تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ فُتْيَا أَفْتَى بِهَا الشِّيحُ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ نَحْوَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَنْكَرَهَا بَعْضُ النَّاسِ وَشَنَّعَ بِهَا جَمَاعَةٌ عِنْدَ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ وَذُكِرَتْ بِعِبَارَاتِ شَنِيعَةٍ : فَفَهِمَ مِنْهَا جَمَاعَةٌ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَانْضَمَّ إلَى الْإِنْكَارِ وَالشَّنَاعَةِ وَتَغَيُّرِ الْأَلْفَاظِ أُمُورٌ أَوْجَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُكَاتَبَةَ السُّلْطَانِ - سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ بِمِصْرِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَمَعَ قُضَاةَ بَلَدِهِ ثُمَّ اقْتَضَى الرَّأْيُ حَبْسَهُ فَحُبِسَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ بِكِتَابِ وَرَدَ سَابِعَ شَعْبَانَ الْمُبَارَكِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ . وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَحْضُرْ الشَّيْخُ الْمَذْكُورُ بِمَجْلِسِ حُكْمٍ وَلَا وَقَفَ عَلَى خَطِّهِ الَّذِي أَنْكَرَ وَلَا ادَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءِ . فَكَتَبَ بَعْضُ الْغُرَبَاءِ مِنْ بَلَدِهِ هَذِهِ الْفُتْيَا وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا بَعْضَ عُلَمَاءِ بَغْدَادَ فَكَتَبُوا عَلَيْهَا بَعْدَ تَأَمُّلِهَا وَقِرَاءَةِ أَلْفَاظِهَا . وَسُئِلَ بَعْضُ مَالِكِيَّةِ دِمَشْقَ عَنْهَا فَكَتَبُوا كَذَلِكَ . وَبَلَغَنَا أَنَّ بِمِصْرِ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهَا فَوَافَقَ . وَنَبْدَأُ الْآنَ بِذِكْرِ السُّؤَالِ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِ أَهْلُ بَغْدَادَ وَبِذِكْرِ الْفُتْيَا وَجَوَابِ الشَّيْخِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا وَجَوَابِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُ . وَهَذِهِ صُورَةُ السُّؤَالِ وَالْأَجْوِبَةِ . الْمَسْئُولُ مِنْ إنْعَامِ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْهُدَاةِ الْفُضَلَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَهُدَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ وَأَدَامَ بِهِمْ الْهِدَايَةَ : أَنْ يَنْعَمُوا وَيَتَأَمَّلُوا الْفَتْوَى وَجَوَابَهَا الْمُتَّصِلَ بِهَذَا السُّؤَالِ الْمَنْسُوخِ عَقِبَهُ وَصُورَةُ ذَلِكَ : مَا يَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِمْ الْمُسْلِمِينَ : فِي رَجُلٍ نَوَى السَّفَرَ إلَى " زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ " مِثْلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الزِّيَارَةُ شَرْعِيَّةٌ أَمْ لَا ؟ ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } { وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ رَحِمَكُمْ اللَّهُ .
123
فَأَجَابَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَمَّا مَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُتَقَدِّمِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ وَأَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ وَطَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ السَّفَرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ لَا يُقْصَرُ فِيهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُقْصَرُ وَهَذَا يَقُولُهُ مَنْ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَيَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مِمَّنْ يُجَوِّزُ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ عبدوس الحراني وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قدامة المقدسي . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ . لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زُورُوا الْقُبُورَ } . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَقَوْلِهِ { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } رَوَاهُ الدارقطني وَابْنُ ماجه . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ : { مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي } فَهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } . فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَحْتَجَّ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ الدارقطني وَنَحْوِهِ . وَقَدْ احْتَجَّ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ مَسْجِدَ قباء . وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } بِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ . فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَشُدَّ الرَّحْلَ لِيُصَلِّيَ بِمَسْجِدِ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ يَعْتَكِفَ فِيهِ أَوْ يُسَافِرَ إلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ . لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ وَيَأْتِيَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ . وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِصَلَاةِ أَوْ اعْتِكَافٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهَذَا النَّذْرِ عِنْد مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَحْمَد ; وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ . أَمَّا الْجُمْهُورُ فَيُوجِبُونَ الْوَفَاءَ بِكُلِّ طَاعَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ . وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ طَاعَةٌ فَلِهَذَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ السَّفَرَ إلَيْهِ إذَا نَذَرَهُ حَتَّى نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِ قباء ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ مَسْجِدَ قباء يُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهُ لِمَنْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَدِّ رَحْلٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قباء لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ كَعُمْرَةِ } . قَالُوا : وَلِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ عِبَادَةً وَفَعَلَهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي " الْإِبَانَةِ الصُّغْرَى " مِنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ حُجَّةِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي ; لِأَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ قباء لَمْ تَكُنْ بِشَدِّ رَحْلٍ وَهُوَ يُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَقَوْلُهُ : بِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي مَضْمُونُهُ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ . يُجَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ . فَإِذًا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ . وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ إلَيْهَا لِغَرَضِ مُبَاحٍ فَكَذَا جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَقْتَضِي النَّهْيَ وَالنَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحَادِيثَ ; بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ الْمُعْتَمَدَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِشَيْءِ مِنْهَا بَلْ مَالِكٌ - إمَامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - كَرِهَ أَنْ يَقُولُ الرَّجُلُ : زُرْت قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَوْ مَشْرُوعًا أَوْ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْرَهْهُ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد أَعْلَمُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ : لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إلَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ أَبُو داود فِي سُنَنِهِ . وَكَذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَفِي سُنَنِ أَبِي داود عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَأَى رَجُلًا يَخْتَلِفُ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو عِنْدَهُ فَقَالَ : يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا . وَصَلُّوا عَلَيَّ . فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ حَيْثُمَا كُنْتُمْ تَبْلُغُنِي } فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ مِنْهُ إلَّا سَوَاءٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَهُمْ دَفَنُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خِلَافَ مَا اعْتَادُوهُ مِنْ الدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ ; لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا . وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ - لَمَّا كَانَتْ الْحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَسْجِدِ إلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إلَيْهِ لَا لِصَلَاةِ هُنَاكَ وَلَا تَمَسُّحٍ بِالْقَبْرِ وَلَا دُعَاءٍ هُنَاكَ . بَلْ هَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ . وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوا الدُّعَاءَ دَعَوْا مُسْتَقْبَلِي الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقَبْرَ .