تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ لِيَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَيَعْبُدُوهُ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا كَمَا أَرْسَلَ كُلَّ رَسُولٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بِهَذَا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ . فَقَالَ { إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . قَالَ قتادة : أَيْ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ . وَرَبُّكُمْ رَبٌّ وَاحِدٌ . وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أَيْ دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ نَحْوِ ذَلِكَ . وَقَالَ الْحَسَنُ : بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ وَمَا يَأْتُونَ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ سَنَةً وَاحِدَةً . وَهَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ . و " الْأُمَّةُ " الْمِلَّةُ . وَالطَّرِيقَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { قَالُوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } - مُقْتَدُونَ كَمَا يُسَمَّى " الطَّرِيقُ " إمَامًا . لِأَنَّ السَّالِكَ فِيهِ يَأْتَمُّ بِهِ فَكَذَلِكَ السَّالِكُ يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ . و " الْأُمَّةُ " أَيْضًا مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ . كَمَا أَنَّ " الْإِمَامَ " هُوَ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ . وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ { كَانَ أُمَّةً } وَأَمَرَ اللَّهُ الرُّسُلَ أَنْ تَكُونَ مِلَّتُهُمْ وَدِينُهُمْ وَاحِدًا . لَا يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ رُسُلِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . لَا يَخْتَلِفُونَ مَعَ تَنَوُّعِ شَرَائِعِهِمْ . فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُطَاعِينَ - مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ - مُتَّبِعًا لِلرُّسُلِ : أَمَرَ بِمَا أَمَرُوا بِهِ . وَدَعَا إلَى مَا دَعَوْا إلَيْهِ . وَأَحَبَّ مَنْ دَعَا إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ . فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ . فَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَذَا قَصْدُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ : أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ : فَهَذَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُطَاعُ الْمَعْبُودُ . فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ وَأَشْبَاهِهِ . فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ دُونَ اللَّهِ : فَهَذَا حَالُ فِرْعَوْنَ . وَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ مَعَ اللَّهِ : فَهَذَا يُرِيدُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ : أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَأَنْ لَا يَكُونَ الدِّينُ إلَّا لَهُ وَأَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ فِيهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ . وَأَنْ لَا يُتَوَكَّلَ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَعَانَ إلَّا بِهِ . فَالْمُؤْمِنُ الْمُتَّبِعُ لِلرُّسُلِ : يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لَا لَهُ . وَإِذَا أَمَرَ أَحَدٌ غَيْرُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ : أَحَبَّهُ وَأَعَانَهُ وَسُرَّ بِوُجُودِ مَطْلُوبِهِ . وَإِذَا أَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يُحْسِنُ إلَيْهِمْ : ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُسِيئًا فَيَرَى أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ وَأَنَّهُ بِاَللَّهِ . وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ مُحْتَاجُونَ إلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى أَيْ شَيْءٍ . وَلِهَذَا فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ السُّوَرِ وَلَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا . فَإِنَّ فِيهَا { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . فَالْمُؤْمِنُ يَرَى : أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ لِأَنَّهُ إيَّاهُ يَعْبُدُ وَأَنَّهُ بِاَللَّهِ . لِأَنَّهُ إيَّاهُ يَسْتَعِينُ . فَلَا يَطْلُبُ مِمَّنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ جَزَاءً وَلَا شَكُورًا . لِأَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ لَهُ مَا عَمِلَ لِلَّهِ كَمَا قَالَ الْأَبْرَارُ { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَا يُؤْذِيهِ . فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِ إذْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْإِحْسَانِ . وَأَنَّ الْمِنَّةَ لِلَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ . فَعَلَيْهِ هُوَ : أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ . إذْ يَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى . وَعَلَى ذَلِكَ : أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ . إذْ يَسَّرَ لَهُ مَنْ يُقَدِّمُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ رِزْقٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَمِنْ النَّاسِ : مَنْ يُحْسِنُ إلَى غَيْرِهِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ يَرُدَّ الْإِحْسَانَ لَهُ بِطَاعَتِهِ إلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِ أَوْ نَفْعِ آخَرَ . وَقَدْ يَمُنُّ عَلَيْهِ . فَيَقُولُ : أَنَا فَعَلْت بِك كَذَا . فَهَذَا لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْهُ . وَلَا عَمِلَ لِلَّهِ وَلَا عَمِلَ بِاَللَّهِ . فَهُوَ الْمُرَائِي . وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ الْمَنَّانِ وَصَدَقَةَ الْمُرَائِي . قَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . قَالَ قتادة { وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } احْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : يَقِينًا وَتَصْدِيقًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ . وَكَذَلِكَ قَالَ الْكَلْبِيُّ . قِيلَ : يُخْرِجُونَ الصَّدَقَةَ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُهُمْ . عَلَى يَقِينٍ بِالثَّوَابِ وَتَصْدِيقٍ بِوَعْدِ اللَّهِ . يَعْلَمُونَ : أَنَّ مَا أَخْرَجُوهُ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ . قُلْت : إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُحْتَسِبًا لِلْأَجْرِ عِنْدَ اللَّهِ مُصَدِّقًا بِوَعْدِ اللَّهِ لَهُ : طَالِبٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الَّذِي أَعْطَاهُ فَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ . كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ : أَعْطِ مَمَالِيكك هَذَا الطَّعَامَ وَأَنَا أُعْطِيك ثَمَنَهُ ; لَمْ يَمُنَّ عَلَى الْمَمَالِيكِ . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ : أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْإِعْطَاءِ .