تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُورَةُ الطَّلَاقِ وَقَالَ : فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الْمُتَّقِيَ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ الْمَضَرَّةَ بِمَا يَجْعَلُهُ لَهُ مِنْ الْمَخْرَجِ وَيَجْلِبُ لَهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِمَا يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُغْتَذَى بِهِ الْإِنْسَانُ ; وَذَلِكَ يَعُمُّ رِزْقَ الدُّنْيَا وَرِزْقَ الْآخِرَةِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : مَا افْتَقَرَ تَقِيٌّ قَطُّ قَالُوا : وَلِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : قَدْ نَرَى مَنْ يَتَّقِي وَهُوَ مَحْرُومٌ . وَمَنْ هُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ مَرْزُوقٌ . فَجَوَابُهُ : أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ الْمُتَّقِيَ يُرْزَقُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِي لَا يُرْزَقُ ; بَلْ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ الرِّزْقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } حَتَّى إنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْحَرَامِ هُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الرِّزْقِ فَالْكُفَّارُ قَدْ يُرْزَقُونَ بِأَسْبَابِ مُحَرَّمَةٍ وَيُرْزَقُونَ رِزْقًا حَسَنًا وَقَدْ لَا يُرْزَقُونَ إلَّا بِتَكَلُّفِ وَأَهْلُ التَّقْوَى يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ وَلَا يَكُونُ رِزْقُهُمْ بِأَسْبَابِ مُحَرَّمَةٍ وَلَا يَكُونُ خَبِيثًا وَالتَّقِيُّ لَا يُحْرَمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَإِنَّمَا يُحْمَى مِنْ فُضُولِ الدُّنْيَا رَحْمَةً بِهِ وَإِحْسَانًا إلَيْهِ ; فَإِنَّ تَوْسِيعَ الرِّزْقِ قَدْ يَكُونُ مَضَرَّةً عَلَى صَاحِبِهِ وَتَقْدِيرَهُ يَكُونُ رَحْمَةً لِصَاحِبِهِ . قَالَ تَعَالَى : { L6097 فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } { L6098 وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } { كُلًّا } أَيْ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَكُونُ مُكْرَمًا وَلَا [ كُلُّ ] مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يَكُونُ مُهَانًا ; بَلْ قَدْ يُوَسَّعُ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إمْلَاءً وَاسْتِدْرَاجًا وَقَدْ يُقَدَّرُ عَلَيْهِ رِزْقُهُ حِمَايَةً وَصِيَانَةً لَهُ وَضِيقُ الرِّزْقِ عَلَى عَبْدٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ لِمَا لَهُ مِنْ ذُنُوبٍ وَخَطَايَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَكْثَرَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَالِاسْتِغْفَارُ سَبَبٌ لِلرِّزْقِ وَالنِّعْمَةِ وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِلْمَصَائِبِ وَالشَّدَّةِ فَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } { فَلَوْلَا إذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ يَبْتَلِي عِبَادَهُ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ; فَالْحَسَنَاتُ هِيَ النِّعَمُ وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الْمَصَائِبُ ; لِيَكُونَ الْعَبْدُ صَبَّارًا شَكُورًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدِ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } .