تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا اضْطَرَبَ فِيهِ النَّاسُ . فَاسْتَدَلَّتْ الْقَدَرِيَّةُ النفاة وَالْمُجْبِرَةُ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يُضِلَّ شَخْصًا : جَازَ أَنْ يُضِلَّ كُلَّ النَّاسِ . وَإِذَا جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ حَيَوَانًا بِلَا ذَنْبٍ وَلَا عِوَضٍ : جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ حَيٍّ بِلَا ذَنْبٍ وَلَا عِوَضٍ . وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعِينَ وَاحِدًا مِمَّنْ أَمَرَهُ عَلَى طَاعَةِ أَمْرِهِ : جَازَ أَنْ لَا يُعِينَ كُلَّ الْخَلْقِ . فَلَمْ تُفَرِّقْ الطَّائِفَتَانِ بَيْنَ الشَّرِّ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ . وَبَيْنَ الشَّرِّ الْإِضَافِيِّ وَالشَّرِّ الْمُطْلَقِ . وَلَمْ يَجْعَلُوا فِي الشَّرِّ الْإِضَافِيِّ حِكْمَةً يَصِيرُ بِهَا مِنْ قِسْمِ الْخَيْرِ . ثُمَّ قَالَ النفاة : وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ . فَإِنَّا لَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ هَذَا لَجَوَّزْنَا عَلَيْهِ تَأْيِيدَ الْكَذَّابِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَتَعْذِيبَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِكْرَامَ الْكُفَّارِ وَغَيْرَ ذَلِك مِمَّا يَسْتَعْظِمُ الْعُقَلَاءُ إضَافَتَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . فَقَالَتْ الْمُثْبِتَةُ مِنْ الجهمية الْمُجْبِرَةِ : بَلْ كُلُّ الْأَفْعَالِ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ ذَلِك الْخَاصُّ . وَإِنَّمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُ أَوْ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ : بِالْخَبَرِ خَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْهُ . وَإِلَّا فَمَهْمَا قَدَّرَ : جَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ وَجَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ . لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَبَبٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَلَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِبَعْضِ الْأَفْعَالِ دُونَ بَعْضٍ . بَلْ لَيْسَ إلَّا مَشِيئَةٌ نِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْحَوَادِثِ سَوَاءٌ . تَرَجَّحَ أَحَدُ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُرَجَّحٍ . فَقِيلَ لَهُمْ : فَيَجُوزُ تَأْيِيدُ الْكَذَّابُ بِالْمُعْجِزِ . فَلَا يَبْقَى الْمُعْجِزُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ . فَلَا يَبْقَى خَبَرُ نَبِيٍّ يَعْلَمُ بِهِ الْفَرْقَ . فَيَلْزَمُ - مَعَ الْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ - أَنْ لَا يَعْلَمَ الْفَرْقَ لَا بِسَمْعِ وَلَا بِعَقْلِ . فَاحْتَالُوا لِلْفَرَقِ بَيْن الْمُعْجَزَاتِ وَغَيْرِهَا . بِأَنَّ تَجْوِيزَ إتْيَانِ الْكَذَّابِ بِالْمُعْجِزَاتِ يَسْتَلْزِمُ تَعْجِيزَ الْبَارِي تَعَالَى عَمَّا بِهِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ . أَوْ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّدْقِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِك فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَبَيْنَ خَطَأِ الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا جَهْمًا فِي الْجَبْرِ - وَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ وَالْأَسْبَابُ الَّتِي بِهَا يَفْعَلُ وَمَا خَلَقَهُ مِنْ الْقُوَى وَغَيْرِهَا - هُمْ مُبْتَدِعَةٌ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ . كَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ النفاة : مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مَعَ مُخَالِفَتِهِمْ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ .