تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ . فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ وَقَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْعَمَلِ مَا نُطِيقُ : الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ ; وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْك هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَك رَبَّنَا وَإِلَيْك الْمَصِيرُ فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي أَثَرِهَا : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ : نَعَمْ { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } قَالَ : نَعَمْ { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قَالَ : نَعَمْ . { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قَالَ : نَعَمْ . } وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ وَقَالَ : قَدْ فَعَلْت قَدْ فَعَلْت بَدَلَ نَعَمْ . وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْحُسْنِ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سيرين وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ والسدي وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ وَنُقِلَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً بَلْ هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْمُحَاسَبَةِ عَلَى الْعُمُومِ فَيَأْخُذُ مِنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحُسْنِ وَاخْتَارَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَقَالُوا : هَذَا خَبَرٌ وَالْأَخْبَارُ لَا تُنْسَخُ . و " فَصْلُ الْخِطَابِ " : أَنَّ لَفْظَ " النُّسَخِ " مُجْمَلٌ فَالسَّلَفُ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِيمَا يُظَنُّ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَيْهِ مِنْ عُمُومٍ أَوْ إطْلَاقٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } نُسِخَ بِقَوْلِهِ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَلَيْسَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَنَاقُضٌ لَكِنْ قَدْ يَفْهَمُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ : { حَقَّ تُقَاتِهِ } و { حَقَّ جِهَادِهِ } الْأَمْرَ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُهُ الْعَبْدُ فَيَنْسَخُ مَا فَهِمَهُ هَذَا كَمَا يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسْخُ ذَلِكَ نَسْخَ مَا أَنْزَلَهُ بَلْ نَسْخُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ إمَّا مِنْ الْأَنْفُسِ أَوْ مِنْ الْأَسْمَاعِ أَوْ مِنْ اللِّسَانِ . وَكَذَلِكَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَقَعُ فِي النُّفُوسِ مِنْ فَهَمِّ مَعْنًى وَإِنْ كَانَتْ الْآيَةُ لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ لَا عَلَى أَنَّهُ يُعَاقِبُ عَلَى كُلِّ مَا فِي النُّفُوسِ وَقَوْلَهُ : { لِمَنْ يَشَاءُ } يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ إلَيْهِ فِي الْمَغْفِرَةِ وَالْعَذَابِ لَا إلَى غَيْرِهِ . وَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ كَمَا قَدْ يَظُنُّهُ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ النَّاس حَتَّى يُجَوِّزُوا أَنَّهُ يُعَذِّبُ عَلَى الْأَمْرِ الْيَسِيرِ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَعَ كَثْرَةِ الْحَسَنَاتِ وَعِظَمِهَا وَأَنَّ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَهُمَا حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ يَغْفِرُ لِأَحَدِهِمَا مَعَ كَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِ وَقِلَّةِ حَسَنَاتِهِ وَيُعَاقِبُ الْآخَر عَلَى السَّيِّئَةِ الْوَاحِدَةِ مَعَ كَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ وَيَجْعَلُ دَرَجَةَ ذَاكَ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ دَرَجَةِ الثَّانِي . وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ وَأَنْ يُكَلِّفَهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ وَيُعَذِّبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِ وَالصَّحَابَةُ إنَّمَا هَرَبُوا وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فَقَالُوا : لَا طَاقَةَ لَنَا بِهَذَا ; فَإِنَّهُ إنْ كَلَّفَنَا مَا لَا نُطِيقُ عَذَّبَنَا فَنَسَخَ اللَّهُ هَذَا الظَّنَّ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ يُكَلِّفُ الْعَبْدَ مَا لَا يُطِيقُهُ وَيُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ; بَلْ أَقْوَالُهُمْ تُنَاقِضُ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ سُفْيَان بْنَ عيينة سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } قَالَ : إلَّا يُسْرَهَا وَلَمْ يُكَلِّفْهَا طَاقَتَهَا . قَالَ البغوي : وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ ; لِأَنَّ الْوُسْعَ مَا دُونَ الطَّاقَةِ وَإِنَّمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي " مَسَائِلِ الْقَدَرِ " وَسَلَكَ هَؤُلَاءِ مَسْلَكَ الْجَبْرِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ وَصَارُوا فِيهِ عَلَى مَرَاتِبَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أَيْ لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ . قَالَ : فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعْقِلُ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إلَيْك وَهُوَ مُطِيقٌ لِذَلِكَ ; لَكِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ قَالَ : وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } . قُلْت لَيْسَتْ هَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَحْدَهُمْ ; بَلْ هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ . و " الِاسْتِطَاعَةُ فِي الشَّرْعِ " هِيَ مَا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ لِلْمُكَلَّفِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ كَاسْتِطَاعَةِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ فَمَتَى كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَرَضِ أَوْ يُؤَخِّرُ الْبُرْءَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا ; لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُضِرَّةً رَاجِحَةً ; بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لِبُغْضِ الْحَقِّ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ : إمَّا حَسَدًا لِقَائِلِهِ وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَرَيْنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي عَلَى الْقُلُوبِ وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا فَلَوْ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ إلَّا بِمَا يَهْوُونَهُ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ السَّلَفَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا إلَّا فِي حَالِ فِعْلِهِ وَأَنَّهُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا فَهَذَا لَمْ يَأْتِ الشَّرْعُ بِهِ قَطُّ وَلَا اللُّغَةُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ ; بَلْ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ الْفِعْلَ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لَهُ وَالْمَعْلُومُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يُرِيدُهُ لَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ فَاَللَّهُ يَعْلَمُ مِمَّنْ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ وَالْقِيَامَ وَالصِّيَامَ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَطِيعٌ يَفْعَلُ مُسْتَطَاعَهُ فَالْمَعْلُومُ هُوَ عَدَمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْعَبْدِ ; لَا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ كَالْمَقْدُورَاتِ لَهُ الَّتِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهَا لِعَدَمِ إرَادَتِهِ لَهَا لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا وَالْعَبْدُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُدْرَةِ ; وَلِهَذَا يُعَذِّبُهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ لَا بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لَمْ يَأْمُرْهُ وَلَا يُعَذِّبْهُ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ . وَإِذَا قِيلَ : فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْفِعْلِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ عِلْمِ اللَّهِ . قِيلَ : هَذِهِ مَغْلَطَةٌ ; وَذَلِكَ أَنَّ مُجَرَّدَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يَظُنُّ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ لَكَانَ الْمَعْلُومُ وُقُوعَهُ ; لَا عَدَمَ وُقُوعِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ ; بَلْ إنْ وَقَعَ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ عِلْمَ اللَّهِ إلَّا بِمَا يَظْهَرُ وَعِلْمُ اللَّهِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ شَيْءٌ يَسْتَلْزِمُ تَغْيِيرَ الْعِلْمِ بَلْ أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ كَانَ هُوَ الْمَعْلُومُ وَالْعَبْدُ الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءِ يُغَيِّرُ الْعِلْمَ ; بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَقَعْ وَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَقَعُ لَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ . وَإِذَا قِيلَ : فَمَعَ عَدَمِ وُقُوعِهِ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ فَلَوْ قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى وُقُوعِهِ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِلْمِ . قِيلَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ الْعَبْدُ يَقْدِرُ عَلَى وُقُوعِهِ وَهُوَ لَمْ يُوقِعْهُ وَلَوْ أَوْقَعَهُ لَمْ يَكُنْ الْمَعْلُومُ إلَّا وُقُوعَهُ فَمَقْدُورُ الْعَبْدِ إذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ الْمَعْلُومُ إلَّا وُقُوعَهُ فَإِذَا وَقَعَ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا أَنَّهُ سَيَقَعُ وَإِذَا لَمْ يَقَعْ كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ فَإِذَا فُرِضَ وُقُوعُهُ مَعَ انْتِفَاءٍ لَازِمِ الْوُقُوعِ صَارَ مُحَالًا مِنْ جِهَةِ إثْبَاتِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ وَكُلُّ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هِيَ مُحَالٌ . وَمِمَّا يَلْزَمُ هَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ قَادِرًا عَلَى شَيْءٍ إلَّا الرَّبُّ ; فَإِنَّ الْأُمُورَ نَوْعَانِ : " نَوْعٌ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ و " نَوْعٌ " عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ . ف " الْأَوَّلُ " لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ . و " الثَّانِي " لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ . فَمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَقَعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقَعُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَشَاؤُهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ وَأُولَئِكَ " الْمُجْبِرَةُ " فِي جَانِبٍ وَهَؤُلَاءِ فِي جَانِبٍ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ . وَمَا يَفْعَلُهُ الْعِبَادُ بِاخْتِيَارِهِمْ يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ بِقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَمَا لَمْ يَفْعَلُوهُ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لِعَدَمِ إرَادَتِهِمْ لَهُ لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ وَلِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لِلرَّبِّ وَلَيْسَ هَذَا مَقْدُورًا بَيْنَ قَادِرِينَ بَلْ الْقَادِرُ الْمَخْلُوقُ هُوَ وَقُدْرَتُهُ وَمَقْدُورُهُ مَقْدُورٌ لِلْخَالِقِ مَخْلُوقٌ لَهُ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } حَقٌّ وَالنَّسْخُ فِيهَا هُوَ رَفْعُ فَهْمِ مَنْ فَهِمَ مِنْ الْآيَةِ مَا لَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ نَفْسًا مَا لَا تَسَعُهُ فَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ وَمَنْ فَهِمَ مِنْهَا أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالْعَذَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَعَدْلٍ فَقَدْ نَسَخَ فَهْمَهُ وَظَنَّهُ فَقَوْلُهُ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } رَدٌّ لِلْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } رَدٌّ لِلثَّانِي وَقَوْلُهُ : { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } كَقَوْلِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّهُ يَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } الْآيَةَ . وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحَاسِبُ بِمَا فِي النُّفُوسِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ : زِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا . و " الْمُحَاسَبَةُ " تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ يُحْسَبُ وَيُحْصَى . وَأَمَّا " الْمَغْفِرَةُ وَالْعَذَابُ " فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ الْكُفْرُ وَبُغْضُ الرَّسُولِ وَبُغْضُ مَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ - وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا الَّذِينَ لَمْ يَرْتَابُوا - عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَا تَتَكَلَّمُ بِهِ أَوْ تَعْمَلُ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الَّذِي يَهِمُّ بِالْحَسَنَةِ تُكْتَبُ لَهُ وَاَلَّذِي يَهِمُّ بِالسَّيِّئَةِ لَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا } إذَا كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ عَادَتِهِ عَمَلُ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكُ السَّيِّئَاتِ فَإِنْ تَرَكَ السَّيِّئَةَ لِلَّهِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِذَا أَبْدَى الْعَبْدُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشَّرِّ بِقَوْلِ أَوْ فِعْلٍ صَارَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الذَّمَّ وَالْعِقَابَ وَإِنْ أَخْفَى ذَلِكَ وَكَانَ مَا أَخْفَاهُ مُتَضَمِّنًا لِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالرَّسُولِ مِثْلُ الشَّكِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَوْ بُغْضِهِ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى مَا أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَرَكَ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا نَجَاةَ وَلَا سَعَادَةَ إلَّا بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ وَسْوَاسًا وَالْعَبْدُ يَكْرَهُهُ فَهَذَا صَرِيحُ الْإِيمَانِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الصَّحِيحِ . وَهَذِهِ " الْوَسْوَسَةُ " هِيَ مِمَّا يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا كَرِهَهُ الْعَبْدُ وَنَفَاهُ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ وَقَدْ خَافَ مَنْ خَافَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } . و " الْوُسْعُ " فِعْلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ مَا يَسَعُهُ لَا يُكَلِّفُهَا مَا تُضِيقُ عَنْهُ فَلَا تَسَعُهُ وَهُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ الْمُسْتَطَاعُ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ " الْوُسْعَ " اسْمٌ لِمَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; بَلْ مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ هُوَ مُبَاحٌ لَهُ وَمَا لَمْ يَسَعْهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فَمَا يَسَعُهُ قَدْ يُؤْمَرُ بِهِ وَأَمَّا مَا لَا يَسَعُهُ فَهُوَ الْمُبَاحُ يُقَالُ : يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَلَا يَسَعُنِي أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَالْمُبَاحُ هُوَ الْوَاسِعُ وَمِنْهُ بَاحَةُ الدَّارِ فَالْمُبَاحُ لَك أَنْ تَفْعَلَهُ هُوَ يَسَعُك وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُ وَمِنْهُ يُقَالُ : رَحِمَ اللَّهُ مِنْ وَسِعَتْهُ السُّنَّةُ فَلَمْ يَتَعَدَّهَا إلَى الْبِدْعَةِ : أَيْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا أَبَاحَهُ مَا يَكْفِي الْمُؤْمِنَ الْمُتَّبِعَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُخْرَجَ عَنْهُ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَأَمَّا مَا كُلِّفْت بِهِ فَهُوَ مَا أُمِرْت بِفِعْلِهِ وَذَلِكَ يَكُونُ مِمَّا تَسَعُهُ أَنْتَ لَا مِمَّا يَسَعُك هُوَ وَقَدْ يُقَالُ : لَا يَسَعُنِي تَرْكُهُ ; بَلْ تَرْكُهُ مُحَرَّمٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا } وَهُوَ أَوَّلُ الْحَرَامِ وَقَالَ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا } وَهِيَ آخِرُ الْحَلَالِ وَقَالَ : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } وَهَذَا التَّغْيِيرُ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنْ يُبْدُوا ذَلِكَ فَيَبْقَى قَوْلًا وَعَمَلًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الذَّمُّ وَالْعِقَابُ . و ( الثَّانِي أَنْ يُغَيِّرُوا الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِضِدِّهِ مِنْ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالْبُغْضِ وَيَعْزِمُوا عَلَى تَرْكِ فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَيَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ هُنَا عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ وَهُنَاكَ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورِ . وَكَذَلِكَ مَا فِي النَّفْسِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصَ لَهُ وَالشُّكْرَ لَهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا وَاجِبَةٌ فَإِذَا خُلِّيَ الْقَلْبُ عَنْهَا وَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ . وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَزُولُ شُبَهٌ كَثِيرَةٌ وَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ النُّصُوصِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ يُعَاقَبُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ; بَلْ أَضْمَرَتْ الْكُفْرَ قَالَ تَعَالَى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } وَقَالَ : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } وَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } فَالْمُنَافِقُ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نِفَاقِهِ وَمَا أَضْمَرَهُ كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان : مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } وَهُوَ جَوَابُ قِسْمٍ مَحْذُوفٍ أَيْ : وَاَللَّهِ لَتَعْرِفَهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ لَا بُدَّ مِنْهَا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } خَبَرًا مِنْ اللَّهِ ; لَيْسَ فِيهَا إثْبَاتٌ إيمَانٍ لِلْعَبْدِ بِخِلَافِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُمَا قَوْلُهُ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلَى آخِرِهَا . وَكَلَامُ السَّلَفِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا جَمَعَ الْخَلَائِقَ يَقُولُ : إنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَخْفَيْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِمَّا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلَائِكَتِي فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } يَقُولُ : يُخْبِرُكُمْ بِهِ اللَّهُ وَأَمَّا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالرَّيْبِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ التَّكْذِيبِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَذَلِكَ كَكِتْمَانِ الْعَيْبِ الَّذِي يَجِبُ إظْهَارُهُ وَكِتْمَانِ الْعِلْمِ الَّذِي يَجِبُ إظْهَارُهُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ الشَّكُّ وَالْيَقِينُ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ تَرْكِ الْوَاجِبِ ; لِأَنَّ الْيَقِينَ وَاجِبٌ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ : مَا أَعْلَنْت فَإِنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُك بِهِ وَأَمَّا مَا أَخْفَيْت فَمَا عُجِّلَتْ لَك بِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا . وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِمَّا يُعَاقَبُ فِيهِ الْعَبْدُ بِالْغَمِّ كَمَا سُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ غَمٍّ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ قَالَ هُوَ ذَنْبٌ هَمَمْت بِهِ فِي سِرِّك وَلَمْ تَفْعَلْهُ فَجُزِيت هَمًّا بِهِ . فَالذُّنُوبُ لَهَا عُقُوبَاتٌ : السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ وَرُوِيَ عَنْهَا مَرْفُوعًا { قَالَتْ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } فَقَالَ يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ الْعَبْدَ مِمَّا يُصِيبُهُ مِنْ النَّكْبَةِ وَالْحُمَّى حَتَّى الشَّوْكَةِ وَالْبِضَاعَةِ يَضَعُهَا فِي كُمِّهِ فَيَفْقِدُهَا فَيَرُوعُ لَهَا فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنْ الْكِيرِ } . قُلْت : هَذَا الْمَرْفُوعُ هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بَيَانُ مَا يُعَاقَبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا ; وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا أَخْفَاهُ يُعَاقَبُ بِهِ بَلْ فِيهِ أَنَّهُ إذَا عُوقِبَ عَلَى مَا أَخْفَاهُ عُوقِبَ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ . وَقَدْ رَوَى الروياني فِي مَسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ الْعُقُوبَةَ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } . فَهَؤُلَاءِ كَانُوا فِي ظَنِّهِمْ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ظَنًّا يُنَافِي الْيَقِينَ بِالْقَدَرِ وَظَنًّا يُنَافِي بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ فَكَانَ عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْيَقِينِ وَوُجُودِ الشَّكِّ وَظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ نِيَّاتُ الْأَعْمَالِ فَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . و " النِّيَّةُ " هِيَ مِمَّا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ رِيَاءَ النَّاسِ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } وَقَالَ : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ فِي الَّذِي تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ قَارِئٌ وَاَلَّذِي قَاتَلَ لِيُقَالَ جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ . وَاَلَّذِي تَصَدَّقَ لِيُقَالَ جَوَادٌ وَكِرِيمٌ فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ مَدْحَ النَّاسِ لَهُمْ وَتَعْظِيمَهُمْ لَهُمْ وَطَلَبَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ ; لَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُوَرُ أَعْمَالِهِمْ صُوَرًا حَسَنَةً فَهَؤُلَاءِ إذَا حُوسِبُوا كَانُوا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ فَلَهُ مِنْ عَمَلِهِ النَّارُ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَنْ طَلَبَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَطْلُبُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسمِائَةِ عَامٍ } . وَفِي " الْجُمْلَةِ " الْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْقَلْبُ مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَهَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلُحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَصَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ يَسْتَلْزِمُ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا أَبْدَاهُ لَا مِمَّا أَخْفَاهُ . وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا فَالْعَبْدُ الْمَأْمُورُ الْمَنْهِيُّ إنَّمَا يَعْلَمُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَلْبُهُ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ الْقَلْبُ وَالْعِلْمُ بِالْمَأْمُورِ وَالِامْتِثَالُ يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أَعْرَضَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَقَصَدَ الِامْتِثَالَ كَانَ أَوَّلَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ ; بَلْ كَانَ هُوَ الْعَاصِيَ وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ ; وَلِهَذَا قَالَ فِي حَقِّ الشَّقِيِّ : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } الْآيَاتِ وَقَالَ فِي حَقِّ السُّعَدَاءِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالْمَأْمُورُ نَوْعَانِ . نَوْعٌ هُوَ عَمَلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَارِحِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِعِلْمِ الْقَلْبِ وَإِرَادَتِهِ . فَالْقَلْبُ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ كَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَكَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ : مِنْ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَفْعَالُ الْحَجِّ : مِنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا فَالْقَلْبُ أَخَصُّ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ الْقَلْبُ وُجُودَ مَا يَقُولُهُ أَوْ بِمَا يَقُولُ وَيَقْصِدُهُ .