تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْقِتَالُ فِي " الْفِتْنَةِ " . قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ - وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ - فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدَرٌ وَكَذَلِكَ " قِتَالُ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ " حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ إذَا قَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ فَأَصَابُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ نُفُوسًا وَأَمْوَالًا لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ " الْمُرْتَدُّونَ " إذَا صَارَ لَهُمْ شَوْكَةٌ فَقَتَلُوا الْمُسْلِمِينَ وَأَصَابُوا مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُمْ بَاطِلًا كَمَا أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ مَضَتْ بِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا قَتَلُوا بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ وَأَتْلَفُوا أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا أَصَابُوهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَأَصْحَابُ تِلْكَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ كَانُوا يُجَاهِدُونَ قَدْ اشْتَرَى اللَّهُ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ فَعِوَضُ مَا أُخِذَ مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ فَهُوَ فِي الْأَعْرَاضِ أَوْلَى فَمَنْ كَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ : بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَبَيَانِ الدَّيْنِ وَتَبْلِيغِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَيْرِ ; وَبَيَانِ الْأَقْوَالِ الْمُخَالِفَةِ لِذَلِكَ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ بِالْيَدِ كَقِتَالِ الْكُفَّارِ فَإِذَا أُوذِيَ عَلَى جِهَادِهِ بِيَدِ غَيْرِهِ أَوْ لِسَانِهِ فَأَجْرُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ لَا يَطْلُبُ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ عِوَضَ مَظْلِمَتِهِ بَلْ هَذَا الظَّالِمُ إنْ تَابَ وَقَبِلَ الْحَقَّ الَّذِي جُوهِدَ عَلَيْهِ فَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . وَإِنْ لَمْ يَتُبْ بَلْ أَصَرَّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَقُّ فِي ذُنُوبِهِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ " أَيْضًا " لِلْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ تَبَعًا لِحَقِّ اللَّهِ وَهَذَا إذَا عُوقِبَ لِحَقِّ اللَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا لِأَجْلِ الْقِصَاصِ فَقَطْ . وَالْكُفَّارُ إذَا اعْتَدَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِمْ فَلِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُمَثِّلُوا بِهِمْ كَمَا مَثَّلُوا وَالصَّبْرُ أَفْضَلُ وَإِذَا مَثَّلُوا كَانَ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ وَالدُّعَاءُ عَلَى جِنْسِ الظَّالِمِينَ الْكُفَّارِ مَشْرُوعٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَشُرِعَ الْقُنُوتُ وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالدُّعَاءُ عَلَى الْكَافِرِينَ . وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى مُعَيَّنِينَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْعَنُ فُلَانًا وَفُلَانًا فَهَذَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } . كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فِيمَا كَتَبْته فِي قَلْعَةِ مِصْرَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَعْلَمُ إنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَهْلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ; بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ إذَا دُعِيَ عَلَيْهِمْ بِمَا فِيهِ عِزُّ الدِّينِ وَذُلُّ عَدُوِّهِ وَقَمْعُهُمْ كَانَ هَذَا دُعَاءً بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ ; فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ وَعُلُوَّ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَذُلَّ الْكُفَّارِ فَهَذَا دُعَاءٌ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَأَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَاهُ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَقَدْ كَانَ يَفْعَلُ ثُمَّ نَهَى عَنْهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَتُوبُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَذِّبُهُ . وَدُعَاءُ نُوحٍ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بِالْهَلَاكِ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ يَقُولُ : { إنِّي دَعَوْت عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أومر بِهَا } فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا فَلَمْ يُؤْمَرْ بِهَا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَدْعُوَ إلَّا بِدُعَاءِ مَأْمُورٍ بِهِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ إلَّا بِمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَهَذَا لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ لَكَانَ شَرْعًا لِنُوحِ ثُمَّ نَنْظُرُ فِي شَرْعِنَا هَلْ نَسَخَهُ أَمْ لَا ؟ . وَكَذَلِكَ دُعَاءُ مُوسَى بِقَوْلِهِ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } إذَا كَانَ دُعَاءً مَأْمُورًا بِهِ بَقِيَ النَّظَرُ فِي مُوَافَقَةِ شَرْعِنَا لَهُ وَالْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي شَرْعِنَا أَنَّ الدُّعَاءَ إنْ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فَهُوَ حَسَنٌ يُثَابُ عَلَيْهِ الدَّاعِي وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَالْعُدْوَانِ فِي الدِّمَاءِ فَهُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَهُوَ يُنْقِصُ مَرْتَبَةَ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فَلَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .