تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَدْ طُلِبَتْ الشَّفَاعَةُ مِنْ أَكَابِرِ الرُّسُلِ وَأُولِي الْعَزْمِ وَكُلٌّ يَقُولُ " إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ . وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ . وَإِنِّي فَعَلْت كَذَا وَكَذَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي " فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَا يَتَقَدَّمُونَ إلَى مُخَاطَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالشَّفَاعَةِ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ ؟ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَذْكُورَةٌ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُتَّقِينَ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ . فَقَالَ { إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } { حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا } { وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } { وَكَأْسًا دِهَاقًا } { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا } { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا } { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } ثُمَّ قَالَ { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } فَقَدْ أَخْبَرَ : أَنَّ " الرُّوحَ وَالْمَلَائِكَةَ " يَقُومُونَ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ . وَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ قَوْلِهِ { لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } وَالْعَرَبُ تَقُولُ : مَا أَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَيْ لَا أَقْدِرُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى شَيْءٍ . وَغَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ : خِطَابُهُ وَلَوْ بِالسُّؤَالِ . فَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا الْخِطَابَ . فَإِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ . وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا . قَالَ تَعَالَى { إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فَقَدْ أَخْبَرَ الْخَلِيلُ : أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَبِيهِ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ . فَكَيْفَ غَيْرُهُ ؟ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا { إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } قَالَ : حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلًا بِهِ . رَوَاهُ - وَاَلَّذِي قَبْلَهُ - عَبْدُ بْنُ حميد . وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ { وَقَالَ صَوَابًا } قَالَ : الصَّوَابُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَعَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ : يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى : مَنْ أَتَى بِالْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طَه { لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } فَإِذَا جَعَلْت هَذِهِ مِثْلَ تِلْكَ : فَتَكُونُ الشَّفَاعَةُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الْمُطْلَقَةُ . وَهِيَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحَسَنَاتِ وَفِي دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّاسَ يَهْتَمُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَيَقُولُونَ : لَوْ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَقَامِنَا هَذَا ؟ } فَهَذَا طَلَبُ الشَّفَاعَةِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمْ . وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ { أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِك مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ } فَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ هَاتَيْنِ الشَّفَاعَتَيْنِ مُخْتَصَّتَانِ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَشْفَعُ غَيْرُهُ فِي الْعُصَاةِ . فَقَوْلُهُ { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } يَدْخُلُ فِيهَا الشَّفَاعَةُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ عُمُومًا وَفِي أَهْلِ الْجَنَّةِ وَفِي الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعَذَابِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَتِلْكَ : لَمْ يَذْكُرْ الْعَمَلَ . إنَّمَا قَالَ { وَقَالَ صَوَابًا } وَقَالَ { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } لَكِنْ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ " الْقَوْلَ الصَّوَابَ الْمَرَضِيَّ " لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مَحْمُودًا إلَّا مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَكِنَّ نَفْسَ الْقَوْلِ مَرْضِيٌّ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } .