تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ فَيَجْحَدُهُ أَوْ يَغْصِبُهُ شَيْئًا . ثُمَّ يُصِيبُ لَهُ مَالًا مِنْ جِنْسِ مَالِهِ . فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ حَقِّهِ ؟
1
فَأَجَابَ : وَأَمَّا إذَا كَانَ لِرَجُلِ عِنْدَ غَيْرِهِ حَقٌّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ . فَهَلْ يَأْخُذُهُ أَوْ نَظِيرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ فَهَذَا نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتٍ مِثْلَ اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا وَاسْتِحْقَاقَ الْوَلَدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَالِدُهُ وَاسْتِحْقَاقِ الضَّيْفِ الضِّيَافَةَ عَلَى مَنْ نَزَلَ بِهِ فَهُنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدُونِ إذْنِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِلَا رَيْبٍ ; كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَبُنَيَّ . فَقَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } فَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ نَفَقَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ . وَهَكَذَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ غُصِبَ مِنْهُ مَالُهُ غَصْبًا ظَاهِرًا يَعْرِفُهُ النَّاسُ فَأَخَذَ الْمَغْصُوبَ أَوْ نَظِيرَهُ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَهُوَ يَمْطُلُهُ فَأَخَذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَالثَّانِي : أَلَّا يَكُونَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ظَاهِرًا . مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَحَدَ دَيْنَهُ أَوْ جَحَدَ الْغَصْبَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي . فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَالثَّانِي : لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُسَوِّغُ الْأَخْذَ مَنْ جِنْسِ الْحَقِّ ; لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ وَلَا يُسَوِّغُ الْأَخْذَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَا الْغَرِيمِ . وَالْمُجَوِّزُونَ يَقُولُونَ : إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ثَبَتَتْ الْمُعَاوَضَةُ بِدُونِ إذْنِهِ لِلْحَاجَةِ ; لَكِنْ مَنْ مَنَعَ الْأَخْذَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ الْحَقِّ اسْتَدَلَّ بِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ { بَشِيرِ بْنِ الخصاصية أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لَنَا جِيرَانًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا فَإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَنَأْخُذُهُ ؟ قَالَ : لَا أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ أَهْلَ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : لَا } رَوَاهُ أَبُو داود وَغَيْرُهُ . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُبَيِّنُ أَنَّ [ حَقَّ ] الْمَظْلُومِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذَا كَانَ [ سَبَبُهُ لَيْسَ ] ظَاهِرًا [ و ] أَخَذَهُ خِيَانَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ يَقْصِدُ أَخْذَ نَظِيرِ حَقِّهِ ; لَكِنَّهُ خَانَ الَّذِي ائْتَمَنَهُ فَإِنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ إلَيْهِ مَالَهُ فَأَخَذَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالِاسْتِحْقَاقُ [ لَيْسَ ] ظَاهِرًا كَانَ خَائِنًا . وَإِذَا قَالَ : أَنَا مُسْتَحِقٌّ لِمَا أَخَذْته فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا . وَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَنْكَرَتْ نِكَاحَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَإِذَا قَهَرَهَا عَلَى الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِبَيِّنَةٍ اعْتَقَدَ صِدْقَهَا وَكَانَتْ كَاذِبَةً فِي الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِمَا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ . فَإِنْ قِيلَ لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ قُدَّامَ النَّاسِ ; لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي الظَّاهِرِ ; لَكِنَّ الشَّأْنَ إذَا كَانَ يُعْلَمُ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ؟ قِيلَ : فِعْلُ ذَلِكَ سِرًّا يَقْتَضِي مَفَاسِدَ كَثِيرَةً مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَظِنَّةِ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ وَفِيهِ أَلَّا يَتَشَبَّهَ بِهِ مَنْ لَيْسَ حَالُهُ كَحَالِهِ فِي الْبَاطِنِ فَقَدْ يَظُنُّ الْإِنْسَانُ خَفَاءَ ذَلِكَ فَيُظْهِرَ مَفَاسِدَ كَثِيرَةً وَيَفْتَحَ أَيْضًا بَابَ التَّأْوِيلِ . وَصَارَ هَذَا كَالْمَظْلُومِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِصَارُ إلَّا بِالظُّلْمِ كَالْمُقْتَصِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ الِاقْتِصَاصُ إلَّا بِعُدْوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَاصُ . وَذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْخِيَانَةِ مُحَرَّمَةُ الْجِنْسِ . فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ بِهَا ; كَمَا لَوْ جَرَّعَهُ خَمْرًا أَوْ تلوط بِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا مُحَرَّمُ الْجِنْسِ . وَالْخِيَانَةُ مِنْ جِنْسِ الْكَذِبِ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَيْسَ بِخِيَانَةِ ; بَلْ هُوَ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ خِيَانَةِ مَنْ خَانَ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَالًا يَسْتَحِقُّ نَظِيرَهُ . قِيلَ هَذَا ضَعِيفٌ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ { أَنَّ قَوْمًا لَا يَدَعُونَ لَنَا شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إلَّا أَخَذُوهَا . أَفَنَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُونَ ؟ فَقَالَ : لَا أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك . وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الزَّكَاةِ : { أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا ؟ فَقَالَ : لَا } . الثَّانِي : أَنَّهُ قَالَ : { وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } . وَلَوْ أَرَادَ بِالْخِيَانَةِ الْأَخْذَ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ لَمْ يَكُنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ خَانَهُ وَمَنْ لَمْ يَخُنْهُ وَتَحْرِيمُ مِثْلِ هَذَا ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ وَسُؤَالٍ . وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّك لَا تُقَابِلُهُ عَلَى خِيَانَتِهِ فَتَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِك . فَإِذَا أُودِعَ الرَّجُلُ مَالًا فَخَانَهُ فِي بَعْضِهِ ثُمَّ أُودِعَ الْأَوَّلُ نَظِيرَهُ فَفَعَلَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } . الثَّالِثُ : أَنَّ كَوْنَ هَذَا خِيَانَةً لَا رَيْبَ فِيهِ وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي جَوَازِهِ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ ; فَإِنَّ الْأُمُورَ مِنْهَا مَا يُبَاحُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالْقَتْلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْمَالِ . وَمِنْهَا مَا لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقِصَاصُ : كَالْفَوَاحِشِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } . وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } . وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } . فَأَبَاحَ الْعُقُوبَةَ وَالِاعْتِدَاءَ بِالْمِثْلِ . فَلَمَّا قَالَ هَاهُنَا : { وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } عُلِمَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُبَاحُ فِيهِ الْعُقُوبَةُ بِالْمِثْلِ .