تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وقَوْله تَعَالَى { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى عَطِيَّةٍ كَثِيرَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ مُعْطٍ كَبِيرٍ غَنِيٍّ وَاسِعٍ . وَأَنَّهُ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ وَجُنْدَهُ مَعَهُ : صَدَّرَ الْآيَةَ ( بِإِنَّ الدَّالَّةَ عَلَى التَّأْكِيدِ وَتَحْقِيقِ الْخَبَرِ وَجَاءَ الْفِعْلُ بِلَفْظِ الْمَاضِي الدَّالِّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ وَاقِعٌ وَلَا يَدْفَعُهُ مَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَانِ بِأَنَّ إعْطَاءَ الْكَوْثَرِ سَابِقٌ فِي الْقَدْرِ الْأَوَّلِ حِينَ قُدِّرَتْ مَقَادِيرُ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَحَذَفَ مَوْصُوفَ الْكَوْثَرِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْعُمُومِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّعْيِينِ وَأَتَى بِالصِّفَةِ أَيْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } فَوَصَفَهُ بِالْكَوْثَرِ وَالْكَوْثَرُ الْمَعْرُوفُ إنَّمَا هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْكَوْثَرُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ وَإِذَا كَانَ أَقَلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ لَهُ فِيهَا مِثْلُ الدُّنْيَا عَشْرُ مَرَّاتٍ فَمَا الظَّنُّ بِمَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ فِيهَا فَالْكَوْثَرُ عَلَامَةٌ وَأَمَارَةٌ عَلَى تَعَدُّدِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ وَاتِّصَالِهَا وَزِيَادَتِهَا وَسُمُوِّ الْمَنْزِلَةِ وَارْتِفَاعِهَا وَأَنَّ ذَلِكَ النَّهْرَ وَهُوَ الْكَوْثَرُ أَعْظَمُ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَطْيَبُهَا مَاءً وَأَعْذَبُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا . وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى فِيهِ بِلَامِ التَّعْرِيفِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ الْمُسَمَّى وَتَمَامِهِ . كَقَوْلِهِ : زَيْدٌ الْعَالِمُ زَيْدٌ الشُّجَاعُ أَيْ لَا أَعْلَمُ مِنْهُ وَلَا أَشْجَعُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } . دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ كَامِلًا مُوَفَّرًا وَإِنْ نَالَ مِنْهُ بَعْضُ أُمَّتِهِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي نَالَهُ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ . وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ مَعَ أَنَّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الْمُتَّبَعِ لَهُ شَيْءٌ فَفِيهِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِيهِ فِي الْجَنَّةِ بِقَدْرِ أُجُورِ أُمَّتِهِ كُلِّهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ فَإِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي هِدَايَتِهِمْ وَنَجَاتِهِمْ فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ اتِّبَاعُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ وَأَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَيُكْثِرَ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ صَوْمًا وَصَلَاةً وَصَدَقَةً وَطِهَارَةً لِيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَحْظُورَاتِ فَاتَ الرَّسُولَ مِثْلُ أَجْرِ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ فَإِنْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ مَعَ تَرْكِ الْمَأْمُورِ قَوِيَ وِزْرُهُ وَصَعُبَتْ نَجَاتُهُ لِارْتِكَابِهِ الْمَحْظُورَ وَتَرْكِهِ الْمَأْمُورَ وَإِنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَارْتَكَبَ الْمَحْظُورَ دَخَلَ فِيمَنْ يَشْفَعُ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهِ نَالَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمَأْمُورِ وَإِلَى اللَّهِ إيَابُ الْخَلْقِ وَعَلَيْهِ حِسَابُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِمْ : أَيْ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ فَإِنَّ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ وَالْمُحْسِنُ إنَّمَا أَحْسَنَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لَهُ وَالْمُسِيءُ لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا عُذْرَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْكَوْثَرَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ مِنْ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا غَيْرُ مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ مِنْ الْأَجْرِ الَّذِي هُوَ مِثْلُ أُجُورِ أُمَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَكُلُّ مَنْ قَرَأَ أَوْ عَلِمَ أَوْ عَمِلَ صَالِحًا أَوْ عَلَّمَ غَيْرَهُ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ حَجَّ أَوْ جَاهَدَ أَوْ رَابَطَ أَوْ تَابَ أَوْ صَبَرَ أَوْ تَوَكَّلَ أَوْ نَالَ مَقَامًا مِنْ الْمَقَامَاتِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ خَشْيَةٍ وَخَوْفٍ وَمَعْرِفَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ ذَلِكَ الْعَامِلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ الدَّالَّتَانِ عَلَى الْقُرْبِ وَالتَّوَاضُعِ وَالِافْتِقَارِ وَحُسْنِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى عُدَّتِهِ وَأَمْرِهِ وَفَضْلِهِ وَخُلْفِهِ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالنُّفْرَةِ وَأَهْلِ الْغِنَى عَنْ اللَّهِ الَّذِينَ لَا حَاجَةَ فِي صَلَاتِهِمْ إلَى رَبِّهِمْ يَسْأَلُونَهُ إيَّاهَا وَاَلَّذِينَ لَا يَنْحَرُونَ لَهُ خَوْفًا مِنْ الْفَقْرِ وَتَرْكًا لِإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ وَإِعْطَائِهِمْ وَسُوءِ الظَّنِّ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا . فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَالنُّسُكُ هِيَ الذَّبِيحَةُ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الصَّلَاةَ وَالنُّسُك هُمَا أَجَلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ أَتَى فِيهِمَا بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّبَبِ ; لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالنَّحْرُ سَبَبٌ لِلْقِيَامِ بِشُكْرِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ مِنْ الْكَوْثَرِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ فَشُكْرُ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَعِبَادَتُهُ أَعْظَمُهَا هَاتَانِ الْعِبَادَتَانِ بَلْ الصَّلَاةُ نِهَايَةُ الْعِبَادَاتِ وَغَايَةُ الْغَايَاتِ . كَأَنَّهُ يَقُولُ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } الْخَيْرَ الْكَثِيرَ وَأَنْعَمْنَا عَلَيْك بِذَلِكَ لِأَجْلِ قِيَامِك لَنَا بِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ شُكْرًا لِإِنْعَامِنَا عَلَيْك وَهُمَا السَّبَبُ لِإِنْعَامِنَا عَلَيْك بِذَلِكَ فَقُمْ لَنَا بِهِمَا فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالنَّحْرَ مَحْفُوفَانِ بِإِنْعَامِ قَبْلِهِمَا وَإِنْعَامٍ بَعْدِهِمَا وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ النَّحْرُ وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ وَمَا يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَمَا عَرَفَهُ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ الْحَيَّةِ وَأَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ وَمَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي نَحْرِهِ مِنْ إيثَارِ اللَّهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَالْوُثُوقِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَمْرٌ عَجِيبٌ إذَا قَارَنَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَقَدْ امْتَثَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ رَبِّهِ فَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ لِرَبِّهِ كَثِيرَ النَّحْرِ حَتَّى نَحَرَ بِيَدِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَكَانَ يَنْحَرُ فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا . وَفِي قَوْلِهِ : { إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } إشَارَةٌ إلَى أَنَّك لَا تَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي آخِرِ " طَه " " وَالْحِجْرِ " وَغَيْرِهِمَا وَفِيهَا الْإِشَارَةُ إلَى تَرْكِ الِالْتِفَات إلَى النَّاسِ وَمَا يَنَالُك مِنْهُمْ بَلْ صَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ . وَفِيهَا التَّعْرِيضُ بِحَالِ الْأَبْتَرِ الشَّانِئِ الَّذِي صَلَاتُهُ وَنُسُكُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَفِي قَوْلِهِ : { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أَنْوَاعٌ مِنْ التَّأْكِيدِ : أَحَدُهَا تَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِإِنَّ . الثَّانِي : الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ الدَّالِّ عَلَى قُوَّةِ الْإِسْنَادِ وَالِاخْتِصَاصِ . الثَّالِثُ : مَجِيءُ الْخَبَرِ عَلَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ . دُونَ اسْمِ الْمَفْعُولِ . الرَّابِعُ : تَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذَا الْمَوْصُوفِ لَهُ بِتَمَامِهِ . وَأَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَنَظِيرُ هَذَا فِي التَّأْكِيدِ قَوْلُهُ : { لَا تَخَفْ إنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } . وَمِنْ فَوَائِدِهَا اللَّطِيفَةِ الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ رَبَّك مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ وَأَنْتَ جَدِيرٌ بِأَنَّ تَعْبُدَهُ وَتَنْحَرَ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .