تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَهَذَا التَّوْحِيدُ : هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَأَنْ لَا نَعْبُدَهُ إلَّا بِمَا أَحَبَّهُ وَمَا رَضِيَهُ . وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ وَشَرَعَهُ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُمَا . وَهُوَ يَتَضَمَّنُ : أَنْ يُحِبَّ اللَّهَ حُبًّا لَا يُمَاثِلُهُ وَلَا يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ بَلْ يَقْتَضِي : أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ . فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ - لِأَجْلِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ بِرَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؟ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ عُمَرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَللَّهِ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ : لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك . قَالَ : فَوَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّك لَأَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ : أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ - فَإِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتِ هَذَا الْوَعِيدِ . فَهَذَا التَّوْحِيدُ - تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ - يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ . وَمِنْ ذَلِكَ : الصَّبْرُ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا أَنَّ الْأَوَّل يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ لَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ . فَيَقْتَضِي : أَنْ لَا يَسْأَلَ الْعَبْدُ غَيْرَهُ وَلَا يَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يَسْتَعِينُ إلَّا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي النَّوْعَيْنِ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } . وَهَذَا التَّوْحِيدُ : هُوَ الْفَارِقُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُشْرِكِينَ . وَعَلَيْهِ يَقَعُ الْجَزَاءُ وَالثَّوَابُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ . فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْخَالِدِينَ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ . أَمَّا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ : فَقَدْ أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَكَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ وَيُحِبُّونَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَهُ . فَكَانَ ذَلِكَ التَّوْحِيدُ - الَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ - حُجَّةً عَلَيْهِمْ . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَلَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ إلَّا هُوَ . فَلِمَاذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ وَلَا رِزْقٌ وَلَا بِيَدِهِ لَهُمْ مَنْعٌ وَلَا عَطَاءٌ بَلْ هُوَ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا فَإِنْ قَالُوا " لِيَشْفَعَ " فَقَدْ قَالَ اللَّهُ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَلَا يَشْفَعُ مَنْ لَهُ شَفَاعَةٌ - مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ - إلَّا بِإِذْنِهِ . وَأَمَّا قُبُورُهُمْ - وَمَا نُصِبَ عَلَيْهَا مِنْ قِبَابٍ وَأَنْصَابٍ - أَوْ تَمَاثِيلُهُمْ - الَّتِي مُثِّلَتْ عَلَى صُوَرِهِمْ مُجَسَّدَةً أَوْ مَرْقُومَةً - فَجَعْلُ الِاسْتِشْفَاعِ بِهَا اسْتِشْفَاعًا بِهِمْ فَهَذَا بَاطِلُ عَقْلًا وَشَرْعًا . فَإِنَّهَا لَا شَفَاعَةَ لَهَا بِحَالِ وَلَا لِسَائِرِ الْأَصْنَامِ الَّتِي عُمِلَتْ لِلْكَوَاكِبِ وَالْجِنِّ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنْ ارْتَضَى : فَمَا بَقِيَ الشُّفَعَاءُ شُرَكَاءَ كَشَفَاعَةِ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ . فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ نَظِيرُهُ - أَوْ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ دُونَهُ - بِدُونِ إذْنِ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ . وَيَقْبَلُ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ وَلَا بُدَّ شَفَاعَتُهُ : إمَّا لِرَغْبَتِهِ إلَيْهِ أَوْ فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ قُوَّةٍ أَوْ سَبَبٍ يَنْفَعُهُ بِهِ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَخْشَاهُ وَإِمَّا لِرَهْبَتِهِ مِنْهُ وَإِمَّا لِمَحَبَّتِهِ إيَّاهُ وَإِمَّا لِلْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا وَالْمُعَاوَنَةِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَتَكُونُ شَفَاعَةُ الشَّفِيعِ : هِيَ الَّتِي حَرَّكَتْ إرَادَةَ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ وَجَعَلَتْهُ مُرِيدًا لِلشَّفَاعَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهَا . كَأَمْرِ الْآمِرِ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي الْمَأْمُورِ . فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِفِعْلِهِ . وَكَذَلِكَ سُؤَالُ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ : فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُحَرِّكًا لَهُ إلَى فِعْلِ مَا سَأَلَهُ . فَالشَّفِيعُ : كَمَا أَنَّهُ شَافِعٌ لِلطَّالِبِ شَفَاعَتَهُ فِي الطَّلَبِ . فَهُوَ أَيْضًا قَدْ شَفَّعَ الْمَشْفُوعَ إلَيْهِ . فَبِشَفَاعَتِهِ صَارَ الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ فَاعِلًا لِلْمَطْلُوبِ . فَقَدْ شَفَعَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ لَا يُشَفِّعُهُ أَحَدٌ . فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَالْأَمْرُ كُلُّهُ إلَيْهِ وَحْدَهُ . فَلَا شَرِيكَ لَهُ بِوَجْهِ . وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ نَفْيَ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ الَّتِي فِيهَا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ . فَقَالَ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } . وَسَيِّدُ الشُّفَعَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . إذَا سَجَدَ وَحَمِدَ رَبَّهُ . يُقَالُ لَهُ " ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَيُحِدُّ لَهُ حَدًّا . فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ " فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ . كَمَا قَالَ { قُلْ إنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } وَقَالَ لِرَسُولِهِ { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } وَقَالَ { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } . فَإِذَا كَانَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ . فَهُوَ يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ وَلَكِنْ يُكْرَمُ الشَّفِيعُ بِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ } . وَإِذَا دَعَاهُ الدَّاعِي وَشَفَعَ عِنْدَهُ الشَّفِيعُ . فَسَمِعَ الدُّعَاءَ وَقَبِلَ الشَّفَاعَةَ : لَمْ يَكُنْ هَذَا مُؤَثِّرًا فِيهِ . كَمَا يُؤَثِّرُ الْمَخْلُوقُ فِي الْمَخْلُوقِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ هَذَا يَدْعُو وَهَذَا يَشْفَعُ . وَهُوَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ . فَهُوَ الَّذِي وَفَّقَ الْعَبْدَ لِلتَّوْبَةِ ثُمَّ قَبِلَهَا . وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ ثُمَّ أَثَابَهُ عَلَيْهِ . وَهُوَ الَّذِي وَفَّقَهُ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أَجَابَهُ . فَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ . بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ سَبَبًا لِمَا يَفْعَلُهُ . وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ . وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا هُوَ خَالِقُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ . قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ : مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَلَكِنَّ هَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ . فَإِنَّهُمْ إذَا جَعَلُوا الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يُحْدِثُ وَيَخْلُقُ أَفْعَالَهُ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ : لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ قَدْ جَعَلَ رَبَّهُ فَاعِلًا لِمَا لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهُ . فَبِدُعَائِهِ جَعَلَهُ مُجِيبًا لَهُ وَبِتَوْبَتِهِ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلتَّوْبَةِ وَبِشَفَاعَتِهِ جَعَلَهُ قَابِلًا لِلشَّفَاعَةِ . وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ . فَإِنَّ " الْإِذْنَ " نَوْعَانِ : إذْنٌ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ وَإِذْنٌ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَالْإِجَازَةِ . فَمِنْ الْأَوَّلِ : قَوْلُهُ فِي السِّحْرِ { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ . وَإِلَّا فَهُوَ لَمْ يُبِحْ السِّحْرَ . وَالْقَدَرِيَّةُ تُنْكِرُ هَذَا " الْإِذْنَ " وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : إنَّ السِّحْرَ يَضُرُّ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } فَإِنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْهَزِيمَةِ : إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ فَهُوَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْكُفَّارِ وَلِأَفْعَالِ الْمُؤْمِنِينَ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : قَوْلُهُ { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } وَقَوْلُهُ { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } فَإِنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ إبَاحَتَهُ لِذَلِكَ وَإِجَازَتَهُ لَهُ وَرَفْعَ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ مَعَ كَوْنِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ . فَقَوْلُهُ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } هُوَ هَذَا الْإِذْنُ الْكَائِنُ بِقَدَرِهِ وَشَرْعِهِ . وَلَمْ يُرِدْ بِمُجَرَّدِ الْمَشِيئَةِ وَالْقَدَرِ . فَإِنَّ السِّحْرَ وَانْتِصَارَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ بِذَلِكَ الْإِذْنُ . فَمَنْ جَعَلَ الْعِبَادَ يَفْعَلُونَ أَفْعَالَهُمْ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقًا لَهَا وَقَادِرًا عَلَيْهَا وَمُشِيئًا لَهَا فَعِنْدَهُ : كُلُّ شَافِعٍ وَدَاعٍ قَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِدُونِ خَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَاحَ الشَّفَاعَةَ . وَأَمَّا الْكُفْرُ وَالسِّحْرُ وَقِتَالُ الْكُفَّارِ : فَهُوَ عِنْدُهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا هَذَا الْإِذْنُ وَلَا هَذَا الْإِذْنُ . فَإِنَّهُ لَمْ يُبِحْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَعِنْدَهُمْ : أَنَّهُ لَمْ يَشَأْهُ وَلَمْ يَخْلُقْهُ . بَلْ كَانَ بِدُونِ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ . وَالْمُشْرِكُونَ الْمُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ يَقُولُونَ : إنَّ الشُّفَعَاءَ يَشْفَعُونَ بِالْإِذْنِ الْقَدَرِيِّ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إبَاحَةً وَجَوَازًا . وَمَنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِالْقَدَرِ - مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ النَّصَارَى - يَقُولُونَ : إنَّ شَفَاعَةَ الشُّفَعَاءِ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا قَدَرِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ . وَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ : يَشْفَعُونَ بِغَيْرِ إذْنٍ قَدَرِيٍّ . وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ بِغَيْرِ إذْنِهِ الشَّرْعِيِّ : فَقَدْ شَفَعَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ قَدَرِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ . فَالدَّاعِي الْمَأْذُونُ لَهُ فِي الدُّعَاءِ : مُؤَثِّرٌ فِي اللَّهِ عِنْدَهُمْ . لَكِنْ بِإِبَاحَتِهِ . وَالدَّاعِي غَيْرُ الْمَأْذُونِ لَهُ : إذَا أَجَابَ دُعَاءَهُ فَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ عِنْدَهُمْ لَا بِهَذَا الْإِذْنِ وَلَا بِهَذَا الْإِذْنِ كَدُعَاءِ بلعام بْنِ باعوراء وَغَيْره . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ الشُّفَعَاءِ مَنْ يَشْفَعُ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِفِعْلِهِ - كَشَفَاعَةِ نُوحٍ لِابْنِهِ وَشَفَاعَةِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ابْنِ سلول حِينَ صَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ . وَقَوْلُهُ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } قَدْ قُلْتُمْ : إنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ . فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِذْنَ الْقَدَرِيَّ : لَكَانَ كُلُّ شَفَاعَةٍ دَاخِلَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ كُفْرٍ وَسِحْرٍ . وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ بِإِذْنِهِ وَمَا لَا يَكُونُ بِإِذْنِهِ . وَلَوْ أَرَادَ الْإِذْنَ الشَّرْعِيَّ فَقَطْ : لَزِمَ قَوْلُ الْقَدَرِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ شَفَعُوا بِغَيْرِ إذْنٍ شَرْعِيٍّ ؟ . قِيلَ : الْمَنْفِيُّ مِنْ الشَّفَاعَةِ بِلَا إذْنٍ : هِيَ الشَّفَاعَةُ التَّامَّةُ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ كَمَا فِي قَوْلِ الْمُصَلِّي " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " أَيْ اسْتَجَابَ لَهُ . وَكَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَوْلِهِ { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَقَوْلِهِ { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْهُدَى وَالْإِنْذَارَ وَالتَّذْكِيرَ وَالتَّعْلِيمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَبُولِ الْمُتَعَلِّمِ . فَإِذَا تَعَلَّمَ حَصَلَ لَهُ التَّعْلِيمُ الْمَقْصُودُ . وَإِلَّا قِيلَ : عَلَّمْته فَلَمْ يَتَعَلَّمْ . كَمَا قِيلَ { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } فَكَذَلِكَ الشَّفَاعَةُ .