تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
( فَصْلٌ ) : وَلَمَّا أَعْرَضَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ وَالْحُرُوفِ وَأَرْبَابِ الْعَمَلِ وَالصَّوْتِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ : تَجِدُهُمْ فِي الْعَقْلِ عَلَى طَرِيقِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ وَحْدَهُ أَصْلَ عِلْمِهِمْ وَيُفْرِدُونَهُ وَيَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ وَالْقُرْآنَ تَابِعَيْنِ لَهُ . وَالْمَعْقُولَاتُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الْأَوَّلِيَّةُ الْمُسْتَغْنِيَةُ بِنَفْسِهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ يَذُمُّونَ الْعَقْلَ وَيَعِيبُونَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْعَالِيَةَ وَالْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ وَيُقِرُّونَ مِنْ الْأُمُورِ بِمَا يُكَذِّبُ بِهِ صَرِيحُ الْعَقْلِ . وَيَمْدَحُونَ السُّكْرَ وَالْجُنُونَ وَالْوَلَهَ وَأُمُورًا مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ زَوَالِ الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ كَمَا يُصَدِّقُونَ بِأُمُورِ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ بُطْلَانُهَا مِمَّنْ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ وَكِلَا الطَّرَفَيْنِ مَذْمُومٌ بَلْ الْعَقْلُ شَرْطٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُلُومِ وَكَمَالِ وَصَلَاحِ الْأَعْمَالِ وَبِهِ يَكْمُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ ; لَكِنَّهُ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ ; بَلْ هُوَ غَرِيزَةٌ فِي النَّفْسِ وَقُوَّةٌ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ قُوَّةِ الْبَصَرِ الَّتِي فِي الْعَيْنِ ; فَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ كَانَ كَنُورِ الْعَيْنِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ نُورُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ . وَإِنْ انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يُبْصِرْ الْأُمُورَ الَّتِي يَعْجِزُ وَحْدَهُ عَنْ دَرْكِهَا وَإِنْ عُزِلَ بِالْكُلِّيَّةِ : كَانَتْ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ مَعَ عَدَمِهِ : أُمُورًا حَيَوَانِيَّةً قَدْ يَكُونُ فِيهَا مَحَبَّةٌ وَوَجْدٌ وَذَوْقٌ كَمَا قَدْ يَحْصُلُ لِلْبَهِيمَةِ . فَالْأَحْوَالُ الْحَاصِلَةُ مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ نَاقِصَةٌ وَالْأَقْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لِلْعَقْلِ بَاطِلَةٌ . وَالرُّسُلُ جَاءَتْ بِمَا يَعْجِزُ الْعَقْلُ عَنْ دَرْكِهِ . لَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ لَكِنْ الْمُسْرِفُونَ فِيهِ قَضَوْا بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ وَجَوَازِهَا وَامْتِنَاعِهَا لِحُجَجِ عَقْلِيَّةٍ بِزَعْمِهِمْ اعْتَقَدُوهَا حَقًّا وَهِيَ بَاطِلٌ وَعَارَضُوا بِهَا النُّبُوَّاتِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ وَالْمُعْرِضُونَ عَنْهُ صَدَّقُوا بِأَشْيَاءَ بَاطِلَةٍ وَدَخَلُوا فِي أَحْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فَاسِدَةٍ وَخَرَجُوا عَنْ التَّمْيِيزِ الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَنِي آدَمَ عَلَى غَيْرِهِمْ . وَقَدْ يَقْتَرِبُ مِنْ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَارَةً بِعَزْلِ الْعَقْلِ عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ وَتَارَةً بِمُعَارَضَةِ السُّنَنِ بِهِ . فَهَذَا الِانْحِرَافُ الَّذِي بَيْنَ الْحَرْفِيَّةِ وَالصَّوْتِيَّةِ فِي الْعَقْلِ التَّمْيِيزِيِّ بِمَنْزِلَةِ الِانْحِرَافِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْوَجْدِ الْقَلْبِيِّ فَإِنَّ الصَّوْتِيَّةَ صَدَّقُوا وَعَظَّمُوهُ وَأَسْرَفُوا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ هُوَ الْمِيزَانَ وَهُوَ الْغَايَةَ كَمَا يَفْعَلُ أُولَئِكَ فِي الْعَقْلِ وَالْحَرْفِيَّةُ أَعْرَضَتْ عَنْ ذَلِكَ وَطَعَنَتْ فِيهِ وَلَمْ تَعُدَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْحِرَفِ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْعِلْمَ وَبَابُهُ هُوَ الْعَقْلُ وَأَهْلَ الصَّوْتِ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْعَمَلَ وَبَابُهُ الْحُبُّ : صَارَ كُلُّ فَرِيقٍ يُعَظِّمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَيَذُمُّ الْآخَرَ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ : عَقْلٍ عِلْمِيٍّ . وَعَمَلٍ ذِهْنِيٍّ وَحُبِّ . تَمْيِيزٍ وَحَرَكَةٍ . قَالَ وَحَالُ . حَرْفٍ وَصَوْتٍ . وَكِلَاهُمَا إذَا كَانَ مَوْزُونًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ هُوَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمِّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .