تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ : فِي تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْقَصْرِ وَسَبَبِ إتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ بِمِنَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا بَعْضُ أَقْوَالِ النَّاسِ وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا أَحْمَد رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : إنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعًا لِأَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بَعْدَ الْحَجِّ وَرَجَّحَ الطحاوي هَذَا الْوَجْهَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَذَكَرَ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : إنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعًا لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَأَحَبَّ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ . قَالَ الطحاوي : فَهَذَا يُخْبِرُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُعْلِمَ الْأَعْرَابَ بِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا . فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ ذَلِكَ نَوَى الْإِقَامَةَ فَصَارَ مُقِيمًا فَرْضُهُ أَرْبَعٌ فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا . لِلسَّبَبِ الَّذِي حَكَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُسَافِرٌ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ قَالَ : وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا بِالصَّلَاةِ وَأَحْكَامِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْهَلَ مِنْهُمْ بِهَا وَبِحُكْمِهَا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَهُمْ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَئِذٍ أَحْدَثُ عَهْدًا إذْ كَانُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعِلْمِ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَكِنَّهُ قَصَرَهَا لِيُصَلُّوا مَعَهُ صَلَاةَ السَّفَرِ عَلَى حُكْمِهَا وَيُعَلِّمَهُمْ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ عَلَى حُكْمِهَا : كَانَ عُثْمَانُ أَحْرَى أَلَّا يُتِمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ . قَالَ الطحاوي : وَقَدْ قَالَ آخَرُونَ : إنَّمَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَا يَقْصُرُهَا إلَّا مَنْ حَلَّ وَارْتَحَلَ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قتادة قَالَ : قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان : إنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَحَلَّ وَارْتَحَلَ وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ . وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة : عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَا لَا يُصَلِّيَن الرَّكْعَتَيْنِ جَابٍ وَلَا تان وَلَا تَاجِرٌ إنَّمَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ مَنْ كَانَ مَعَهُ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّ أَيُّوبَ السختياني أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَبِي قلابة الجرفي عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْمُهَلَّبِ قَالَ : كَتَبَ عُثْمَانُ : أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ إمَّا لِتِجَارَةِ وَإِمَّا لِجِبَايَةِ وَإِمَّا لِجَرِيمٍ ثُمَّ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَهَذَانِ الْإِسْنَادَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ . قَالَ الطحاوي : قَالُوا : وَكَانَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ أَنْ لَا يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إلَّا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ وَمَنْ كَانَ شَاخِصًا فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي مِصْرٍ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ . قَالُوا : وَلِهَذَا أَتَمَّ عُثْمَانُ بِمِنَى لِأَنَّ أَهْلَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَثُرُوا حَتَّى صَارَتْ مِصْرًا يَسْتَغْنِي مَنْ حَلَّ بِهِ عَنْ حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ . قَالَ الطحاوي : وَهَذَا الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّ مِنًى لَمْ تَصِرْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ أَعْمَرُ مِنْ مَكَّةَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى بِهَا أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ كَذَلِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهَا عُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِ مَنْ حَلَّ بِهَا إلَى حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ : فَمَا دُونَهَا مِنْ الْمَوَاطِنِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . قَالَ فَقَدْ انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا لِفَسَادِهَا عَنْ عُثْمَانَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ مِنْهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ غَيْرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَكَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِهَا أَتَمَّهَا وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ إتْمَامَهُ كَانَ لِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَا فِيهِ وَعَلَى مَا كَشَفْنَا مِنْ مَعْنَاهُ . قُلْت : الطحاوي مَقْصُودُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ مُوَافِقًا لِأَصْلِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ; فَإِنَّ عُثْمَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُهَاجِرُونَ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْمُقَامُ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ إذَا قَدِمُوا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا } وَلِهَذَا لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ عُمَرَ بِهَا أَمَرَ أَنْ يُدْفَنَ بِالْحِلِّ وَلَا يُدْفَنَ بِهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَادَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ كَانَ مَرِضَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَافَ سَعْدٌ أَنْ يَمُوتَ بِمَكَّةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَخْلُفُ عَنْ هِجْرَتِي ؟ فَبَشَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ بِهَا . وَقَالَ : إنَّك لَنْ تَمُوتَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ } . وَمِنْ الْمَعْرُوفِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اعْتَمَرَ يُنِيخُ رَاحِلَتَهُ فَيَعْتَمِرُ ثُمَّ يَرْكَبُ عَلَيْهَا رَاجِعًا فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ ؟ ثُمَّ هَذَا مِنْ الْكَذِبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّ عُثْمَانَ مَا أَقَامَ بِمَكَّةَ قَطُّ بَلْ كَانَ إذَا حَجَّ يَرْجِعُ إلَى الْمَدِينَةِ . وَقَدْ حَمَلَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ فِعْلَ عُثْمَانَ عَلَى قَوْلِهِمْ فَقَالُوا : لَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِتْمَامِ وَالْقَصْرِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزًا وَفَعَلَ عُثْمَانُ هَذَا لِأَنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ وَالْإِتْمَامَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ حَمَلُوا فِعْلَ عَائِشَةَ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَوْهُ مِنْ جِهَتِهَا وَذَكَرَ البيهقي قَوْلَ مَنْ قَالَ : أَتَمَّهَا لِأَجْلِ الْأَعْرَابِ وَرَوَاهُ مِنْ سُنَنِ أَبِي داود ثِنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثِنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنَى مِنْ أَجْلِ الْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ كَثُرُوا عَامَيْنِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ أَرْبَعًا لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ . وَرَوَى البيهقي مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ الْقَاضِي : ثِنَا يَعْقُوبُ عَنْ حميد ثِنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حميد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حميد عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان : أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنَى ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ السُّنَّةَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ صَاحِبَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَدَثَ الْعَامَ مِنْ النَّاسِ فَخِفْت أَنْ تَعِيبُوا قَالَ البيهقي : وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ هَذَا وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ رُخْصَةً فَرَأَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا كَمَا رَأَتْهُ عَائِشَةُ . قُلْت : وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ عُدُولَ عُثْمَانَ عَمَّا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ مَعَ أَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَعَ مَا عُلِمَ مِنْ حِلْمِ عُثْمَانَ وَاخْتِيَارِهِ لَهُ وَلِرَعِيَّتِهِ أَسْهَلُ الْأُمُورِ وَبُعْدُهُ عَنْ التَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ : لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَمْرَ الْأَثْقَلَ الْأَشَدَّ مَعَ تَرْكِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ وَمَعَ رَغْبَةِ عُثْمَانَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَيْهِ بَعْدَهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ هَذَا الْمَفْضُولِ جَائِزًا إنْ لَمْ يَرَ أَنَّ فِي فِعْلِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً بَعَثَتْهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَهَبْ أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَكَيْفَ يُلْزِمُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ فَإِنَّهُمْ إذَا ائْتَمُّوا بِهِ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَيُلْزِمُ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِعْلِ الْأَثْقَلِ مَعَ خِلَافِ السُّنَّةِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ جَائِزًا وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ وَقَدْ وَافَقَ عُثْمَانَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أُمَرَاؤُهُمْ وَغَيْرُ أُمَرَائِهِمْ وَكَانُوا يُتِمُّونَ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ لَا يَخْتَارُونَ ذَلِكَ كَمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مخرمة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ كَانَا جَمِيعًا فِي سَفَرٍ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُقْصِرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ وَكَانَا يُتِمَّانِ الصَّلَاةَ وَيَصُومَانِ فَقِيلَ لِسَعْدِ : نَرَاك تُقْصِرُ مِنْ الصَّلَاةِ وَتُفْطِرُ وَيُتِمَّانِ فَقَالَ سَعْدٌ : نَحْنُ أَعْلَمُ . وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ قَالَ كُنَّا مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشَّامِ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَنُصَلِّي نَحْنُ أَرْبَعًا فَنَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ سَعْدٌ : نَحْنُ أَعْلَمُ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ : جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتْمَمْنَا لِأَنْفُسِنَا . قُلْت : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ فَلِهَذَا أَتَمُّوا خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي وَرَاءَ الْإِمَامِ بِمِنَى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . قَالَ البيهقي : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رَأَى الْقَصْرَ رُخْصَةً فَرَأَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا كَمَا رَأَتْهُ عَائِشَةُ . قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ اخْتِيَارِهِمْ الْقَصْرَ ثُمَّ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السبيعي عَنْ أَبِي لَيْلَى قَالَ أَقْبَلَ سَلْمَانُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالُوا : تَقَدَّمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : إنَّا لَا نَؤُمُّكُمْ وَلَا نَنْكِحُ نِسَاءَكُمْ ; إنَّ اللَّهَ هَدَانَا بِكُمْ قَالَ : فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا قَالَ : فَقَالَ سَلْمَانُ مَا لَنَا وَلَا لِمُرَبَّعَةٍ إنَّمَا كَانَ يَكْفِينَا نِصْفُ الْمُرَبَّعَةِ وَنَحْنُ إلَى الرُّخْصَةِ أَحْوَجُ . قَالَ : فَبَيَّنَ سَلْمَانُ بِمَشْهَدِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ . قُلْت : هَذِهِ الْقَضِيَّةُ كَانَتْ فِي خِلَافَةِ وَسَلْمَانُ قَدْ أَنْكَرَ التَّرْبِيعَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْأَئِمَّةُ يُرَبِّعُونَ فِي السَّفَرِ وَقَوْلُهُ : وَنَحْنُ إلَى الرُّخْصَةِ أَحْوَجُ . يُبَيِّنُ أَنَّهَا رُخْصَةٌ وَهِيَ رُخْصَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا كَمَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ رُخْصَةٌ وَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا وَفِطْرَ الْمَرِيضِ رُخْصَةٌ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَالطَّوَافُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ وَاَلَّذِي صَلَّى بِسَلْمَانَ أَرْبَعًا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَصْرَ لِمِثْلِهِ ; إمَّا لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ قَصْرًا عِنْدَهُ وَإِمَّا لِأَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ; فَإِنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَا يَرَى الْقَصْرَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ وَكَانَ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ نِزَاعٌ فِي جِنْسِ سَفَرِ الْقَصْرِ وَفِي قَدْرِهِ . فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا حَالُ الْإِمَامِ وَمُتَابَعَةُ سَلْمَانَ لَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مُتَأَوِّلًا اُتُّبِعَ عَلَيْهِ كَمَا إذَا قَنَتَ مُتَأَوِّلًا أَوْ كَبَّرَ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا مُتَأَوِّلًا . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى خَمْسًا وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ ظَانِّينَ أَنَّ الصَّلَاةَ زِيدَ فِيهَا فَلَمَّا سَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ إذَا قَامَ إلَى خَامِسَةٍ هَلْ يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ أَوْ يُفَارِقُهُ وَيُسَلِّمُ أَوْ يُفَارِقُهُ وَيَنْتَظِرُهُ أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ وَهِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد . أَوْ رَأَى أَنَّ التَّرْبِيعَ مَكْرُوهٌ وَتَابَعَ الْإِمَامَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ وَيَجُوزُ فِعْلُ الْمَكْرُوهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْبِيعَ الْمُسَافِرِ لَيْسَ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ أَرْبَعًا ; فَإِنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ لَصَلَّى خَلْفَهُ أَرْبَعًا لِأَجْلِ مُتَابَعَةِ إمَامِهِ ; فَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُفْعَلُ فِي حَالٍ رَكْعَتَيْنِ وَفِي حَالٍ أَرْبَعًا بِخِلَافِ الْفَجْرِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ مُتَابَعَةَ الْمُسَافِرِ لِلْمُقِيمِ لِأَنَّ كِلَاهُمَا اتَّبَعَ إمَامَهُ . وَهَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ التَّرْبِيعِ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَقَدْ سَأَلَهُ هَلْ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ؟ فَقَالَ لَا يُعْجِبُنِي وَلَكِنَّ السَّفَرَ رَكْعَتَانِ . وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ المروذي أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا وَإِنْ شَاءَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . وَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْقَصْرُ ; بَلْ نُقِلَ عَنْهُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْإِجْزَاءِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَرَاهِيَةُ التَّرْبِيعِ وَأَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلِهَذَا يَذْكُرُ فِي مَذْهَبِهِ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ أَرْبَعًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَوَقُّفُ أَحْمَد عَنْ الْقَوْلِ بِالْإِجْزَاءِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِهِ فِي مَذْهَبِهِ وَذَلِكَ أَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ زَادَ زِيَادَةً مَكْرُوهَةً وَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ وَالزِّيَادَةُ إذَا كَانَتْ سَهْوًا لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ خَطَأً إذَا اُعْتُقِدَ جَوَازُهَا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْتَقِدُهَا جَائِزَةً . وَلَا نَصَّ بِتَحْرِيمِهَا ; بَلْ الْأَدِلَّةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ ; لَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَالصَّلَاةِ بِدُونِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَمَعَ الِالْتِفَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ . وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى تَمَامِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إتْمَامُ عُثْمَانَ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ حَالُهُ عَلَى مَا كَانَ يَقُولُ لَا عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ . فَقَوْلُهُ : إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ إمَّا لِتِجَارَةِ وَإِمَّا لِجِبَايَةِ وَإِمَّا لِجَرِيمِ : يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ . وَقَوْلُهُ : بَيَّنَ فِيهِ مَذْهَبَهُ وَهُوَ : أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ نَازِلًا فِي قَرْيَةٍ أَوْ مِصْرٍ إلَّا إذَا كَانَ خَائِفًا بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَيْ مُسَافِرًا وَهُوَ الْحَامِلُ لِلزَّادِ وَالْمَزَادِ أَيْ : لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَزَادُ وِعَاءُ الْمَاءِ . يَقُولُ إذَا كَانَ نَازِلًا مَكَانًا فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ كَانَ مُتَرَفِّهًا بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ فَلَا يَقْصُرُ ; لِأَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا جُعِلَ لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ الْإِنْسَانَ وَهَذَا لَا تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فَالْقَصْرُ عِنْدَهُ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَحْمِلُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَلِلْخَائِفِ . وَلَمَّا عَمُرَتْ مِنًى وَصَارَ بِهَا زَادٌ وَمَزَادٌ لَمْ يَرَ الْقَصْرَ بِهَا لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْحَاجِّ وَقَوْلُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ : وَلَكِنْ حَدَثَ الْعَامُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا حَدَثَ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الْحَادِثَ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَتْ الْجُهَّالُ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ فَقَدْ خَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا تُفْعَلُ فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ أَرْبَعًا وَهَذَا عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ فَيَكُونُ هَذَا أَيْضًا مُوَافِقًا فَإِنَّهُ إنَّمَا تَأَهَّلَ بِمَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ وَهُوَ لَا يَرَى الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ نَازِلًا بِأَهْلِهِ فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ مَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ عُذْرِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا . وَأَمَّا مَا اعْتَذَرَ بِهِ الطحاوي مِنْ أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَرَ مِنْ مِنًى فِي زَمَنِ عُثْمَانَ . فَجَوَابُ عُثْمَانَ لَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ثُمَّ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ : كَانَ خَائِفًا مِنْ الْعَدُوِّ وَعُثْمَانُ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ خَائِفًا وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُهُ لِلْمُسَافِرِ وَلِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ . وَأَمَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَازِلًا بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ نَازِلًا بِالْأَبْطُحِ خَارِجَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَكُونُوا نَازِلِينَ بِدَارِ إقَامَةٍ وَلَا بِمَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَقَدْ قَالَ أُسَامَةُ : أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا ؟ هَلْ تَنْزِلُ بِدَارِك بِمَكَّةَ ؟ فَقَالَ " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ ؟ نَنْزِلُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَنْزِلُ بِالْأَبْطُحِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ وَمِنًى . وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ عَنْ نَفْسِهَا : أَنَّهَا إنَّمَا تُتِمُّ لِأَنَّ الْقَصْرَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَأَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا . وَالسَّلَفُ وَالْخَلَفُ تَنَازَعُوا فِي سَفَرِ الْقَصْرِ : فِي جِنْسِهِ وَفِي قَدْرِهِ : فَكَانَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَحَدَ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا . وَلِلنَّاسِ فِي جِنْسِ سَفَرِ الْقَصْرِ أَقْوَالٌ أُخَرُ مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ : مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ . فَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : اعْتَلَّ عُثْمَانُ وَهُوَ بِمِنَى فَأَتَى عَلِيٌّ فَقِيلَ لَهُ : صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ : إنْ شِئْتُمْ صَلَّيْت بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَالُوا لَا إلَّا صَلَاةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - يَعْنُونَ أَرْبَعًا - فَأَبَى . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْأَرْبَعِ فِي السَّفَرِ عَلَى أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَرْبَعًا وَهَذَا مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ . ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا جَلَسَ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَالْمَفْعُولُ بَعْدَ ذَلِكَ كَصَلَاةٍ مُنْفَصِلَةٍ قَدْ تَطَوَّعَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ كَمَا لَوْ صَلَّى عِنْدَهُمْ الْفَجْرَ أَرْبَعًا . وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا كَمَنْ صَلَّى فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وروينا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْإِتْمَامَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ شَاءَ فَقَالَ : لَا الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ حَتْمَانِ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُمَا . وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا فَرَضَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ . وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ أَقَرَّ مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا فَإِنَّهُ كَذِبٌ . وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ فَتَأْوِيلٌ مِنْهُمَا : أَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَأَوَّلَ غَيْرُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ ثُمَّ قَدْ خَالَفَهُمَا أَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } فَأَمَرَ بِقَبُولِهَا وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَمَنْ قَالَ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ فَعُمْدَتُهُمْ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قَالُوا : وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحِ : لَا فِي الْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا مِنْ السُّنَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّنَ لِعَائِشَةَ إتْمَامَهَا } وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُثْمَانَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنَى بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ فَأَتَمُّوا خَلْفَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ . أَمَّا الْآيَةُ فَنَقُولُ : قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ الْقَصْرُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْتَجَّ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا فَضِيلَةَ فِيهِ ثُمَّ مَا كَانَ عُذْرُهُمْ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا هُوَ عُذْرٌ لِغَيْرِهِمْ عَنْ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي السَّعْيِ { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَالطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ هُوَ السَّعْيُ الْمَشْرُوعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ . وَأَيْضًا فَالْقَصْرُ وَإِنْ كَانَ رُخْصَةً اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ فَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَذَا إنْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْعَدَدِ فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ قَصْرُ الْعَدَدِ فَقَطْ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِالْخَوْفِ غَيْرَ مُفِيدٍ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْأَعْمَالِ ; فَإِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ تَقْصُرُ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفُ يُبِيحُ ذَلِكَ . وَهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا وَالْآيَةُ أَفَادَتْ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ قَصْرَ الْعَدَدِ وَقَصْرَ الْعَمَلِ جَمِيعًا ; وَلِهَذَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ وَالْخَوْفِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفُ أُبِيحَ الْقَصْرُ الْجَامِعُ لِهَذَا وَلِهَذَا وَإِذَا انْفَرَدَ السَّفَرُ فَإِنَّمَا يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ وَإِذَا انْفَرَدَ الْخَوْفُ فَإِنَّمَا يُفِيدُ قَصْرَ الْعَمَلِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْفَرْضَ فِي الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ رَكْعَةٌ - كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنُ حَزْمٍ - فَمُرَادُهُ إذَا كَانَ خَوْفٌ وَسَفَرٌ . فَيَكُونُ السَّفَرُ وَالْخَوْفُ قَدْ أَفَادَا الْقَصْرَ إلَى رَكْعَةٍ كَمَا رَوَى أَبُو داود الطيالسي : ثِنَا الْمَسْعُودِيُّ - هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ قَالَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَقْصَرُهُمَا ؟ قَالَ جَابِرٌ : لَا . فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَيْسَتَا بِقَصْرٍ إنَّمَا الْقَصْرُ رَكْعَةٌ عِنْدَ الْقِتَالِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : ورويناه أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ وَجَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٌ : وَبِهَذِهِ الْآيَةِ قُلْنَا إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ إنْ شَاءَ رَكْعَةً وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ { لَا جُنَاحَ } لَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ وَصَلَّاهَا النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً رَكْعَةً فَقَطْ وَمَرَّةً رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِيَارِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ . وَأَمَّا صَلَاةُ عُثْمَانَ فَقَدْ عَرَفَ إنْكَارَ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ ; بَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَإِنْ انْفَرَدَ وَيَقُولُ الْخِلَافُ شَرٌّ . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا انْفَرَدَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ صَلَاةَ السَّفَرِ أَرْبَعًا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ وَمُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا وَإِذَا فَعَلَهَا الْإِمَامُ اُتُّبِعَ فِيهَا وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَيْسَتْ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِهَذَا { قَرَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي السُّنَّةِ الَّتِي نَقَلَهَا بَيْنَ الْأَرْبَعِ فَقَالَ : صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ : تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } . رَوَاهُ أَحْمَد والنسائي مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ . وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ زِيَادِ ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زُبَيْدٍ اليامي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْفَجْرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَارَةً وَيُصَلِّي أَرْبَعًا أُخْرَى وَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ إنَّمَا يُصَلِّي أَرْبَعًا لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا رَكْعَةً عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا } وَإِذَا حَصَلَتْ شُرُوطُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ . فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ خَطَبَ وَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا لَكَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسُوا كَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعًا ; وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْجُمُعَةِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَلَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ أَرْبَعًا . فَإِنْ قِيلَ : الْجُمُعَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَلِهَذَا كَانَ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ فِيهَا خِلَافُ حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ ؟ وَهَذَا الْفَرْقُ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . قِيلَ لَهُمْ : اشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ شَرْطٌ مَعَ الْقُدْرَةِ وَحِينَئِذٍ الْمُسَافِرُ لَمَّا ائْتَمَّ بِالْمُقِيمِ دَخَلَ فِي الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ فَلَزِمَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ قِيلَ : فَلِلْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً . قِيلَ : وَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً وَيُصَلُّوا أَرْبَعًا . وَصَلَاةُ الْعِيدِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعًا : رَكْعَتَيْنِ لِلسُّنَّةِ وَرَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى الصَّحْرَاءِ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ تُفْعَلُ تَارَةً اثْنَتَيْنِ وَتَارَةً أَرْبَعًا كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ آثَارُ الصَّحَابَةِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَيُصَلُّونَ خَلْفَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مَعَ عُثْمَانَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَمَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ أَرْبَعًا لَمَا استجازوا أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا كَمَا لَا يَسْتَجِيزُ مُسْلِمٌ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ أَرْبَعًا . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ لَمَّا قَعَدُوا قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَدَّوْا الْفَرْضَ وَالْبَاقِيَ تَطَوُّعٌ . قِيلَ لَهُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ قَالَ نَوَيْنَا التَّطَوُّعَ بِالرَّكْعَتَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ ; بَلْ قَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْإِقَامَةِ السُّنَّةَ وَقَالَ { الصُّبْحُ أَرْبَعًا } وَقَدْ صَلَّى قَبْلَ الْإِمَامِ فَكَيْفَ إذَا وَصَلَ الصَّلَاةَ بِصَلَاةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي ال�