تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
بَابٌ الْآنِيَةُ سُئِلَ عَنْ أَوَانِي النُّحَاسِ الْمُطَعَّمَةِ بِالْفِضَّةِ - كَالطَّاسَاتِ وَغَيْرِهَا - هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا ؟ .
1
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ مِنْ الْآنِيَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْآلَاتِ - سَوَاءٌ سُمِّيَ الْوَاحِدُ مِنْ ذَلِكَ إنَاءً أَوْ لَمْ يُسَمَّ - وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُضَبَّبِ كَالْمَبَاخِرِ وَالْمَجَامِرِ وَالطُّشُوتِ والشمعدانات وَأَمْثَالِ ذَلِكَ : فَإِنْ كَانَتْ الضَّبَّةُ يَسِيرَةً لِحَاجَةِ مِثْلَ تَشْعِيبِ الْقَدَحِ وَشُعَيْرَةِ السِّكِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ : فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ . وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالْحَاجَةِ هنا : أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تِلْكَ الصُّورَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّشْعِيبِ وَالشُّعَيْرَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَوْنِهَا مِنْ فِضَّةٍ بَلْ هَذَا يُسَمُّونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُفْرَدًا وَتَبَعًا حَتَّى لَوْ احْتَاجَ إلَى شَدِّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ ; أَوْ اتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ : جَازَ - كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ - مَعَ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَمَعَ أَنَّهُ مُفْرَدٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَشْرَبُهُ إلَّا فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ شُرْبُهُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَقِيهِ الْبَرْدَ أَوْ يَقِيهِ السِّلَاحَ أَوْ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ إلَّا ثَوْبًا مِنْ حَرِيرٍ مَنْسُوجٍ بِذَهَبِ أَوْ فِضَّةٍ جَاز لَهُ لُبْسُهُ ; فَإِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَطَاعِمِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَلَابِسِ ; لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْخَبَائِثِ بِالْمُمَازَجَةِ وَالْمُخَالَطَةِ لِلْبَدَنِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِهَا بِالْمُلَابَسَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لِلظَّاهِرِ وَلِهَذَا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ الَّتِي تَحْرُمُ مُلَابَسَتُهَا يَحْرُمُ أَكْلُهَا وَيَحْرُمُ مِنْ أَكْلِ السُّمُومِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَضَرَّاتِ مَا لَيْسَ بِنَجِسِ وَلَا يَحْرُمُ مُبَاشَرَتُهَا . ثُمَّ مَا حُرِّمَ لِخُبْثِ جِنْسِهِ أَشَدُّ مِمَّا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ ; فَإِنَّ هَذَا يُحَرِّمُ الْقَدْرَ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ; كَمَا أُبِيحَ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ لِحَاجَتِهِنَّ إلَى التَّزَيُّنِ ; وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ وَأُبِيحَ لِلرَّجُلِ مِنْ ذَلِكَ الْيَسِيرُ كَالْعِلْمِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ ; وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ جَوَازُ التَّدَاوِي بِهَذَا الضَّرْبِ دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا { رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ مِنْ حَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } . وَنَهَى عَنْ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ وَقَالَ : { إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ } وَنَهَى عَنْ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ ; وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ لِأَجْلِ التَّدَاوِي بِهَا وَقَالَ : { إنَّ نَقْنَقَتَهَا تَسْبِيحٌ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } وَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِإِذْنِهِ للعرنيين فِي التَّدَاوِي بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ النَّجِسَةِ ; لِنَهْيِهِ عَنْ التَّدَاوِي بِمِثْلِ ذَلِكَ ; وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا يُصِيبُ الْأَبْدَانَ وَالثِّيَابَ وَالْآنِيَةَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِطَهَارَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ شُرْبِهَا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ ; وَفِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ : فَذَاكَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْقَذَارَةِ الْمُلْحَقِ لَهَا بِالْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِيِّ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ الَّتِي يُشْرَعُ النَّظَافَةُ مِنْهَا كَمَا يُشْرَعُ نَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ ; وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ ; وَإِحْفَاءُ الشَّارِبِ . وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مُحَرَّمًا فِي بَابِ الْآنِيَةِ وَالْمَنْقُولَاتِ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَآنِيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الصِّنْفَيْنِ بِخِلَافِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبَاسِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ . وَبَابُ الْخَبَائِثِ بِالْعَكْسِ ; فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِيمَا يَنْفَصِلُ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَا لَا يُبَاحُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُبَاحُ إطْفَاءُ الْحَرِيقِ بِالْخَمْرِ وَإِطْعَامُ الْمَيْتَةِ لِلْبُزَاةِ وَالصُّقُورِ ; وَإِلْبَاسُ الدَّابَّةِ الثَّوْبَ النَّجِسَ ; وَكَذَلِكَ الِاسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْخَبَائِثِ فِيهَا يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ وَكَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ فَإِنَّ هَذَا غَايَةُ السَّرَفِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ غَلَطُ مَنْ رَخَّصَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي إلْبَاسِ دَابَّتِهِ الثَّوْبَ الْحَرِيرَ ; قِيَاسًا عَلَى إلْبَاسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ وَوَطْأَهُ قِيَاسًا عَلَى الْمُصَوَّرَاتِ ; أَوْ مَنْ يُبِيحُ تَحْلِيَةَ دَابَّتِهِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ يُبِيحُ إلْبَاسَهَا الثَّوْبَ النَّجِسَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ تَحْرِيمُ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ كَمَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ لِبَاسِهِ . وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ حَرَّمَ افْتِرَاشَهُ عَلَى النِّسَاءِ - كَمَا هُوَ قَوْلُ المراوزة مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَبَاحَهُ لِلرِّجَالِ ; كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَإِنْ كَانَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الِافْتِرَاشَ كَاللِّبَاسِ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاشَ لِبَاسٌ كَمَا قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ . إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبَاحَةِ التَّزَيُّنِ عَلَى الْبَدَنِ إبَاحَةُ الْمُنْفَصِلِ ; كَمَا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . وَإِذَا تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ حَاجَةً وَمَا يُسَمُّونَهُ ضَرُورَةً : فَيَسِيرُ الْفِضَّةِ التَّابِعُ يُبَاحُ عِنْدَهُمْ لِلْحَاجَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ : { إنَّ قَدَحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْكَسَرَ شُعِّبَ بِالْفِضَّةِ } سَوَاءٌ كَانَ الشَّاعِبُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ هُوَ أَنَسًا . وَأَمَّا إنْ كَانَ الْيَسِيرُ لِلزِّينَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ . قِيلَ : وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُبَاشَرُ بِالِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَيُنْهَى عَنْ الضَّبَّةِ فِي مَوْضِعِ الشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا كُرِهَ حَلْقَةُ الذَّهَبِ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا : { مِنْ شُرْبٍ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ } فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلِهَذَا كَانَ الْمُبَاحُ مِنْ الضَّبَّةِ إنَّمَا يُبَاحُ لَنَا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : يُكْرَهُ . وَقِيلَ : يَحْرُمُ ; وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَحْمَد الْحَلْقَةَ فِي الْإِنَاءِ اتِّبَاعًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ . وَالْكَرَاهَةُ مِنْهُ : هَلْ تُحْمَلُ عَلَى التَّنْزِيهِ أَوْ التَّحْرِيمِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِهِ . وَهَذَا الْمَنْعُ هُوَ مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ اقْتَضَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ اقْتَضَى النَّهْيَ عَنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ لَوْلَا مَا وَرَدَ مِنْ اسْتِثْنَاءِ مَوْضِعِ إصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ بَيْنَ بَابِ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ وَبَابِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ فَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ نَهَى عَنْ بَعْضِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءِ كَانَ أَمْرًا بِجَمِيعِهِ . وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ حَيْثُ أَمَرَ بِهِ كَانَ أَمْرًا بِمَجْمُوعِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ وَكَذَلِكَ إذَا أُبِيحَ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ } . وَحَيْثُ حُرِّمَ النِّكَاحُ كَانَ تَحْرِيمًا لِأَبْعَاضِهِ حَتَّى يَحْرُمَ الْعَقْدُ مُفْرَدًا وَالْوَطْءُ مُفْرَدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَى آخِرِهَا وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَا يَنْكِحْ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا فَرَّقَ مَالِكٌ وَأَحْمَد - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - بَيْنَ مَنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ لَا يَبَرُّ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَ بَعْضَهُ : أَنَّهُ يَحْنَثُ . وَإِذَا كَانَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ يَقْتَضِي شُمُولَ التَّحْرِيمِ لِأَبْعَاضِ ذَلِكَ : بَقِيَ اتِّخَاذُ الْيَسِيرِ لِحَاجَةِ أَوْ مُطْلَقًا فَالِاتِّخَاذُ الْيَسِيرُ فِيهِ تَفْصِيلٌ ; وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْآنِيَةِ بِدُونِ اسْتِعْمَالِهَا فَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ ; وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ ; وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا تَحْرِيمَهُ ; إذْ الْأَصْلُ أَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ كَآلَاتِ الْمَلَاهِي . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْفِضَّةُ التَّابِعَةُ كَثِيرَةً فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي تَحْدِيدِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ ; وَالتَّرْخِيصِ فِي لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ أَوْ تَحْلِيَةِ السِّلَاحِ مِنْ الْفِضَّةِ ; وَهَذَا فِيهِ إبَاحَةُ يَسِيرِ الْفِضَّةِ مُفْرَدًا ; لَكِنْ فِي اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي وَذَلِكَ يُبَاحُ فِيهِ مَا لَا يُبَاحُ فِي بَاب الْآنِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ ; وَلِهَذَا غَلِطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ; حَيْثُ حَكَى قَوْلًا بِإِبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ تَبَعًا فِي الْآنِيَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرٍ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي ; كَعَلَمِ الذَّهَبِ وَنَحْوِهِ . وَفِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي ( بَابِ اللِّبَاسِ عَنْ أَحْمَد أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : الرُّخْصَةُ مُطْلَقًا ; لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ { نَهَى عَنْ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا } وَلَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ . وَالثَّانِي : الرُّخْصَةُ فِي السِّلَاحِ فَقَطْ . وَالثَّالِثُ : فِي السَّيْفِ خَاصَّةً وَفِيهِ وَجْهٌ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا ; لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ { لَا يُبَاحُ الذَّهَبُ وَلَا خَرِيصَةٌ } وَالْخَرِيصَةُ عَيْنُ الْجَرَادَةِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ دُونَ التَّابِعِ ; وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ ; وَإِنْ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّهْيُ . وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بَيْنَ يَسِيرِ الْحَرِيرِ مُفْرَدًا كَالتِّكَّةِ فَنَهَى عَنْهُ ; وَبَيَّنَ يَسِيرَهُ تَبَعًا كَالْعَلَمِ ; إذْ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَعَ فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ . فَكَمَا يُفَرَّقُ فِي الرُّخْصَةِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ : فَيُفَرَّقُ بَيْنَ التَّابِعِ وَالْمُفْرَدِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ إلَّا مُقَطَّعًا عَلَى التَّابِعِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْفِضَّةُ قَدْ رُخِّصَ مِنْهَا فِي بَابِ اللِّبَاسِ وَالتَّحَلِّي فِي الْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا : فَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا فِي الْيَسِيرِ أَوْ الْكَثِيرِ التَّابِعِ فِي الْآنِيَةِ أَلْحَقُوهَا بِالْحَرِيرِ الَّذِي أُبِيحَ يَسِيرُهُ تَبَعًا لِلرِّجَالِ فِي الْفِضَّةِ الَّتِي أُبِيحَ يَسِيرُهَا مُفْرَدًا أَوَّلًا ; وَلِهَذَا أُبِيحَ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد - حِلْيَةُ الْمِنْطَقَةِ مِنْ الْفِضَّةِ وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ لِبَاسِ الْحَرْبِ كَالْخُوذَةِ ; وَالْجَوْشَنِ ; وَالرَّانّ ; وَحَمَائِلِ السَّيْفِ . وَأَمَّا تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا قَالُوا : الرُّخْصَةُ وَقَعَتْ فِي بَابِ اللِّبَاسِ دُونَ بَاب الْآنِيَةِ ; وَبَابُ اللِّبَاسِ أَوْسَعُ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا أَقْوَى ; إذْ لَا أَثَرَ فِي هَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالْقِيَاسُ كَمَا تَرَى . وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ ; سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْفِضَّةِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا لَكِنْ فِي يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي الْآنِيَةِ وَجْهٌ لِلرُّخْصَةِ فِيهِ . وَأَمَّا التَّوَضُّؤُ وَالِاغْتِسَالُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد لَكِنَّهُ مُرَكَّبٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَشْهُرُهُمَا عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ; وَاللِّبَاسِ الْمُحَرَّمِ كَالْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْحَجِّ بِالْمَالِ الْحَرَامِ ; وَذَبْحِ الشَّاةِ بِالسِّكِّينِ الْمُحَرَّمَةِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ أَدَاءُ وَاجِبٍ وَاسْتِحْلَالُ مَحْظُورٍ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يُصَحِّحُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ وَيُبِيحَ الذَّبْحَ : فَإِنَّهُ يُصَحِّحُ الطَّهَارَةَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَأَمَّا عَلَى الْمَنْعِ فَلِأَصْحَابِهِ قَوْلَانِ : ( أَحَدُهُمَا : الصِّحَّةُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ الخرقي وَغَيْرِهِ . و ( الثَّانِي : الْبُطْلَانُ . كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ; طَرْدًا لِقِيَاسِ الْبَابِ . وَاَلَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ الخرقي أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد : فَرَّقُوا بِفَرْقَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعِبَادَةِ ; فَإِنَّ الْإِنَاءَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْمُتَطَهِّرِ بِخِلَافِ لَابِسِ الْمُحَرَّمِ وَآكِلِهِ وَالْجَالِسِ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ مُبَاشِرٌ لَهُ قَالُوا : فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَهَبَ إلَى الْجُمْعَةِ بِدَابَّةٍ مَغْصُوبَةٍ . وَضَعَّفَ آخَرُونَ هَذَا الْفَرْقَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ الْمُحَرَّمِ وَبَيْنَ أَنْ يَغْتَرِفَ مِنْهُ وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّارِبَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَهُوَ حِينَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فِي بَطْنِهِ يَكُونُ قَدْ انْفَصَلَ عَنْ الْإِنَاءِ . وَالْفَرْقُ الثَّانِي - وَهُوَ أَفْقَهُ - : قَالُوا : التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ فِي رُكْنِ الْعِبَادَةِ وَشَرْطِهَا أَثَّرَ فِيهَا كَمَا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فِي اللِّبَاسِ أَوْ الْبُقْعَةِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا لَمْ يُؤَثِّرْ وَالْإِنَاءُ فِي الطَّهَارَةِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهَا فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .