تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَأَمَّا ذُنُوبُ الْإِنْسَانِ : فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ . وَمَعَ هَذَا فَهِيَ - مَعَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ - نِعْمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالْهُدَى وَالْإِيمَانِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَحْسَنِ الدُّعَاءِ قَوْلُهُ { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي عِبْرَةً لِغَيْرِي وَلَا تَجْعَلْ أَحَدًا أَسْعَدَ بِمَا عَلَّمْتنِي مِنِّي } . وَفِي دُعَاءِ الْقُرْآنِ { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } { لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } كَمَا فِيهِ { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا } أَيْ فَاجْعَلْنَا أَئِمَّةً لِمَنْ يَقْتَدِي بِنَا وَيَأْتَمُّ . وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِمَنْ يُضِلُّ بِنَا وَيَشْقَى . و " الْآلَاءُ " فِي اللُّغَةِ : هِيَ النِّعَمُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمَّا عَدَّدَ اللَّهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ - سُورَةِ الرَّحْمَنِ - نَعْمَاءَهُ وَذَكَّرَ عِبَادَهُ آلَاءَهُ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ . جَعَلَ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ فَاصِلَةً بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ لِيُفْهِمَ النِّعَمَ ويقررهم بِهَا . وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ والترمذي عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّحْمَنُ حَتَّى خَتَمَهَا . ثُمَّ قَالَ : مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا ؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا . مَا قَرَأْت عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ - { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } - إلَّا قَالُوا : وَلَا بِشَيْءِ مِنْ نِعَمِك رَبَّنَا نُكَذِّبُ . فَلَك الْحَمْدُ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُذَكِّرُ فِي الْقُرْآنِ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ . وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي فِيهَا نِعَمُهُ وَإِحْسَانُهُ إلَى عِبَادِهِ . وَيُذَكِّرُ بِآيَاتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى . وَهِيَ كُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ . فَكُلُّ مَا خَلَقَ : فَهُوَ نِعْمَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ . لَكِنْ نِعْمَةُ الرِّزْقِ وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ : ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ . فَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِهَا كَمَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ . وَتُسَمَّى سُورَةَ النِّعَمِ . كَمَا قَالَهُ قتادة وَغَيْرُهُ . وَعَلَى هَذَا : فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ : الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ . مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ . فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نِعْمَةٍ وَعَلَى غَيْرِ نِعْمَةٍ . وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ . فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ . فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ فِيهِ نِعْمَةٌ : لَمْ يَكُنْ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَال . لِأَنَّهُ مَا مِنْ حَالٍ يَقْضِيهَا إلَّا وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى عِبَادِهِ . لَكِنْ هَذَا فَهْمُ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ . والجهمية وَالْجَبْرِيَّةُ : بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ : فَفِيهِ لَهُ حِكْمَةٌ . فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ . والجهمية أَيْضًا بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا . وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا تَعُودُ الْحِكْمَةُ إلَيْهِ . بَلْ مَا ثُمَّ إلَّا نَفْعُ الْخَلْقِ . فَمَا عِنْدَهُمْ إلَّا شُكْرٌ كَمَا لَيْسَ عِنْدَ الجهمية إلَّا قُدْرَةٌ . وَالْقُدْرَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ نِعْمَةٍ وَحِكْمَةٍ : لَا يَظْهَرُ فِيهَا وَصْفُ حَمَدٍ كَالْقَادِرِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا يَنْفَعُ بِهِ أَحَدًا . فَهَذَا لَا يُحْمَدُ . فَحَقِيقَةُ قَوْلِ الجهمية أَتْبَاعِ جَهْمٌ : أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ . فَلَهُ عِنْدُهُمْ مُلْكٌ بِلَا حَمْدٍ مَعَ تَقْصِيرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ مُلْكِهِ . كَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْحَمْدِ بِلَا مُلْكٍ تَامٍّ . إذْ كَانَ عِنْدَهُمْ يَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ وَيَكُونُ مَا لَا يَشَاءُ . وَتَحْدُثُ حَوَادِثُ بِلَا قُدْرَتِهِ . وَعَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ : لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ تَامَّيْنِ . وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى حِكْمَتِهِ كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ . وَقَدْ قَالَ { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فَلَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ فِي إلَهِيَّتِهِ وَلَهُ الْعَدْلُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ . وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يُثْبِتُهَا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ . فَمَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ فَقَدْ نَقَصَ الرَّبَّ بَعْضَ حَقِّهِ . والجهمي الْجَبْرِيُّ لَا يُثْبِتُ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً وَلَا تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ . بَلْ تَوْحِيدَ رُبُوبِيَّتِهِ . وَالْمُعْتَزِلِيُّ أَيْضًا لَا يُثْبِتُ فِي الْحَقِيقَةِ تَوْحِيدَ إلَهِيَّةٍ وَلَا عَدْلًا فِي الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَا عَزَّةً وَلَا حِكْمَةً فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ يُثْبِتُ الْحِكْمَةَ بِمَا مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ . وَتِلْكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً مِنْ فِعْلٍ لَا لِأَمْرِ يَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ لِغَيْرِهِ هُوَ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً بِهَا لَيْسَ بِحَكِيمِ بَلْ سَفِيهٍ . وَإِذَا كَانَ الْحَمْدُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ فَقَدْ ثَبَتَ : أَنَّهُ رَأْسُ الشُّكْرِ . فَهُوَ أَوَّلُ الشُّكْرِ . وَالْحَمْدُ - وَإِنْ كَانَ عَلَى نِعْمَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ - فَالشُّكْرُ بِالْأَعْمَالِ : هُوَ عَلَى نِعْمَتِهِ . وَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ لِإِلَهِيَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ . فَقَدْ صَارَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي الشُّكْرِ . وَلِهَذَا عَظَّمَ الْقُرْآنُ أَمْرَ الشُّكْرِ . وَلَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَ الْحَمْدِ مُجَرَّدًا إذْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الشُّكْرِ . وَشَرَعَ الْحَمْدَ - الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ الْمَقُولُ - أَمَامَ كُلِّ خِطَابٍ مَعَ التَّوْحِيدِ . فَفِي الْفَاتِحَةِ : الشُّكْرُ وَالتَّوْحِيدُ . وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ . وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ نَوْعَانِ . فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ : فِيهَا الشُّكْرُ وَالتَّنْزِيهُ وَالتَّعْظِيمُ . وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَاَللَّهُ أَكْبَرُ : فِيهَا التَّوْحِيدُ وَالتَّكْبِيرُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .