تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ وَأَصْلُ ذَلِكَ الْعِلْمُ ; فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ الْعَدْلُ وَالظُّلْمُ إلَّا بِالْعِلْمِ . فَصَارَ الدِّينُ كُلُّهُ الْعِلْمَ وَالْعَدْلَ ; وَضِدُّ ذَلِكَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } وَلَمَّا كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا - وَذَلِكَ يَقَعُ مِنْ الرُّعَاةِ تَارَةً وَمِنْ الرَّعِيَّةِ تَارَةً وَمِنْ غَيْرِهِمْ تَارَةً - كَانَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ الصَّبْرُ عَلَى ظُلْمِ الْأَئِمَّةِ وَجَوْرِهِمْ كَمَا هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ لَمَّا قَالَ : { إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلَقَّوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } وَقَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَالَ : { أَدُّوا إلَيْهِمْ الَّذِي لَهُمْ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } وَانْهَوْا عَنْ قِتَالِهِمْ مَا صَلَّوْا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعَهُمْ أَصْلُ الدِّينِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَمَعَهُمْ حَسَنَاتٌ وَتَرْكُ سَيِّئَاتٍ كَثِيرَةٍ . وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ أَوْ غَيْرِ سَائِغٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَكْثَرِ النُّفُوسِ تُزِيلُ الشَّرَّ بِمَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَتُزِيلُ الْعُدْوَانَ بِمَا هُوَ أَعْدَى مِنْهُ ; فَالْخُرُوج عَلَيْهِمْ يُوجِبُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِمْ فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وَقَوْلِهِ : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وَقَوْلِهِ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } . وَهَذَا عَامٌّ فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ وَفِي الرَّعِيَّةِ إذَا أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ; فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى مَا أُصِيبُوا بِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَصْبِرُ الْمُجَاهِدُونَ عَلَى مَا يُصَابُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . فَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي الْعِرْضِ أَوْلَى وَأَوْلَى ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ وَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّبْرِ وَالْحِلْمِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا أَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ الشَّجَاعَةِ وَالسَّمَاحَةِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْإِمَارَةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ . فَكَمَا وَجَبَ عَلَى الْأَئِمَّةِ الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الرَّعِيَّةِ وَظُلْمِهَا إذَا لَمْ تَتِمَّ الْمَصْلَحَةُ إلَّا بِذَلِكَ إذْ كَانَ تَرْكُهُ يُفْضِي إلَى فَسَادٍ أَكْثَرَ مِنْهُ : فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ الصَّبْرُ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَظُلْمِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّبْرِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ . فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ لِلْآخَرِ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا كَمَا ذَكَرَ بَعْضَهُ فِي " كِتَابِ الْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ " وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ لِلْآخَرِ وَيَحْلُمَ عَنْهُ فِي أُمُورٍ ; فَلَا بُدَّ مِنْ السَّمَاحَةِ وَالصَّبْرِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . فَبِالْحِلْمِ يَعْفُو عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَبِالسَّمَاحَةِ يُوَصِّلُ إلَيْهِمْ الْمَنَافِعَ فَيَجْمَعُ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ . فَأَمَّا الْإِمْسَاكُ عَنْ ظُلْمِهِمْ وَالْعَدْلُ عَلَيْهِمْ فَوُجُوبُ ذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .