تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ { فَمِنْ نَفْسِكَ } أَيْ أَفَمِنْ نَفْسك ؟ وَأَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَمَعْنَى كَلَامِهِ : أَنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ نَفْسِك . وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَايِنُ مَعْنَى الْآيَةِ . فَإِنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ . أَيْ بِذُنُوبِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَيْسَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ نَفْسِهِ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ : أَبُو بَكْرِ بْنُ فورك . فَإِنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ : أَفَمِنْ نَفْسِك ؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ : ثُمَّ قَالُوا : تُحِبُّهَا ؟ قُلْت : بَهْرًا عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ قُلْت : وَإِضْمَارُ الِاسْتِفْهَامِ - إذَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ - لَا يَقْتَضِي جَوَازَ إضْمَارِهِ فِي الْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ . فَإِنَّ هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ . وَيَسْتَلْزِمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ يُقَدِّرُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِأَنْ يُقَدِّرَ فِي خَبَرِهِ اسْتِفْهَامًا . وَيَجْعَلَهُ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ . وَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرُ مَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " هَذَا رَبِّي " أَهَذَا رَبِّي ؟ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : هَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ . لِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ لَا يُضْمَرُ إذَا كَانَ فَارِقًا بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالِاسْتِخْبَارِ . وَهَؤُلَاءِ اسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ { أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } . وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ . لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِفْهَامُ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِهِ ثَانِيَةً . بَلْ ذِكْرُهُ يُفْسِدُ الْكَلَامَ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } وَقَوْلُهُ { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } وَقَوْلُهُ { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ } وَهَذَا مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَبَلِيغِهِ . وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ : لَعُمْرَك لَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْت دَارِيًا بِسَبْعِ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ ؟ وَقَوْلِهِ : كَذَبَتْك عَيْنُك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطِ غَلَسَ الظَّلَامِ مِنْ الرَّبَابِ خَيَالَا ؟ تَقْدِيرُهُ : أَكَذَبَتْك عَيْنُك ؟ . وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ . لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا بَعْدُ " أَمْ بِثَمَانٍ " و " أَمْ رَأَيْت " يَدُلُّ عَلَى الْأَلِفِ الْمَحْذُوفَةِ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَإِنْ كَانَتْ " أَمْ " هِيَ الْمُتَّصِلَةُ فَكَذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُنْفَصِلَةُ . فَالْخَبَرُ عَلَى بَابِهِ . وَهَؤُلَاءِ مَقْصُودُهُمْ : أَنَّ النَّفْسَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي وُجُودِ السَّيِّئَاتِ . وَلَيْسَتْ سَبَبًا فِيهَا . بَلْ قَدْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَعَاصِيَ عَلَامَةٌ مَحْضَةٌ عَلَى الْعُقُوبَةِ لِاقْتِرَانِهَا بِهَا . لَا أَنَّهَا سَبَبٌ لَهَا . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلِلْعَقْلِ . وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ أَحَدًا وَلَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا بِذَنْبِ . فَقَالَ هُنَا { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَالَ لَهُمْ فِي شَأْنِ أُحُدٍ { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى أَيْضًا { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } . وقال تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ } { ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ ضَرَبَ بِهِمْ الْمَثَلَ لَمَّا أَهْلَكَهَا بِذَلِكَ الْعَذَابِ { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } . وقال تَعَالَى عَنْ أَهْلِ سَبَأٍ { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } - إلَى قَوْلِهِ - { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلَّا الْكَفُورَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا . فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا : فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ . وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ : فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . وَفِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ { أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ . وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ وَعَنْ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .