تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْقُرْبِ وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ وَلَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يُكَلِّمُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُحَاسِبُهُمْ لَا يَشْغَلُهُ هَذَا عَنْ هَذَا . قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : كَيْفَ يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلُّهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ قَالَ : كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيَخْلُو بِهِ رَبُّهُ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الدُّنْيَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَيُجِيبُ السَّائِلِينَ ; مَعَ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَفُنُونِ الْحَاجَاتِ . وَالْوَاحِدُ مِنَّا قَدْ يَكُونُ لَهُ قُوَّةُ سَمْعٍ يَسْمَعُ كَلَامَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُقْرِئِينَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ عِدَّةٍ ; لَكِنْ لَا يَكُونُ إلَّا عَدَدًا قَلِيلًا قَرِيبًا مِنْهُ وَالْوَاحِدُ مِنَّا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ قُرْبًا وَدُنُوًّا وَمَيْلًا إلَى بَعْضِ النَّاسِ الْحَاضِرِينَ وَالْغَائِبِينَ ; دُونَ بَعْضٍ وَيَجِدُ تَفَاوُتَ ذَلِكَ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا وَعَطَاؤُهُ الْحَاجَاتِ كُلَّهَا . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ قُرْبَهُ مَنْ جِنْسِ حَرَكَةِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ إذَا مَالَ إلَى جِهَةٍ انْصَرَفَ عَنْ الْأُخْرَى وَهُوَ يَجِدُ عَمَلَ رُوحِهِ يُخَالِفُ عَمَلَ بَدَنِهِ فَيَجِدُ نَفْسَهُ تَقْرُبُ مِنْ نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ; مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ قُرْبُهَا إلَى هَذَا عَنْ قُرْبِهَا إلَى هَذَا . وَكَذَلِكَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ خُضُوعًا لِبَعْضِ النَّاسِ وَمَحَبَّةً وَيَجِدُ فِيهَا نَأْيًا وَبُعْدًا عَنْ آخَرِينَ وَارْتِفَاعًا وَإِقْبَالًا عَلَى قَوْمٍ وَإِعْرَاضًا عَنْ قَوْمٍ غَيْرَ مَا هُوَ قَائِمٌ بِالْبَدَنِ . فَفِي الْجُمْلَةِ : مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ مِنْ عَابِدِيهِ وَدَاعِيهِ هُوَ مُقَيَّدٌ مَخْصُوصٌ ; لَا مُطْلَقٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَبَطَلَ قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ كَمَا قَالَ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ . وَأَمَّا قُرْبُهُ مِنْ عَابِدِيهِ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } . وَقَوْلُهُ : { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْته عَلَيْهِ } وَقَالَ : { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا } فَهَذَا قُرْبُهُ إلَى عَبْدِهِ وَقُرْبُ عَبْدِهِ إلَيْهِ ; وَدُنُوُّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَا يَخْرُجُ عَنْ الْقِسْمَيْنِ ; فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ } فَدُنُوُّهُ لِدُعَائِهِمْ . وَأَمَّا نُزُولُهُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ ; فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَدْعُوهُ وَيَسْأَلُهُ وَيَسْتَغْفِرُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ يَحْصُلُ فِيهِ مَنْ قُرْبِ الرَّبِّ إلَى عَابِدِيهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مِنْ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَيَكُونُ بِسَبَبِ الزَّمَانِ كَوْنُهُ يَصْلُحُ لِهَذَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِيهِ . وَنَظِيرُهُ " سَاعَةُ الْإِجَابَةِ " يَوْمَ الْجُمُعَةِ رُوِيَ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ مِنْ حِينِ يَصْعَدُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ ; وَلِهَذَا تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ فَمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمْعَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَعْتَقِدْ وُجُوبَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الْجُمُعَةَ ثُمَّ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ وَكَذَلِكَ الْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ فَيَكُونُ دُعَاؤُهُمْ كَدُعَاءِ مَنْ شَهِدَهَا . وَقَدْ تَكُونُ الرَّحْمَةُ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَى الْحُجَّاجِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَعَلَى مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ تَنْتَشِرُ بَرَكَاتُهَا إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ فَيَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ إجَابَةِ الدُّعَاءِ وَحَظٌّ مَعَ مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ كَمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَذَا مَوْجُودٌ لِمَنْ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ فَيَحْصُلُ لِقَلْبِهِ تَقَرُّبٌ إلَى اللَّهِ وَيَوَدُّ لَوْ كَانَ مَعَهُمْ . وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ الَّذِي لَا يَرَى الْحَجَّ بِرًّا وَلَا الْجُمُعَةَ فَرْضًا وَبِرًّا بَلْ هُوَ مُعْرِضٌ عَنْ مَحَبَّةِ ذَلِكَ وَإِرَادَتِهِ فَهَذَا قَلْبُهُ بَعِيدٌ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْهُمْ . وَرُوِيَ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهَا آخِرُ النَّهَارِ فَيَكُونُ سَبَبُهَا الْوَقْتَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ فِي اللَّيْلِ سَاعَةً يُسْتَجَابُ الدُّعَاءُ فِيهَا كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ كُلُّ لَيْلَةٍ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ } .