تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي مُقَدَّرَةً وَالنِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ مُقَدَّرَةً . فَلِمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ وَالسَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ ؟ فَجَعَلَ هَذِهِ مِنْ اللَّهِ وَهَذِهِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ ؟ . قِيلَ : لِفَرُوقِ بَيْنَهُمَا : " الْفَرْقُ الْأَوَّلُ " : أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ وَإِحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ يَقَعُ ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ مِنْهُمْ أَصْلًا . فَهُوَ يُنْعِمُ بِالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَغَيْرِ ذَلِك عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ . وَيُنْشِئُ لِلْجَنَّةِ خَلْقًا يُسْكِنُهُمْ فُضُولَ الْجَنَّةِ . وَقَدْ خَلَقَهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا . وَيُدْخِلُ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَجَانِينَهُمْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ بِلَا عَمَلٍ . وَأَمَّا الْعِقَابُ : فَلَا يُعَاقِبُ أَحَدًا إلَّا بِعَمَلِهِ . الْفَرْقُ الثَّانِي : أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ . إذَا عَمِلَهَا فَنَفْسُ عَمَلِهِ الْحَسَنَاتِ : هو من إحْسَانِ اللَّهِ وَبِفَضْلِهِ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا . فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ . وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِك فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . فَنَفْسُ خَلْقِ اللَّهِ لَهُمْ أَحِيَاءً وَجَعْلِهِ لهم السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ : هو من نِعْمَتِهِ وَنَفْسُ إرْسَالِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ وَتَبْلِيغِهِ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ الذي اهْتَدَوْا به : هو من نِعْمَتِهِ . وَإِلْهَامُهُمْ الْإِيمَانَ وَهِدَايَتُهُمْ إلَيْهِ وَتَخْصِيصُهُمْ بِمَزِيدِ نِعْمَةٍ حَصَلَ لهم بها الْإِيمَانُ دُونَ الْكَافِرِينَ : هو من نِعْمَتِهِ . كما قال تعالى { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } . فَجَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الْعَالَمُ مِنْ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : هُوَ نِعْمَةٌ مَحْضَةٌ مِنْهُ بِلَا سَبَبٍ سَابِقٍ يُوجِبُ لَهُمْ حَقًّا . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسهمْ إلَّا بِهِ . وَهُوَ خَالِقُ نَفُوسِهِمْ وَخَالِقُ أَعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ وَخَالِقُ الْجَزَاءِ . فَقَوْلُهُ { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } حَقٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا " السَّيِّئَةُ " فَلَا تَكُونُ إلَّا بِذَنْبِ الْعَبْدِ . وَذَنْبُهُ مِنْ نَفْسِهِ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنِّي لَمْ أُقَدِّرْ ذَلِك وَلَمْ أَخْلُقْهُ . بَلْ ذَكَرَ لِلنَّاسِ مَا يَنْفَعُهُمْ .