تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَفِي " الْجُمْلَةِ " مَا يُبَيِّنُ نِعَمَ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيَّ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَكْثَرُ عَدَدًا مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَأَكْثَرُ مَا يَنْقُصُ عَلَيَّ الْجَمَاعَةُ فَأَنَا أُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَنَالُوا مِنْ اللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَأَنْ يُفْتَحَ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مَا يَصِلُونَ بِهِ إلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَأُعَرِّفُ أَكْثَرَ النَّاسِ قَدْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ لَكِنْ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَيَسْتَدِلُّ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ الْكَبِيرَ وَأَنَا أَعْرِفُ أَحْوَالَ النَّاسِ وَالْأَجْنَاسِ وَاللَّذَّاتِ . وَأَيْنَ الدُّرُّ مِنْ الْبَعْرِ ؟ وَأَيْنَ الفالوذج مِنْ الدِّبْسِ ؟ وَأَيْنَ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْبَهِيمَةِ أَوْ الْبَهَائِمِ ؟ لَكِنْ أَعْرِفُ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وَحُسْنَ اخْتِيَارِهِ وَلُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ - عِلْمًا وَعَمَلًا بِحَسَبِ طَاقَتِهِ لِيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ وَيَكُونَ مَقْصُودُهُ أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلَا يَكُونُ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَمُعَادَاتُهُ وَمَدْحُهُ وَذَمُّهُ إلَّا لِلَّهِ - لَا لِشَخْصِ مُعَيَّنٍ . وَالْهَادِي الْمُطْلَقُ الَّذِي يَهْدِي إلَى كُلِّ خَيْرٍ - وَكُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إلَى هِدَايَتِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ - هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَفْضَلُ أُمَّتِهِ أَفْضَلُهُمْ مُتَابَعَةً لَهُ وَهَذَا يَكُونُ بِالْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَالْجِهَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : أَوَّلُهَا : أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَثَانِيهَا : لَا يَرْتَابُ بَعْدَ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ مُوقِنًا ثَابِتًا ; وَالْيَقِينُ يُخَالِفُ الرَّيْبَ وَالرَّيْبُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يَكُونُ شَكًّا لِنَقْصِ الْعِلْمِ . وَنَوْعٌ يَكُونُ اضْطِرَابًا فِي الْقَلْبِ . وَكِلَاهُمَا لِنَقْصِ الْحَالِ الْإِيمَانِيِّ ; فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ كُلُّ مَكَانٍ يَكُونُ لَهُ عِلْمٌ يَعْلَمُهُ . وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَوْ بَصِيرَتُهُ وَثَبَاتُهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ وَسَكِينَتُهُ وَتَوَكُّلُهُ وَإِخْلَاصُهُ وَإِنَابَتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ : يُقَالُ : رَابَنِي كَذَا وَكَذَا يَرِيبُنِي أَيْ حَرَّكَ قَلْبِي وَمِنْهُ الْحَدِيثُ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فَقَالَ : لَا يَرِيبُهُ أَحَدٌ } أَيْ : لَا يُحَرِّكُهُ أَحَدٌ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ ; فَإِنَّ الصَّادِقَ مَنْ لَا يَقْلَقُ قَلْبُهُ وَالْكَاذِبَ يَقْلَقُ قَلْبُهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَكٌّ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّيْبَ أَعَمُّ مِنْ الشَّكِّ . وَلِهَذَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : " { اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِك مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِك } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ . وَفِي الْمُسْنَدِ والترمذي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " { سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطَ خَيْرٌ مِنْ الْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَاسْأَلُوهَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } وَالْعَرَبُ تَقُولُ : مَاءٌ يَقِنٌ إذَا كَانَ سَاكِنًا لَا يَتَحَرَّكُ . فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ مُطَمْئِنٌ لَا يَكُونُ فِيهِ رَيْبٌ . هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " { أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُمْ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَك عَنْ فُلَانٍ ؟ فَوَاَللَّهِ إنِّي أَرَاهُ مُؤْمِنًا قَالَ : أَوْ مُسْلِمًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ : إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ } . وَلِهَذَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : الْإِسْلَامُ دَائِرَةٌ كَبِيرَةٌ وَالْإِيمَانُ دَائِرَةٌ فِي وَسَطِهَا ; فَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ : كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ قَالُوا : أَسْلَمْنَا وَنَحْوَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قُلُوبِهِمْ يُثَابُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } وَهْم لَيْسُوا بِكُفَّارِ وَلَا مُنَافِقِينَ : بَلْ لَمْ يَبْلُغُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَكَمَالَهُ فَنُفِيَ عَنْهُمْ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِيمَانِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَالْمَقْصُودُ إخْبَارُ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْنَا فَوْقَ مَا كَانَتْ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ فِي زِيَادَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ خِدْمَةُ الْجَمَاعَةِ بِاللِّقَاءِ فَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ; قِيَامًا بِبَعْضِ الْوَاجِبِ مِنْ حَقِّهِمْ ; وَتَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي مُعَامَلَتِهِ فِيهِمْ وَاَلَّذِي آمُرُ بِهِ كُلَّ شَخْصٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ وَيَعْمَلَ لِلَّهِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَيَقْصِدَ بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعَلْيَاءَ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَكُونَ دُعَاؤُهُ وَغَيْرِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ; وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ ; وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّك وَعَدُوِّهِمْ ; وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ ; وَأَخْرِجْهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ; وَجَنِّبْهُمْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ; وَبَارِكْ لَهُمْ فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ مَا أَبْقَيْتهمْ . وَاجْعَلْهُمْ شَاكِرِينَ لِنِعَمِك مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْك ; قَابِلِيهَا وَأَتْمِمْهَا عَلَيْهِمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ . اللَّهُمَّ اُنْصُرْ كِتَابَك وَدِينَك وَعِبَادَك الْمُؤْمِنِينَ ; وَأَظْهِرْ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثْت بِهِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ . اللَّهُمَّ عَذِّبْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِك وَيُبَدِّلُونَ دِينَك وَيُعَادُونَ الْمُؤْمِنِينَ . اللَّهُمَّ خَالِفْ كَلِمَتَهُمْ وَشَتِّتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ; وَاجْعَلْ تَدْمِيرَهُمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ ; وَأَدِرْ عَلَيْهِمْ دَائِرَةَ السَّوْءِ . اللَّهُمَّ أَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَك الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ . اللَّهُمَّ مُجْرِيَ السَّحَابِ وَمُنْزِلَ الْكِتَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ . رَبَّنَا أَعِنَّا وَلَا تُعِنْ عَلَيْنَا . وَانْصُرْنَا وَلَا تَنْصُرْ عَلَيْنَا وَامْكُرْ لَنَا وَلَا تَمْكُرْ عَلَيْنَا ; وَاهْدِنَا وَيَسِّرْ الْهُدَى لَنَا ; وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا . رَبَّنَا اجْعَلْنَا لَك شَاكِرِينَ مُطَاوِعِينَ مُخْبِتِينَ ; أَوَّاهِينَ مُنِيبِينَ . رَبَّنَا تَقَبَّلْ تَوْبَتَنَا ; وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا ; وَاهْدِ قُلُوبَنَا ; وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا وَاسْلُلْ سَخَائِمَ صُدُورِنَا } . وَهَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ إفْرَادٍ وَصَحَّحَهُ وَهُوَ مِنْ أَجْمَعِ الْأَدْعِيَةِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُ شَرْحٌ عَظِيمٌ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ نَاصِرِ السُّنَّةِ وَخَاذِلِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْغِرَّةِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .