تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَ ( أَيْضًا فَمِنْ تَمَامِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بُغْضُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . فَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَأَسَّوْا بِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ حَيْثُ أَبْدَوْا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ لِمَنْ أَشْرَكَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَحْدَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ مَنْ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً وَهَؤُلَاءِ سَلَكُوا طَرِيقَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا سَلَكَ أَهْلُ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ طَرِيقَ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَقَعَ هَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتٍ وَهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالَاتٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنْ قِيلَ : صَاحِبُ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ قَدْ شَهِدَ أَنَّ الرَّبَّ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَدْ يَكُونُ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْحِكْمَةَ فَيَقُولُ : إنَّمَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِحِكْمَةِ وَهُوَ يُحِبُّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ وَيَرْضَاهَا وَإِنَّمَا خَلَقَ مَا يَكْرَهُهُ لِمَا يُحِبُّهُ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ قَالُوا : الْمَرِيضُ يُرِيدُ الدَّوَاءَ وَلَا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا يُحِبُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ وَهُوَ الْعَافِيَةُ وَزَوَالُ الْمَرَضِ . فَالرَّبُّ تَعَالَى خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ مُرِيدٌ لِكُلِّ مَا خَلَقَ وَلِمَا أَحَبَّهُ مِنْ الْحِكْمَةِ ; وَإِنْ كَانَ لَا يُحِبُّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ ; لَكِنَّهُ يُحِبُّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا ; فَالْعَارِفُ إذَا شَهِدَ هَذَا أَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يُخْلَقَ لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ وَتَكُونُ الْأَشْيَاءُ مُرَادَةً مَحْبُوبَةً لَهُ كَمَا هِيَ لِلْحَقِّ ; فَهُوَ وَإِنْ كَرِهَ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ لَكِنْ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْهُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ وَإِرَادَةٍ فَهُوَ مُرَادٌ مَحْبُوبٌ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ لَا بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ . قِيلَ : مَنْ شَهِدَ هَذَا الْمَشْهَدَ فَهُوَ يَسْتَحْسِنُ مَا حَسَّنَهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ ; وَيَسْتَقْبِحُ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَسَخِطَهُ وَلَكِنْ إذَا كَانَ اللَّهُ خَلَقَ هَذَا الْمَكْرُوهَ لِحِكْمَةِ يُحِبُّهَا ; فَالْعَارِفُ هُوَ أَيْضًا يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ كَمَا كَرِهَهُ اللَّهُ ; وَلَكِنْ يُحِبُّ الْحِكْمَةَ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا فَيَكُونُ حُبُّهُ وَعِلْمُهُ مُوَافِقًا لِعِلْمِ اللَّهِ وَحُبِّهِ لَا مُخَالِفًا . وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ; فَهُوَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَكِيمٌ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيُرِيدُهُ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَفْعَلُهُ . فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْفِعْلَ الْفُلَانِيَّ وَالشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ مُتَّصِفٌ بِمَا هُوَ مَذْمُومٌ لِأَجْلِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يُبْغِضَهُ وَيَكْرَهَهُ ; وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي وُجُودِهِ حُصُولَ حِكْمَةٍ مَحْبُوبَةٍ مَحْمُودَةٍ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُ وَيُرِيدُهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْمَحْبُوبَةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى حُصُولِهِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ هَذَا " الْوَسَطَ " يُحَبُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَحْبُوبٍ لِذَاتِهِ وَيُبْغَضُ بِاعْتِبَارِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ كَانَ هَذَا حَسَنًا كَمَا تَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ مِنْ وَجْهٍ وَيُحِبُّهُ مِنْ وَجْهٍ وَكَذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ تُحَبُّ مِنْ وَجْهٍ وَتُبْغَضُ مِنْ وَجْهٍ . وَ ( أَيْضًا يُحِبُّ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُضِرًّا بِالشَّخْصِ مَكْرُوهًا لَهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لِحِكْمَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَ الْعَبْدُ أَنَّ لَهُ حِكْمَةً وَرَأَى هَذَا مَعَ الْجَمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمَخْلُوقَاتُ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ; بَلْ لَا بُدَّ مِنْ شُهُودِ هَذَا الْفَرْقِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهَذَا الشُّهُودُ مُطَابِقٌ لِعِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَحْبُوبَاتُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَقَالَ فِي الَّذِينَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . فَلَا بُدَّ لِمُحِبِّ اللَّهِ مِنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; بَلْ هَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } فَهَذَا حُبُّ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ .