تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى رَحِمَهُ اللَّهُ { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ } الْآيَتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مِنْ السَّلَفِ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْإِنْسِ ; وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مِنْ الْجِنِّ . لَفْظُ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ جِنْسَ الْمُرَادِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى التَّمْثِيلِ كَمَا يَقُولُ التُّرْجُمَانُ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ الْخُبْزِ فَيُرِيهِ رَغِيفًا وَالْآيَةُ هُنَا قُصِدَ بِهَا التَّعْمِيمُ لِكُلِّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ دَعَا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ كَمَا تَتَنَاوَلُ مَنْ دَعَا الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَكُونُونَ وَسَائِطَ فِيمَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نَهَى عَنْ دُعَائِهِمْ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْ الدَّاعِينَ وَلَا تَحْوِيلَهُ لَا يَرْفَعُونَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يُحَوِّلُونَهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ أَوْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَتَغْيِيرِ صِفَتِهِ أَوْ قَدْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ : { وَلَا تَحْوِيلًا } فَذَكَرَ نَكِرَةً تَعُمُّ أَنْوَاعَ التَّحْوِيلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا نَزَلَ بِوَادٍ يَقُولُ : أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنْ سُفَهَائِهِ فَقَالَتْ الْجِنُّ : الْإِنْسُ تَسْتَعِيذُ بِنَا فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَاذَةُ بِمَخْلُوقِ وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ أَنْ يَقُولَ : أَنْتَ خَيْرُ مُسْتَعَاذٍ يُسْتَعَاذُ بِهِ أَوْلَى . فَالِاسْتِعَاذَةُ وَالِاسْتِجَارَةُ ; وَالِاسْتِغَاثَةُ : كُلُّهَا مِنْ نَوْعِ الدُّعَاءِ أَوْ الطَّلَبِ وَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ . وَلَمَّا كَانَتْ الْكَعْبَةُ بَيْتَ اللَّهِ الَّذِي يُدْعَى وَيُذْكَرُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُسْتَجَارُ بِهِ هُنَاكَ وَقَدْ يُسْتَمْسَكُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَذْيَالِ مَنْ يَسْتَجِيرُ بِهِ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ : إنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمِ وَلَا فَارًّا بِخَرِبَةِ . وَفِي الصَّحِيحِ : { يَعُوذُ عَائِذٌ بِهَذَا الْبَيْتِ } . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الضَّالِّينَ يَسْتَغِيثُونَ بِمَنْ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ أَكْثَرَ مَطَالِبِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا تُخْبِرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنْ الْأُمُورِ الْغَائِبَةِ [ يَكْذِبُونَ ] فِي أَكْثَرِهِ ; بَلْ يَصْدُقُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَكْذِبُونَ فِي أَضْعَافِهَا وَيَقْضُونَ لَهُمْ حَاجَةً وَاحِدَةً وَيَمْنَعُونَهُمْ أَضْعَافَهَا يَكْذِبُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَأَعَانُوا عَلَيْهِ لِإِفْسَادِ حَالِ الرِّجَالِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَكُونُ فِيهِ شُبْهَةً لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا يُخْبِرُ الْكَاهِنُ وَنَحْوُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرَّسُولَ مُبَلِّغًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الرُّسُلَ وَالْمَشَايِخَ يُدَبِّرُونَ الْعَالَمَ بِقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ النَّصَارَى تَقُولُ هَذَا فِي الْمَسِيحِ وَحْدَهُ بِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُولُوهُ فِي إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا مُوسَى أَعْظَمُ وَلَوْ كَانَ هَذَا مُمْكِنًا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسِيحِ خَاصِّيَّةٌ بِهِ : بَلْ مُوسَى أَحَقُّ . وَلِهَذَا كُنْت أَتَنَزَّلُ مَعَ عُلَمَاءِ النَّصَارَى إلَى أَنْ أُطَالِبَهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَجِدُونَ فَرْقًا بَلْ أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنْ الْآيَاتِ أَعْظَمُ فَإِنْ كَانَ حُجَّةً فِي دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ فَمُوسَى أَحَقُّ وَأَمَّا وِلَادَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَب فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ الْخَالِقِ ; لَا عَلَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ .