تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَالشَّفَاعَةُ : مَقْصُودُهَا قَبُولُ الْمَشْفُوعِ إلَيْهِ - وَهِيَ الشَّفَاعَةُ التَّامَّةُ . فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا بِإِذْنِهِ . وَأَمَّا إذَا شَفَعَ شَفِيعٌ فَلَمْ تُقْبَلْ شَفَاعَتُهُ : كَانَتْ كَعَدَمِهَا وَكَانَ عَلَى صَاحِبِهَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا . كَمَا قَالَ نُوحٌ { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَكَمَا نَهَى اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ لَهُ { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } وَقَالَ لَهُ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } . وَلِهَذَا قَالَ عَلَى لِسَانِ الْمُشْرِكِينَ { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ } { وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } . فَالشَّفَاعَةُ الْمَطْلُوبَةُ : هِيَ شَفَاعَةُ الْمُطَاعِ الَّذِي تُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ . وَهَذِهِ لَيْسَتْ لِأَحَدِ عِنْدَ اللَّهِ إلَّا بِإِذْنِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا . فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ فِيهَا . وَلَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ شَافِعًا . فَهُوَ الْخَالِقُ لِفِعْلِهِ وَالْمُبِيحُ لَهُ كَمَا فِي الدَّاعِي : هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ وَهُوَ الَّذِي يَجْعَلُ الدَّاعِيَ دَاعِيًا فَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ خَلْقًا وَأَمْرًا . كَمَا قَالَ { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ - ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ - أَنَّهُ قَالَ { فَمَنْ يَثِقُ بِهِ فَلْيَدَعْهُ } أَيْ فَلَمْ يَبْقَ لِغَيْرِهِ لَا خَلْقٌ وَلَا أَمْرٌ . وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالشَّفَاعَةِ الْمُثْبَتَةِ : هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالشَّفَاعَةِ وَهِيَ الْمَقْبُولَةُ بِخِلَافِ الْمَرْدُودَةِ . فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُرِيدُهَا لَا الشَّافِعُ وَلَا الْمَشْفُوعُ لَهُ وَلَا الْمَشْفُوعُ إلَيْهِ . وَلَوْ عَلِمَ الشَّافِعُ وَالْمَشْفُوعُ لَهُ أَنَّهَا تُرَدُّ : لَمْ يَفْعَلُوهَا . وَالشَّفَاعَةُ الْمَقْبُولَةُ : هِيَ النَّافِعَةُ . بَيْنَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَوْلِهِ { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } فَنَفَى الشَّفَاعَةَ الْمُطْلَقَةَ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ . وَهُوَ الْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ بِمَعْنَى : أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ . وَأَجَازَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَقَوْلِهِ { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } وَقَوْلِهِ { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ { إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } هُوَ إذْنٌ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ . فَلَا يَأْذَنُ فِي شَفَاعَةٍ مُطْلَقَةٍ لِأَحَدِ . بَلْ إنَّمَا يَأْذَنُ فِي أَنْ يَشْفَعُوا لِمَنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ فِيهِ . قَالَ تَعَالَى { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا } { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } وَفِيهِ قَوْلَانِ : قِيلَ : إلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ . وَقِيلَ : لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ . فَهُوَ الَّذِي تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . لَا يَذْكُرُونَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ " لَا تَنْفَعُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ " وَلَا قَالَ " لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا فِيمَنْ أَذِنَ لَهُ " بَلْ قَالَ { لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ } فَهِيَ لَا تَنْفَعُ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا تَكُونُ نَافِعَةً إلَّا لِلْمَأْذُونِ لَهُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . وَلَا يُقَالُ : لَا تَنْفَعُ إلَّا لِشَفِيعِ مَأْذُونٍ لَهُ . بَلْ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَقِيلَ : لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ . وَإِنَّمَا قَالَ { إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَهُوَ الْمَشْفُوعُ لَهُ الَّذِي تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ . وَقَوْلُهُ { حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } لَمْ يَعُدْ إلَى " الشُّفَعَاءِ " بَلْ عَادَ إلَى الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ثُمَّ قَالَ { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ } ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا مُنْتَفٍ { حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } فَلَا يَعْلَمُونَ مَاذَا قَالَ حَتَّى يُفَزَّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَكَيْفَ يَشْفَعُونَ بِلَا إذْنِهِ ؟ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا أَذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ فَقَدْ أَذِنَ لِلشَّافِعِ . فَهَذَا الْإِذْنُ هُوَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لِلشَّافِعِ فَقَطْ . فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ . إذْ قَدْ يَأْذَنُ لَهُ إذْنًا خَاصًّا . وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . قَالُوا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ إلَّا الْمُؤْمِنِينَ . وَكَذَلِكَ قَالَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ . قَالَ قتادة فِي قَوْلِهِ { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } هُوَ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقَوْلُهُ { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } إنَّ اللَّهَ يُشَفِّعُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ . قَالَ البغوي { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } أَذِنَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } أَيْ وَرَضِيَ قَوْلَهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْنِي قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " قَالَ البغوي : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِ . وَقَدْ ذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَدَّمَ طَائِفَةٌ هُنَاكَ : أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الشَّافِعُ دُونَ الْمَشْفُوعِ لَهُ بِخِلَافِ مَا قَدَّمُوهُ هُنَا . مِنْهُمْ البغوي . فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ إلَّا الْمَشْفُوعَ لَهُ . وَقَالَ هُنَاكَ : { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فِي الشَّفَاعَةِ قَالَهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ حَيْثُ قَالُوا { هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرُوا الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ } وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنُبَيِّنُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهَا يَعُمُّ الطَّائِفَتَيْنِ وَأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ . وَمَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِثْلُ مَعْنَى تِلْكَ الْآيَةِ . وَهُوَ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ . وَذَلِكَ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } و " الشَّفَاعَةُ " مَصْدَرُ شَفَعَ شَفَاعَةً . وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ تَارَةً وَإِلَى مَحَلِّ الْفِعْلِ تَارَةً . وَيُمَاثِلُهُ الَّذِي يُسَمَّى لَفْظُهُ " الْمَفْعُولَ بِهِ " تَارَةً كَمَا يُقَالُ : أَعْجَبَنِي دَقُّ الثَّوْبِ وَدَقُّ الْقَصَّارِ . وَذَلِكَ مِثْلُ لَفْظِ " الْعِلْمِ " يُضَافُ تَارَةً إلَى الْعِلْمِ وَتَارَةً إلَى الْمَعْلُومِ . فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وَقَوْلِهِ { أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : كَقَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } فَالسَّاعَةُ هُنَا : مَعْلُومَةٌ لَا عَالِمَةً . وَقَوْلِهِ حِينَ قَالَ فِرْعَوْنُ { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } قَالَ مُوسَى { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } وَمَثَلِ هَذَا كَثِيرٌ . فَالشَّفَاعَةُ مَصْدَرٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَافِعٍ وَمَشْفُوعٍ لَهُ . وَالشَّفَاعَةُ : تَعُمُّ شَفَاعَةَ كُلِّ شَافِعٍ وَكُلُّ شَفَاعَةٍ لِمَشْفُوعِ لَهُ . فَإِذَا قَالَ { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ } نَفَى النَّوْعَيْنِ : شَفَاعَةَ الشُّفَعَاءِ وَالشَّفَاعَةَ لِلْمُذْنِبِينَ . فَقَوْلُهُ { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ : مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الشُّفَعَاءِ . وَمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا مِنْ الْمَشْفُوعِ لَهُ . وَهِيَ تَنْفَعُ الْمَشْفُوعَ لَهُ فَتُخَلِّصُهُ مِنْ الْعَذَابِ . وَتَنْفَعُ الشَّافِعَ فَتُقْبَلُ مِنْهُ وَيُكْرَمُ بِقَبُولِهَا وَيُثَابُ عَلَيْهِ . وَالشَّفَاعَةُ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا لَهُ { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } فَهَذَا الصِّنْفُ الْمَأْذُونُ لَهُمْ الْمَرْضِيُّ قَوْلَهُمْ : هُمْ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمْ نَفْعُ الشَّفَاعَةِ . وَهَذَا مُوَافِقٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ . فَإِنَّهُ تَارَةً يَشْتَرِطُ فِي الشَّفَاعَةِ إذْنَهُ . كَقَوْلِهِ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } . وَتَارَةً يَشْتَرِطُ فِيهِمَا الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ . كَقَوْلِهِ { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } ثُمَّ قَالَ { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . وَهُنَا اشْتَرَطَ الْأَمْرَيْنِ : أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَأَنْ يَقُولَ صَوَابًا وَالْمُسْتَثْنَى يَتَنَاوَلُ مَصْدَرَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَمَا تَقُولُ : لَا يَنْفَعُ الزَّرْعُ إلَّا فِي وَقْتِهِ . فَهُوَ يَتَنَاوَلُ زَرْعَ الْحَارِثِ وَزَرْعَ الْأَرْضِ لَكِنْ هُنَا قَالَ { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ . فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ هَذَا مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ هَذَا . وَإِنَّمَا قَالَ { لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ كَانَ الْمَعْنَى : لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا هَذَا النَّوْعُ فَإِنَّهُمْ تَنْفَعُهُمْ الشَّفَاعَةُ . وَيَكُونُ الْمَعْنَى : أَنَّهَا تَنْفَعُ الشَّافِعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ . وَإِنْ جُعِلَ فِيهِ حَذْفٌ - تَقْدِيرُهُ : لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا شَفَاعَةَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ - كَانَ الْمَصْدَرُ مُضَافًا إلَى النَّوْعَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ يُضَافُ إلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ شَافِعًا وَإِلَى بَعْضِهِمْ لِكَوْنِهِ مَشْفُوعًا لَهُ وَيَكُونُ هَذَا كَقَوْلِهِ { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أَيْ مَنْ يُؤْمِنُ . و { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } أَيْ مِثْلُ دَاعِي الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ أَوْ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ مَنْعُوقٍ بِهِ أَيْ الَّذِي ينعق بِهِ . وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ . فَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ : إيجَازُهُ دُونَ الْإِطْنَابِ فِيهِ . وَقَوْلُهُ { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ } إذَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يُحْتَجَّ : أَنَّ الشَّافِعَ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ . وَإِنْ لَمْ يُكْرِمْهُ كَانَ الشَّافِعُ مِمَّنْ تَنْفَعُهُ الشَّفَاعَةُ . وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ . لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : التَّقْدِيرُ : لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ فَيُؤْذَنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ . فَيَكُونُ الْإِذْنُ لِلطَّائِفَتَيْنِ وَالنَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ كَأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ وَلَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ . فَكَمَا أَنَّ الْإِذْنَ لِلطَّائِفَتَيْنِ فَالنَّفْعُ أَيْضًا لِلطَّائِفَتَيْنِ . فَالشَّافِعُ يَنْتَفِعُ بِالشَّفَاعَةِ . وَقَدْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِهَا أَعْظَمَ مِنْ انْتِفَاعِ الْمَشْفُوعِ لَهُ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا . وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَان نَبِيِّهِ مَا شَاءَ } . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُكْرِمُ بِهِ اللَّهُ عَبْدَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الشَّفَاعَةُ الَّتِي يَخْتَصُّ بِهَا . وَهِيَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَحْمَدُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ والآخرون . وَعَلَى هَذَا لَا تَحْتَاجُ الْآيَةُ إلَى حَذْفٍ بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهَا : يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لَا شَافِعًا وَلَا مَشْفُوعًا { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } . وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ . يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ . يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ شَاةٌ لَهَا يُعَارُ أَوْ رِقَاعٌ تَخْفُقُ . فَيَقُولُ : أَغِثْنِي أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : قَدْ أَبْلَغَتْك . لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } . فَيَعْلَمُ مِنْ هَذَا : أَنَّ قَوْلَهُ { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } و { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } عَلَى مُقْتَضَاهُ . وَأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ } كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } وَهُوَ كَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } . وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشْبِهُ قَوْله تَعَالَى { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } فَإِنَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ : اشْتَرَطَ إذْنَهُ . فَهُنَاكَ ذَكَرَ " الْقَوْلَ الصَّوَابَ " وَهُنَا ذَكَرَ " أَنْ يَرْضَى قَوْلَهُ " وَمَنْ قَالَ الصَّوَابَ رَضِيَ اللَّهُ قَوْلَهُ . فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَرْضَى بِالصَّوَابِ . وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الشَّفَاعَةُ أَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ السَّائِبِ : لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً إلَّا بِإِذْنِهِ . وَالثَّانِي : لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إلَّا بِإِذْنِهِ . قَالَ مُقَاتِلٌ : كَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } قَالَ : كَلَامًا . هَذَا مِنْ تَفْسِيرِهِ الثَّابِتِ عَنْهُ . وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ - أَوْ أَعْلَمُ - التَّابِعِينَ بِالتَّفْسِيرِ . قَالَ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ . وَقَالَ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ : أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا . وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ " الشَّفَاعَةَ " أَيْضًا . وَفِي قَوْلِهِ { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } لَمْ يَذْكُرْ اسْتِثْنَاءً . فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ خِطَابًا مُطْلَقًا . إذْ الْمَخْلُوقُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُشَارِكُ فِيهِ الْخَالِقُ كَمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } أَنَّ هَذَا عَامٌّ مُطْلَقٌ . فَإِنَّ أَحَدًا - مِمَّنْ يَدَّعِي مِنْ دُونِهِ - لَا يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ بِحَالِ . وَلَكِنَّ اللَّهَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ شَفَعُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَؤُلَاءِ هُمْ الْكُفَّارُ . لَا يَمْلِكُونَ مُخَاطَبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : قَوْلُهُ { لَا يَمْلِكُونَ } الضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ . أَيْ لَا يَمْلِكُونَ - مِنْ إفْضَالِهِ وَإِكْمَالِهِ - أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِمَعْذِرَةِ وَلَا غَيْرِهَا . وَهَذَا مُبْتَدِعٌ . وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ . وَالصَّحِيحُ : قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَالسَّلَفِ : أَنَّ هَذَا عَامٌّ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا } وَفِي حَدِيثِ التَّجَلِّي الَّذِي فِي الصَّحِيحِ - لَمَّا ذَكَرَ مُرُورَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ - قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا الرُّسُلُ وَدَعْوَى الرُّسُلِ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ } فَهَذَا فِي وَقْتِ الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ . وَهُوَ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ . فَكَيْفَ بِمَا قَبْلَ ذَلِكَ ؟ .