ الْفِعْلِ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَيَجْعَلُ الْخَلْقَ إمَّا مَعْنًى قَامَ بِالْمَخْلُوقِ أَوْ الْمَعَانِي الْمُتَسَلْسِلَةِ كَمَا يَقُولُهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ ; أَوْ يَجْعَلُ الْخَلْقَ قَائِمًا لَا فِي مَحَلٍّ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهُ قَوْلُ " كُنْ " لَا فِي مَحَلٍّ وَقَوْلِ الْبَصْرِيِّينَ : إنَّهُ إرَادَةٌ لَا فِي مَحَلٍّ . وَهَذَا فِرَارٌ مِنْهُمْ عَنْ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كَمَا الْتَزَمَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُ . وَالْجُمْهُورُ الْمُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ هُمْ فِي الْأَفْعَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ . مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ هُوَ الْمَفْعُولُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَهَؤُلَاءِ يُقَسِّمُونَ الصِّفَاتِ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ . وَهَذَا تَقْسِيمٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ . فَإِنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ فَلَا يَتَّصِفُ بِهَا . لَكِنْ يُخْبِرُ عَنْهُ بِهَا . وَهَذَا التَّقْسِيمُ يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الصِّفَاتُ هِيَ الْأَخْبَارُ الَّتِي يُخْبِرُ بِهَا عَنْهُ لَا مَعَانِيَ تَقُومُ بِهِ كَمَا تَقُولُ ذَلِكَ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ . فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا : الصِّفَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى ذَاتِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ أَرَادُوا بِذَلِكَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ مِنْ الْكَلَامِ تَارَةً يَكُونُ خَبَرًا عَنْ ذَاتِهِ وَتَارَةً عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ عِنْدَهُمْ صِفَاتٌ تَقُومُ بِهِ . فَمَنْ فَسَّرَ الصِّفَاتِ بِهَذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ ذَاتِيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً وَفِعْلِيَّةً . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُرَادُهُ بِالصِّفَاتِ مَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا التَّقْسِيمُ لَا يَصْلُحُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَلَكِنْ أَخَذُوا التَّقْسِيمَ عَنْ أُولَئِكَ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي الْمُرَادِ بِالصِّفَاتِ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي والباجي وَغَيْرِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ . وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ . ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " أَنَّ هَذَا إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ خَالِقٌ وَخَلْقٌ وَمَخْلُوقٌ . وَذَكَرَهُ البغوي قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي فِي كِتَابِ " التَّعَرُّفُ بِمَذَاهِبِ التَّصَوُّفِ " أَنَّهُ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ . وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ يُسَمُّونَهُ " التَّكْوِينُ " وَهُوَ قَوْلُ الكرامية والهشامية وَنَحْوِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . ثُمَّ إذَا قِيلَ : الْخَلْقُ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرَّبِّ فَهَلْ هُوَ خَلْقٌ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ مَعَ حُدُوثِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ ؟ أَوْ هُوَ خَلْقٌ حَادِثٌ بِذَاتِهِ حَدَثَ لَمَّا حَدَثَ جِنْسُ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ أَمْ خَلْقٌ بَعْدَ خَلْقٍ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَهَذَا أَوْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَجُمْهُورُهُمْ . وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الكرامية والهشامية وَغَيْرِهِمْ . فَمَنْ قَالَ " إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ فِعْلًا يَقُومُ بِذَاتِهِ " . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِذَاتِهِ مِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ دَلِيلَ الْأَعْرَاضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ كالكرامية وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُصَحِّحُهُ كَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ . وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بـ " مَسْأَلَةِ التَّأْثِيرِ " هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ التَّأْثِيرُ زَائِدٌ عَلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْأَثَرِ أَمْ [ لَا ] ؟ وَكَلَامُ الرازي فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَعُمْدَةُ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْخَلْقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالتَّأْثِيرَ هُوَ وُجُودُ الْأَثَرِ لَمْ يُثْبِتُوا زَائِدًا أَنْ قَالُوا : لَوْ كَانَ الْخَلْقُ وَالتَّأْثِيرُ زَائِدًا عَلَى ذَاتِ الْمَخْلُوقِ وَالْأَثَرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَقُومَ بِمَحَلِّ أَوْ لَا وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : يَقُومُ بِنَفْسِهِ . قَالُوا : وَإِذَا قَامَ بِمَحَلِّ فَإِمَّا أَنْ يَقُومَ بِالْخَالِقِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِغَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْخَالِقَ لَا هُوَ . وَهَذَا رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ ثَانِيَةٍ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَقُومُ بِالْمَخْلُوقِ . وَإِذَا قَامَ بِالْخَالِقِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَلَزِمَ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ الْخَلْقَ وَالْمَخْلُوقَ مُتَلَازِمَانِ . فَوُجُودُ خَلْقٍ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَلِكَ وُجُودُ تَأْثِيرٍ بِلَا أَثَرٍ . وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ . وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ الْحَادِثَ يَفْتَقِرُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَمَعْمَرُ بْنُ عَبَّادٍ الْتَزَمَ التَّسَلْسُلَ وَجَعَلَ لِلْخَلْقِ خَلْقًا وَلِلْخَلْقِ خَلْقًا لَكِنْ لَا فِي ذَاتِ اللَّهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . فَهَذِهِ عُمْدَةُ هَؤُلَاءِ . وَكُلُّ طَائِفَةٍ تُخَالِفُهُمْ مَنَعَتْ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِمْ . فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَخْلُوقِ مَنَعَ تينك الْمُقْدِمَتَيْنِ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَكُلٌّ أَجَابَ بِحَسَبِ قَوْلِهِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ كَمَا أَنَّ الْإِرَادَةَ عِنْدَكُمْ قَدِيمَةً . وَمَعَ الْقَوْلِ بِقِدَمِهَا لَمْ يَلْزَمْ تَقَدُّمَ الْمُرَادِ كَذَلِكَ الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ قَدِيمٌ وَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْمَخْلُوقِ . وَهَذَا لَازِمٌ للكلابية مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ . لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ قِدَمِ إرَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ نَفْيُ قِدَمِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةُ . أَوْ يَقُولُ بِقِدَمِ نَوْعِ الْإِرَادَةِ كَمَا يَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ والمتكلمين وَغَيْرِهِمْ . لَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يُقَالُ لَهُ : التَّكْوِينُ الْقَدِيمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ بِمَشِيئَتِهِ . فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ الْخَلْقَ بِلَا مَشِيئَتِهِ . وَإِنْ كَانَ بِمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ مُرَادًا وَهَذَا بَاطِلٌ . وَلَوْ صَحَّ لَأَمْكَنَ كَوْنُ الْعَالَمِ قَدِيمًا مَعَ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا بِخَلْقِ قَدِيمٍ بِإِرَادَةِ قَدِيمَةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ قَالَ " الْقُرْآنُ قَدِيمٌ " يَقُولُونَ : تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَالْمَفْعُولُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُرَادُ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا . وَأَيْضًا فَهَؤُلَاءِ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ يَقُولُونَ : الْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْمُرَادِ وَالْخَلْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَخْلُوقِ . وَمَا ذُكِرَ حُجَّةٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ وَالْخَلْقَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَثُبُوتُ إرَادَةٍ بِلَا مُرَادٍ وَخَلْقٌ بِلَا مَخْلُوقٍ مُمْتَنِعٌ . لَكِنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ وَالْخَلْقُ وَيَتَأَخَّرُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ تَقُولُونَ : تُوجَدُ الْإِرَادَةُ أَوْ الْخَلْقُ مَعَ الْإِرَادَةِ وَلَا يُوجَدُ لَا الْمُرَادُ وَلَا الْمَخْلُوقُ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ تَقْدِيرِ الْأَوْقَاتِ يُوجَدُ الْمُرَادُ الْمَخْلُوقُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي بِدَايَةِ الْعُقُولِ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ أَوْ الْخَلْقَ كَانَ مَوْجُودًا مَعَ الْقُدْرَةِ . فَإِنْ كَانَ هَذَا مُؤَثِّرًا تَامًّا اسْتَلْزَمَ وُجُودَ الْأَثَرِ وَلَزِمَ وُجُودُ الْأَثَرِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ . فَإِنَّ الْأَثَرَ " مُمْكِنٌ " وَالْمُمْكِنُ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا بَعْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَحِينَئِذٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُرَجِّحٍ . وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ . وَلَا يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ إلَّا إذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ الْمُوجِبُ . وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْصَمِ الكرامي وَمَحْمُودٍ الْخَوَارِزْمِيّ يَكُونُ الْمُمْكِنُ أَوْلَى بِالْوُقُوعِ لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ : بَلْ لَا يَصِيرُ أَوْلَى وَلَكِنَّ الْقَادِرَ أَوْ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ . وَآخَرُونَ عَرَفُوا أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فَاعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ يَجِبُ وُجُودُ الْأَثَرِ وَعِنْدَ الدَّاعِي التَّامِّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ والرازي والطوسي وَغَيْرُهُمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ قُدَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ بِالْإِرَادَةِ الْمُوجِبَةِ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ . والمتفلسفة أَوْرَدُوا هَذَا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِأَنَّ الْأَثَرَ يُقَارِنُ وُجُودَ التَّأْثِيرِ فَيَكُونُ مَعَهُ بِالزَّمَنِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ إلَّا هَذَا الْقَوْلَ وَذَاكَ الْقَوْلُ كالرازي وَغَيْرِهِ فَيَبْقَوْنَ حَيَارَى فِي هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْكَلَامِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلًا ثَالِثًا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ . وَهُوَ أَنَّ التَّأْثِيرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ عَقِبَهُ لَا مَعَهُ فِي الزَّمَانِ وَلَا مُتَرَاخِيًا عَنْهُ . فَمَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَقَدْ غَلِطَ وَمَنْ قَالَ بِالِاقْتِرَانِ كالمتفلسفة فَهُمْ أَعْظَمُ غَلَطًا . وَيَلْزَمُ قَوْلُهُمْ مِنْ الْمُحَالَاتِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَعَلَيْهِ يَدُلُّ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَالْعُقَلَاءُ يَقُولُونَ " قَطَّعْته فَانْقَطَعَ وَكَسَّرْته فَانْكَسَرَ " و " طَلَّقَ الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ وَأَعْتَقَ الْعَبْدَ فَعَتَقَ " . فَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَقَعَانِ عَقِبَ الْإِعْتَاقِ وَالتَّطْلِيقِ لَا يَتَرَاخَى الْأَثَرُ وَلَا يُقَارَنُ . وَكَذَلِكَ الِانْكِسَارُ وَالِانْقِطَاعُ مَعَ الْقَطْعِ وَالْكَسْرِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْخَلْقُ لَزِمَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ عَقِبَهُ كَمَا يُقَالُ : كَوْنُ اللَّهِ الشَّيْءَ فَتَكُونُ . فَتَكُونُهُ عَقِبَ تَكْوِينِ اللَّهِ لَا مَعَ التَّكْوِينِ وَلَا مُتَرَاخِيًا . وَكَذَلِكَ الْإِرَادَةُ التَّامَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ الْمَقْدُورِ . فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ فَيُوجَدُ الْخَلْقُ بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ الْخَلْقُ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلْقُ حَادِثًا بِسَبَبِ آخَرَ يَكُونُ هَذَا عَقِبَهُ . فَإِنَّمَا فِي ذَلِكَ وُجُودُ الْأَثَرِ عَقِبَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ وَالتَّسَلْسُلِ فِي الْآثَارِ . وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَلَا يَكُونُ إلَّا بَائِنًا عَنْهُ لَا يَقُومُ بِهِ مَخْلُوقٌ . بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ تَقْتَضِي وُجُودَ الْخَلْقِ كَمَا تَقْتَضِي وُجُودَ الْكَلَامِ . وَلَا يَفْتَقِرُ الْخَلْقُ إلَى خَلْقٍ آخَرَ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مَا بِهِ يَحْصُلُ وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ . وَإِذَا خَلَقَ شَيْئًا أَرَادَ خَلْقَ شَيْءٍ آخَرَ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْخَلْقَ حَادِثٌ كالهشامية والكرامية قَالَ : نَحْنُ نَقُولُ بِقِيَامِ الْحَوَادِثِ . وَلَا دَلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ . بَلْ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ يُدَبِّرُ هَذَا الْعَالَمَ إلَّا بِذَلِكَ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَقْرَبُ الْفَلَاسِفَةِ إلَى الْحَقِّ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ " الْمُعْتَبَرِ " وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : يَلْزَمُ أَنَّ لِلْخَلْقِ خَلْقًا آخَرَ فَقَدْ أَجَابَهُمْ مَنْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ كالكرامية وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ تَحْدُثُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَصْلًا . وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْخَلْقِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ أَقْرَبُ إلَى الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ . وَهَذَا جَوَابٌ لَازِم عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَقْدِيرِ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ . والكرامية يُسَمُّونَ مَا قَامَ بِهِ " حَادِثًا " وَلَا يُسَمُّونَهُ " مُحْدَثًا " كَالْكَلَامِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْقُرْآنُ أَوْ غَيْرُهُ يَقُولُونَ : هُوَ حَادِثٌ وَيَمْنَعُونَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُحْدَثٌ لِأَنَّ " الْحَادِثَ " يَحْدُثُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ك " الْفِعْلِ " . وَأَمَّا " الْمُحْدَثُ " فَيَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِهِ إحْدَاثُ غَيْرِ الْمُحْدَثِ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ . وَأَمَّا غَيْرُ الكرامية مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَالْكَلَامِ فَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " مُحْدَثًا " كَمَا قَالَ { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ } . وَاَلَّذِي أَحْدَثَهُ هُوَ النَّهْيُ عَنْ تَكَلُّمِهِمْ فِي الصَّلَاةِ . وَقَوْلُهُمْ " إنَّ الْمُحْدَثَ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ وَهَلُمَّ جَرًّا " هَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّسَلْسُلَ فِي الْآثَارِ مِثْلُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ . وَكَذَلِكَ أَفْعَالُهُ فَإِنَّ الْفِعْلَ وَالْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ . فَإِنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَمَنْ يَخْلُقُ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَخْلُقُ . قَالَ تَعَالَى { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } . وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مَا زَالَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ . وَبِهَذَا تَزُولُ أَنْوَاعُ الْإِشْكَالِ وَيُعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ أَصْدَقِ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ دَلَائِلَ الْعُقُولِ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَا يُوَافِقُ أَخْبَارَ الرَّسُولِ . وَلَكِنْ نَشَأَ الْغَلَطُ مِنْ جَهْلِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَسُلُوكِهِمْ أَدِلَّةً بِرَأْيِهِمْ ظَنُّوهَا عَقْلِيَّةً وَهِيَ جهلية . فَغَلِطُوا فِي الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَاخْتَلَفُوا { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ وَذُكِرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذَ الْأَقْوَالِ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا بَيَّنَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَتَكَلَّمَ فِي " الرَّدِّ عَلَى الجهمية " عَلَى قَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } . وَبَيَّنَ أَنْ " الْجَعْلَ " مِنْ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ " خَلْقًا " كَقَوْلِهِ { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وَقَدْ يَكُونُ " فِعْلًا لَيْسَ بِخَلْقِ " وَقَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلْقَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ خَلْقًا مِثْلُ تَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَتَكَلُّمِهِ لِمُوسَى وَغَيْرِهِ وَمِثْلُ النُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ إنَّمَا تَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَبِأَفْعَالِ أُخَرٍ تَقُومُ بِذَاتِهِ لَيْسَتْ خَلْقًا . وَبِهَذَا يُجِيبُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ للكرامية إذَا قَالُوا : " الْمُحْدَثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إحْدَاثٍ ؟ " فَيَقُولُ : " نَعَمْ وَذَلِكَ الْإِحْدَاثُ فِعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ " و " التَّسَلْسُلُ " نَلْتَزِمُهُ . فَإِنَّ التَّسَلْسُلَ الْمُمْتَنِعَ هُوَ وُجُودُ الْمُتَسَلْسِلَاتِ فِي آنٍ وَاحِدٍ ; كَوُجُودِ خَالِقٍ لِلْخَالِقِ وَخَالِقٍ لِلْخَالِقِ أَوْ لِلْخَلْقِ خَلْقٌ وَلِلْخَلْقِ خَلْقٌ فِي آنٍ وَاحِدٍ . وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا وُجُودُ مَا لَا يَتَنَاهَى فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ مُطْلَقًا . وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ يَكُونُ " مُحْدَثًا " لَا " مُمْكِنًا " وَلَيْسَ فِيهَا مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّسَلْسُلُ وَإِذَا كَانَ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ . بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ " كَانَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامٌ وَقَبْلَ هَذَا الْفِعْلِ فِعْلٌ " جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ . فَإِذَا قِيلَ " هَذَا الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ أَحْدَثَهُ فِي نَفْسِهِ " كَانَ هَذَا مَعْقُولًا . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِنَا " تَكَلَّمَ بِهِ " . وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أَيْ تَكَلَّمْنَا بِهِ عَرَبِيًّا وَأَنْزَلْنَاهُ عَرَبِيًّا . وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ السَّلَفُ كَإِسْحَاقِ بْنِ راهويه وَذَكَرَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } قُلْنَاهُ عَرَبِيًّا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ راهويه قَالَ : ذُكِرَ لَنَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } إنَّا قُلْنَاهُ وَوَصَفْنَاهُ . وَذَكَرَهُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ الأشجعي عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْلِهِ { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } بَيَّنَّاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا . وَالْإِنْسَانُ يُفَرِّقُ بَيْنَ تَكَلُّمِهِ وَتَحَرُّكِهِ فِي نَفْسِهِ وَبَيْنَ تَحْرِيكِهِ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ سُفْيَانُ بْنُ عيينة وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ بـ " كُنْ " . فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَ مَخْلُوقًا بِمَخْلُوقِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلُ . وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَخْلُقُ إلَّا بـ " كُنْ " فَلَوْ كَانَتْ " كُنْ " مَخْلُوقَةً لَزِمَ أَنْ لَا يَخْلُقَ شَيْئًا . وَهُوَ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ . فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا حَتَّى يَقُولَ " كُنْ " وَلَا يَقُولُ " كُنْ " حَتَّى يَخْلُقَهَا فَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا . وَهَذَا تَسَلْسُلٌ فِي أَصْلِ التَّأْثِيرِ وَالْفِعْلِ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : لَا يَفْعَلُ حَتَّى يَفْعَلَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ; وَلَا يَخْلُقُ حَتَّى يَخْلُقَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَخْلُقَ . وَأَمَّا إذَا قِيلَ : قَالَ " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " وَقَبْلَ " كُنْ " " كُنْ " فَهَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعِ . فَإِنَّ هَذَا تَسَلْسُلٌ فِي آحَادِ التَّأْثِيرِ لَا فِي جِنْسِهِ . كَمَا أَنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقُولُ " كُنْ " بَعْدَ " كُنْ " وَيَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ . فَالْمَخْلُوقَاتُ التَّامَّةُ يَخْلُقُهَا بِخَلْقِهِ وَخَلْقُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا الْفِعْلُ الْقَائِمُ بِهِ يَفْتَقِرُ إلَى فِعْلٍ آخَرَ يَكُونُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُودِهِ غَيْرُ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ ذَلِكَ كَافِيًا كَفَى فِي وُجُودِ الْمَخْلُوقِ فَلَمَّا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَلْقٍ فَهَذَا الْخَلْقُ أَمْرٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ فِعْلٌ قَائِمٌ بِهِ . فَالْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فِيهِ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ مُسْتَعْقِبًا لَهُ كَالْمُؤَثِّرِ التَّامِّ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ . وَالْمُتَكَلِّمُ مِنْ النَّاسِ إذَا تَكَلَّمَ فَوُجُودُ الْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ مَسْبُوقٌ بِفِعْلِ آخَرَ . فَلَا بُدَّ مِنْ حَرَكَةٍ تَسْتَعْقِبُ وُجُودَ الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ الْكَلَامُ . فَتِلْكَ الْحَرَكَةُ هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْكَلَامَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا وَهُوَ فِعْلٌ يَقُومُ بِالْفَاعِلِ . وَذَلِكَ الْجَعْلُ الْحَادِثُ حَدَثَ بِمُؤَثِّرِ تَامٍّ قَبْلَهُ أَيْضًا . وَذَاتُ الرَّبِّ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِذَلِكَ كُلِّهِ . فَهِيَ تَقْتَضِي الثَّانِي بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ لَا مَعَهُ . وَاقْتِضَاؤُهَا لِلثَّانِي فِعْلٌ يَقُومُ بِهَا بَعْدَ الْأَوَّلِ . وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِهَذَا التَّأْثِيرِ وَهَذَا التَّأْثِيرِ . ثُمَّ هَذَا التَّأْثِيرِ وَكُلُّ تَأْثِيرٍ هُوَ مُسَبَّبٌ عَمَّا قَبْلَهُ وَشَرْطٌ لِمَا بَعْدَهُ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ كَانَتْ " حَادِثَةً " . وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أُسَمِّي هَذَا " خَلْقًا " كَانَ نِزَاعُهُ لَفْظِيًّا وَقِيلَ لَهُ : الَّذِينَ قَالُوا " الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ " لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ هَذَا وَلَا رَدَّ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ هَذَا . إنَّمَا رَدُّوا قَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : كَلَامُ اللَّه مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بَائِنًا عَنْهُ . وَقَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ . قَالَ أَحْمَد : مِنْهُ بَدَأَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يَبْدَأْ مِنْ مَخْلُوقٍ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ . قَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . وَلِهَذَا لَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ خَلَقَ نُزُولَهُ وَاسْتِوَاءَهُ وَمَجِيئَهُ . وَكَذَلِكَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى وَنِدَاؤُهُ لَهُ نَادَاهُ وَكَلَّمَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالتَّكْلِيمُ فِعْلٌ قَامَ بِذَاتِهِ وَلَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَكَلَّمَ فَقَدْ فَعَلَ كَلَامًا وَأَحْدَثَ كَلَامًا وَلَكِنْ فِي نَفْسِهِ لَا مُبَايِنًا لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْكَلَامُ صِفَةَ فِعْلٍ وَهُوَ صِفَةُ ذَاتٍ أَيْضًا عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ : إنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ وَيُجْعَلُ الْفِعْلُ بَائِنًا عَنْهُ وَالْكَلَامُ بَائِنًا عَنْهُ . وَمَنْ قَالَ صِفَةَ ذَاتٍ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِلَا مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامُهُ قَائِمٌ بِهِ . فَهُوَ صِفَةُ ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ . وَلَكِنَّ الْفِعْلَ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْخَلْقُ بَلْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : الْجَعْلُ جعلان جَعْلٌ هُوَ خَلْقٌ وَجَعْلٌ لَيْسَ بِخَلْقِ . وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْأَفْعَالِ بِذَاتِهِ وَأَنَّهَا تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّيَةٌ كَالْخَلْقِ وَأَفْعَالٌ لَازِمَةٌ كَالتَّكَلُّمِ وَالنُّزُولِ . وَالسَّلَفُ يُثْبِتُونَ النَّوْعَيْنِ هَذَا وَغَيْرَهُ . وَأَمَّا جَعْلُ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ نَصَبَ مَفْعُولًا فَفِي " الْكَلَامِ " الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " التَّكَلُّمُ " مُتَّصِلًا بِالْمَفْعُولِ الَّذِي هُوَ " الْكَلَامُ " كِلَاهُمَا قَائِمٌ بِالْمُتَكَلِّمِ . وَلِهَذَا قَدْ يُرَادُ بِالْمَفْعُولِ الْمَصْدَرُ . إذَا قُلْت " قَالَ قَوْلًا حَسَنًا " فَقَدْ يُرَادُ بـ " الْقَوْلِ " الْمَصْدَرُ فَقَطْ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ " الْكَلَامُ " فَقَطْ فَيَكُونُ الْمَفْعُولَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَجْمُوعُ فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ وَمَصْدَرًا . وَكَذَلِكَ " الْقُرْآنُ " هُوَ فِي الْأَصْلِ " قَرَأَ قُرْآنًا " وَهُوَ الْفِعْلُ وَالْحَرَكَةُ ثُمَّ سُمِّيَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ " قُرْآنًا " . قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } وَقَالَ فِي الثَّانِي { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ } . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ " تَلَا تِلَاوَةً وَقَرَأَ قِرَاءَةً كَالْقُرْآنِ " لَكِنْ يُسَمَّى بِهِ الْكَلَامُ كَمَا يُسَمَّى بِالْقُرْآنِ . وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوَّ . وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ فَلَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ وَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَقْرُوءَ الْمَتْلُوَّ بَلْ تَكُونُ مُسْتَلْزِمَةً لَهُ . وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ فَلَا تَكُونُ هِيَ الْمَتْلُوَّ لِأَنَّ فِيهَا الْفِعْلَ وَلَا تَكُونُ مُبَايِنَةً مُغَايِرَةً لِلْمَتْلُوِّ لِأَنَّ الْمَتْلُوَّ جُزْؤُهَا . هَذَا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ وَالْمَقْرُوءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ مِثْلُ قِرَاءَةِ الرَّبِّ وَمَقْرُوئِهِ أَوْ قِرَاءَةِ الْعَبْدِ وَمَقْرُوئِهِ . وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْقِرَاءَةِ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ وَهِيَ حَرَكَتُهُ وَبِالْمَقْرُوءِ صِفَةُ الرَّبِّ فَلَا رَيْبَ أَنَّ حَرَكَةَ الْعَبْدِ لَيْسَتْ صِفَةَ الرَّبِّ . وَلَكِنْ هَذَا تَكَلُّفٌ . بَلْ قِرَاءَةُ الْعَبْدِ مَقْرُوءُهُ كَمَقْرُوئِهِ . وَقِرَاءَتُهُ لِلْقُرْآنِ إذَا عَنَى بِهَا نَفْسَ الْقُرْآنِ فَهِيَ مَقْرُوءُهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا حَرَكَتَهُ فَلَيْسَتْ مَقْرُوءَهُ . وَإِنْ عَنَى بِهَا الْأَمْرَانِ فَلَا يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْقِرَاءَةُ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُطْلِقُ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلِكُلِّ قَوْلٍ وَجْهٌ مِنْ الصَّوَابِ عِنْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْإِنْصَافِ . وَلَيْسَ فِيهَا قَوْلٌ يُحِيطُ بِالصَّوَابِ بَلْ كُلُّ قَوْلٍ فِيهِ صَوَابٌ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ خَطَأً مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَالْبُخَارِيُّ إنَّمَا يُثْبِتُ خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ حَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ . وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ . وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ . وَلَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ إنَّ لَفْظَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا نَهَى أَحْمَد عَنْ هَذَا وَهَذَا . وَاَلَّذِي قَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ لَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ وَلِكَوْنِهِمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الرَّدَّ عَلَى الجهمية . وَاَلَّذِي قَالَ أَحْمَد إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا صِفَةُ الْعِبَادِ لَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ إنَّهُ مَخْلُوقٌ . وَلَكِنَّ أَحْمَد كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقًا إذَا بُلِّغَ عَنْ اللَّهِ وَالْبُخَارِيَّ كَانَ مَقْصُودُهُ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتُهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَكِلَا الْقَصْدِينَ صَحِيحٌ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْمُنْحَرِفُونَ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْآخَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .