تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : فَصْلٌ فِي وُجُوبِ اخْتِصَاصِ الْخَالِقِ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ : فَلَا يُعْمَلُ إلَّا لَهُ وَلَا يُرْجَى إلَّا هُوَ هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي ابْتَدَأَكَ بِخَلْقِكَ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْكَ بِنَفْسِ قُدْرَتِهِ عَلَيْكَ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْك أَصْلًا ; وَمَا فَعَلَ بِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ . ثُمَّ إذَا احْتَجْتَ إلَيْهِ فِي جَلْبِ رِزْقٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ : فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالرِّزْقِ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ الضَّرَرَ لَا يَدْفَعُهُ غَيْرُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ } { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُنْعِمُ عَلَيْكَ وَيُحْسِنُ إلَيْكَ بِنَفْسِهِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ مَا تَسَمَّى بِهِ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ; إذْ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ; الْوَدُودُ الْمَجِيدُ ; وَهُوَ قَادِرٌ بِنَفْسِهِ وَقُدْرَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ وَكَذَلِكَ رَحْمَتُهُ وَعِلْمُهُ وَحِكْمَتُهُ : لَا يَحْتَاجُ إلَى خَلْقِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ ; بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ الْعَالَمِينَ { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } { وَقَالَ مُوسَى إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا ; وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا ; وَلَوْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي شَيْئًا } إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ . فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ثَابِتٌ لَهُ بِنَفْسِهِ وَاجِبٌ لَهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ لَا يَفْتَقِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ ; بَلْ أَفْعَالُهُ مِنْ كَمَالِهِ : كَمُلَ فَفَعَلَ ; وَإِحْسَانُهُ وَجُودُهُ مِنْ كَمَالِهِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لِحَاجَةِ إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ ; بَلْ كُلَّمَا يُرِيدُهُ فَعَلَهُ ; فَإِنَّهُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ بَالِغُ أَمْرِهِ ; فَكُلُّ مَا يَطْلُبُ فَهُوَ يَبْلُغُهُ وَيَنَالُهُ وَيَصِلُ إلَيْهِ وَحْدَهُ لَا يُعِينُهُ أَحَدٌ وَلَا يَعُوقُهُ أَحَدٌ لَا يَحْتَاجُ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ إلَى مُعِينٍ وَمَا لَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ظَهِيرٌ ; وَلَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ . فَصْلٌ وَالْعَبْدُ كُلَّمَا كَانَ أَذَلَّ لِلَّهِ وَأَعْظَمَ افْتِقَارًا إلَيْهِ وَخُضُوعًا لَهُ : كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ وَأَعَزَّ لَهُ وَأَعْظَمَ لِقَدْرِهِ فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ : أَعْظَمُهُمْ عُبُودِيَّةً لِلَّهِ . وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَكَمَا قِيلَ : احْتَجْ إلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَاسْتَغْنِ عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ وَأَحْسِنْ إلَى مَنْ شِئْت تَكُنْ أَمِيرَهُ وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ : - بَيْنَ التَّذَلُّلِ وَالتَّدَلُّلِ نُقْطَةٌ فِي رَفْعِهَا تَتَحَيَّرُ الْأَفْهَامُ ذَاكَ التَّذَلُّلُ شِرْكٌ فَافْهَمْ يَا فَتًى بِالْخُلْفِ فَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ قَدْرًا وَحُرْمَةً عِنْدَ الْخَلْقِ : إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِمْ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنْ أَحْسَنْتَ إلَيْهِمْ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ : كُنْتَ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ وَمَتَى احْتَجْتَ إلَيْهِمْ - وَلَوْ فِي شَرْبَةِ مَاءٍ - نَقَصَ قَدْرُكَ عِنْدَهُمْ بِقَدْرِ حَاجَتِكَ إلَيْهِمْ وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ . وَلِهَذَا قَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ لَمَّا سُئِلَ فِيمَ السَّلَامَةُ مِنْ النَّاسِ ؟ قَالَ : أَنْ يَكُونَ شَيْؤُك لَهُمْ مَبْذُولًا وَتَكُونَ مِنْ شَيْئِهِمْ آيِسًا لَكِنْ إنْ كُنْتَ مُعَوِّضًا لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَكَانُوا مُحْتَاجِينَ فَإِنْ تَعَادَلَتْ الْحَاجَتَانِ تَسَاوَيْتُمْ كَالْمُتَبَايِعَيْن لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَضْلٌ عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ كَانُوا إلَيْكَ أَحْوَجَ خَضَعُوا لَكَ . فَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ : أَكْرَمُ مَا تَكُونُ عَلَيْهِ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ . وَأَفْقَرُ مَا تَكُونُ إلَيْهِ . وَالْخَلْقُ : أَهْوَنُ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُحْتَاجُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَوَائِجَكَ وَلَا يَهْتَدُونَ إلَى مَصْلَحَتِكَ بَلْ هُمْ جَهَلَةٌ بِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ فَكَيْفَ يَهْتَدُونَ إلَى مَصْلَحَةِ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهَا وَلَا يُرِيدُونَ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا إرَادَةَ . وَالرَّبُّ تَعَالَى يَعْلَمُ مَصَالِحَكَ وَيَقْدِرُ عَلَيْهَا وَيُرِيدُهَا رَحْمَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَذَلِكَ صِفَتُهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ لَا شَيْءَ آخَرَ جَعَلَهُ مُرِيدًا رَاحِمًا بَلْ رَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا إلَّا لِحَاجَتِهِمْ وَمَصْلَحَتِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ وَالْحِكْمَةُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ إلَّا ذَلِكَ لَكِنَّ السَّعِيدَ مِنْهُمْ الَّذِي يَعْمَلُ لِمَصْلَحَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ لَا لِمَا يَظُنُّهُ مَصْلَحَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ . فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : ظَالِمٌ . وَعَادِلٌ . وَمُحْسِنٌ . فَالظَّالِمُ : الَّذِي يَأْخُذُ مِنْك مَالًا أَوْ نَفْعًا وَلَا يُعْطِيكَ عِوَضَهُ أَوْ يَنْفَعُ نَفْسَهُ بِضَرَرِكَ . وَالْعَادِلُ : الْمُكَافِئُ . كالبايع لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ كُلٌّ بِهِ يَقُومُ الْوُجُودُ وَكُلٌّ منهما مُحْتَاجٌ إلَى صَاحِبِهِ كَالزَّوْجَيْنِ وَالْمُتَبَايِعَيْن وَالشَّرِيكَيْنِ . وَالْمُحْسِنُ الَّذِي يُحْسِنُ لَا لِعِوَضِ يَنَالُهُ مِنْكَ . فَهَذَا إنَّمَا عَمَلٌ لِحَاجَتِهِ وَمَصْلَحَتِهِ وَهُوَ انْتِفَاعُهُ بِالْإِحْسَانِ وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ مِمَّا تُحِبُّهُ نَفْسُهُ مِنْ الْأَجْرِ أَوْ طَلَبِ مَدْحِ - الْخَلْقِ وَتَعْظِيمِهِمْ أَوْ التَّقَرُّبِ إلَيْك إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَبِكُلِّ حَالٍ : مَا أَحْسَنَ إلَيْك إلَّا لِمَا يَرْجُو مِنْ الِانْتِفَاعِ . وَسَائِرُ الْخَلْقِ إنَّمَا يُكْرِمُونَك وَيُعَظِّمُونَكَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْكَ وَانْتِفَاعِهِمْ بِكَ إمَّا بِطْرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَشَارِكَيْن وَالزَّوْجَيْنِ مُحْتَاجٌ إلَى الْآخَرِ وَالسَّيِّدُ مُحْتَاجٌ إلَى مَمَالِيكِهِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَالْمُلُوكُ مُحْتَاجُونَ إلَى الْجُنْدِ وَالْجُنْدُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا بُنِيَ أَمْرُ الْعَالَمِ وَأَمَّا بِطَرِيقِ الْإِحْسَانِ مِنْكَ إلَيْهِمْ . فَأَقْرِبَاؤُكَ وَأَصْدِقَاؤُكَ وَغَيْرُهُمْ إذَا أَكْرَمُوكَ لِنَفْسِكَ فَهُمْ إنَّمَا يُحِبُّونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِنَفْسِكَ مِنْ الْكَرَامَةِ فَلَوْ قَدْ وَلَّيْتَ وَلُّوا عَنْكَ وَتَرَكُوكَ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يُحِبُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَغْرَاضَهُمْ . فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ إلَى مَنْ دُونَهُمْ تَجِدُ أَحَدَهُمْ سَيِّدًا مُطَاعًا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَبْدٌ مُطِيعٌ وَإِذَا أُوذِيَ أَحَدُهُمْ بِسَبَبِ سَيِّدِهِ أَوْ مَنْ يُطِيعُهُ تَغَيَّرَ الْأَمْرُ بِحَسْبِ الْأَحْوَالِ وَمَتَى كَنْتَ مُحْتَاجًا إلَيْهِمْ نَقَصَ الْحُبُّ وَالْإِكْرَامُ وَالتَّعْظِيمُ بِحَسْبِ ذَلِكَ وَإِنْ قَضَوْا حَاجَتَكَ . وَالرَّبُّ تَعَالَى : يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ الآخرين لَهُ أَوْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ ; وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا رُفِعَتْ مَائِدَتُهُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أمامة بَلْ وَلَا يَزَالُ اللَّهُ هُوَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى الْعَبْدِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ ; بَلْ مَا بِالْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ; وَسَعَادَةُ الْعَبْدِ فِي كَمَالِ افْتِقَارِهِ إلَى اللَّهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ وَأَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ وَيَعْرِفَهُ وَيَتَّصِفَ مَعَهُ بِمُوجَبِهِ أَيْ بِمُوجَبِ عِلْمِهِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَفْتَقِرُ وَلَا يَعْلَمُ مِثْلَ أَنْ يَذْهَبَ مَالُهُ وَلَا يَعْلَمُ بَلْ يَظُنُّهُ بَاقِيًا فَإِذَا عَلِمَ بِذَهَابِهِ صَارَ لَهُ حَالٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ لَكِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فِي جَهْلٍ بِهَذَا وَغَفْلَةٍ عَنْهُ وَإِعْرَاضٍ عَنْ تَذَكُّرِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالْمُؤْمِنُ يُقِرُّ بِذَلِكَ وَيَعْمَلُ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ عِبَادُ اللَّهِ . فَالْإِنْسَانُ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ بِالذَّاتِ وَفَقْرُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إلَّا فَقِيرًا إلَى خَالِقِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ غَنِيًّا بِنَفْسِهِ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ فَهُوَ الصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ فَالْعَبْدُ فَقِيرٌ إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمِنْ جِهَةِ إلَهِيَّتِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْإِنْسَانُ يُذْنِبُ دَائِمًا فَهُوَ فَقِيرٌ مُذْنِبٌ وَرَبُّهُ تَعَالَى يَرْحَمُهُ وَيَغْفِرُ لَهُ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فَلَوْلَا رَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ : لَمَا وُجِدَ خَيْرٌ أَصْلًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَوْلَا مَغْفِرَتُهُ لَمَا وَقَى الْعَبْدُ شَرَّ ذُنُوبِهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ دَائِمًا إلَى حُصُولِ النِّعْمَة وَدَفْعِ الضُّرِّ وَالشَّرِّ وَلَا تَحْصُلُ النِّعْمَةُ إلَّا بِرَحْمَتِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ الشَّرُّ إلَّا بِمَغْفِرَتِهِ فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِلشَّرِّ إلَّا ذُنُوبُ الْعِبَادِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّئَاتِ : مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَصَائِبِ وَبِالْحَسَنَاتِ : مَا يَسُرُّهُ مِنْ النِّعَمِ . كَمَا قَالَ : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } فَالنِّعَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا وَجُودًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَإِنْ كَانَ تَعَالَى عَلَيْهِ حَقٌّ لِعِبَادِهِ فَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ أَحَقُّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِ بَلْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَصَائِبُ : بِسَبَبِ ذُنُوبِ الْعِبَادِ وَكَسْبِهِمْ . كَمَا قَالَ : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } . وَالنِّعَمُ وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ طَاعَاتٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ فَيُثِيبُهُ عَلَيْهَا : فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُنْعِمُ . بِالْعَبْدِ وَبِطَاعَتِهِ وَثَوَابِهِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْعَبْدُ وَجَعَلَهُ مُسْلِمًا طَائِعًا كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } وَقَالَ : { وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } وَقَالَ : { اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ } وَقَالَ : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْلِمًا وَأَنْ يَجْعَلَهُ مُقِيمَ الصَّلَاةِ . وَقَالَ : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } الْآيَةَ : قَالَ فِي آخِرِهَا : { فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } . وَفِي صَحِيحِ أَبِي داود وَابْنِ حِبَّانَ : { اهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ وَنَجِّنَا مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِيهَا وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا } وَفِي الْفَاتِحَةِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَفِي الدُّعَاءِ الَّذِي رَوَاهُ الطبراني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مِمَّا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ : { اللَّهُمَّ إنَّكَ تَسْمَعُ كَلَامِي وَتَرَى مَكَانِي وَتَعْلَمُ سِرِّي وَعَلَانِيَتِي وَلَا يَخْفَى عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِي أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ الْمُقِرُّ بِذَنْبِهِ أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ وَأَبْتَهِلُ إلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ مَنْ خَضَعَتْ لَك رَقَبَتُهُ وَذَلَّ لَك جَسَدُهُ وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَكُنْ بِي رَءُوفًا رَحِيمًا يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ } . وَلَفْظُ الْعَبْدِ فِي الْقُرْآنِ : يَتَنَاوَلُ مَنْ عَبَدَ اللَّهِ فَأَمَّا عَبْدٌ لَا يَعْبُدُهُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ عَبْدِهِ . كَمَا قَالَ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَأَمَّا قَوْلُهُ { إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ مُنْقَطِعٌ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَقَوْلُهُ : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ } و { نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أَوَّابٌ } { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ } { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } { فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا } { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } { إنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } . وَنَحْوَ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْعَبْدِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ } قَدْ يُقَالُ فِي هَذَا : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ إذَا كَانَ قَدْ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ فَغَيْرُهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . فَقَدْ قَالَ : { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الدَّجَّالِ : { فَيُوحِي اللَّهُ إلَى الْمَسِيحِ أَنَّ لِي عِبَادًا لَا يُدَانُ لِأَحَدِ بِقِتَالِهِمْ } وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُطِيعِينَ لِلَّهِ لَكِنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ مُذَلَّلُونَ مَقْهُورُونَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ قَدَرُهُ . وَقَدْ يَكُونُ كَوْنُهُمْ عَبِيدًا : هُوَ اعْتِرَافُهُمْ بِالصَّانِعِ وَخُضُوعُهُمْ لَهُ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا كَقَوْلِهِ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } وَقَوْلُهُ : { إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } أَيْ ذَلِيلًا خَاضِعًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا كَذَلِكَ وَإِنَّمَا الِاسْتِكْبَارُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ : { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } فَذَكَرَ بَعْدَهَا أَنَّهُ يَأْتِي مُنْفَرِدًا كَقَوْلِهِ { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وَقَالَ : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } الْآيَةَ . وَقَالَ : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ كَوْنِهِمْ مَخْلُوقِينَ مُدَبِّرِينَ مَقْهُورِينَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُقَالُ طَوْعًا وَكَرْهًا فَإِنَّ الطَّوْعَ وَالْكَرْهَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَفْعَلُهُ الْفَاعِلُ طَوْعًا وَكَرْهًا فَأَمَّا مَا لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ : فَلَا يُقَالُ لَهُ سَاجِدٌ أَوْ قَانِتٌ بَلْ وَلَا مُسْلِمٌ بَلْ الْجَمِيعُ مُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ بِفِطْرَتِهِمْ وَهُمْ خَاضِعُونَ مُسْتَسْلِمُونَ قَانِتُونَ مُضْطَرُّونَ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا : عِلْمُهُمْ بِحَاجَتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ . وَمِنْهَا : دُعَاؤُهُمْ إيَّاهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ . وَمِنْهَا : خُضُوعُهُمْ وَاسْتِسْلَامُهُمْ لِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْدَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَمِنْهَا : انْقِيَادُهُمْ لِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ سَائِرَ الْبَشَرِ لَا يُمَكِّنُونَ الْعَبْدَ مِنْ مُرَادِهِ بَلْ يَقْهَرُونَهُ وَيُلْزِمُونَهُ بِالْعَدْلِ الَّذِي يَكْرَهُهُ وَهُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَعِصْيَانُهُمْ لَهُ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَ بِهِ - وَإِنْ كَانَ هُوَ التَّوْحِيدَ - لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُمْ قَانِتِينَ خَاضِعِينَ مُسْتَسْلِمِينَ كَرْهًا كَالْعُصَاةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ خَاضِعُونَ لِلدِّينِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَإِنْ كَانُوا يَعْصُونَهُ فِي أُمُورٍ . وَالْمُؤْمِنُ يَخْضَعُ لِأَمْرِ رَبِّهِ طَوْعًا وَكَذَلِكَ لِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّبْرِ وَغَيْرِهِ طَوْعًا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِلَّهِ طَوْعًا خَاضِعٌ لَهُ طَوْعًا وَالسُّجُودُ مَقْصُودُهُ الْخُضُوعُ وَسُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ سُجُودًا يُنَاسِبُهَا وَيَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلرَّبِّ . وَأَمَّا فَقْرُ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى اللَّهِ : بِمَعْنَى حَاجَتِهَا كُلِّهَا إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا شَيْءَ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا إلَّا بِهِ . فَهَذَا : أَوَّلُ دَرَجَاتِ الِافْتِقَارِ وَهُوَ افْتِقَارُهَا إلَى رُبُوبِيَّتِهِ لَهَا وَخَلْقِهِ وَإِتْقَانِهِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَهُ سُبْحَانَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ . وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَالْحُدُوثُ دَلِيلُ افْتِقَارِ الْأَنْبِيَاءِ إلَى مُحْدِثِهَا وَكَذَلِكَ حَاجَتُهَا إلَى مُحْدِثِهَا بَعْدَ إحْدَاثِهِ لَهَا دَلِيلُ افْتِقَارِهَا فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الرِّزْقِ دَلِيلُ افْتِقَارِ الْمَرْزُوقِ إلَى الْخَالِقِ الرَّازِقِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْخَالِقِ لِذَوَاتِهَا لَا لِأَمْرِ آخَرَ جَعَلَهَا مُفْتَقِرَةً إلَيْهِ بَلْ فَقْرُهَا لَازِمٌ لَهَا ; لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِّ وَصْفٌ لَازِمٌ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَنِيٍّ فَهُوَ غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِوَصْفِ جَعَلَهُ غَنِيًّا وَفَقْرُ الْأَشْيَاءِ إلَى الْخَالِقِ وَصْفٌ لَهَا وَهِيَ مَعْدُومَةٌ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فَإِذَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فَقِيلَ عَنْ مَطَرٍ يُنْتَظَرُ نُزُولُهُ وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْخَالِقِ كَانَ مَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا بِالْخَالِقِ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا الِافْتِقَارُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَمَا أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ مِنْ اسْتِسْلَامِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسُجُودِهَا وَتَسْبِيحِهَا وَقُنُوتِهَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْخَلَفِ . وَلَكِنَّ طَائِفَةً تَدَّعِي أَنَّ افْتِقَارَهَا وَخُضُوعَهَا وَخَلْقَهَا وَجَرَيَانَ الْمَشِيئَةِ عَلَيْهَا هُوَ تَسْبِيحُهَا وَقُنُوتُهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِكَوْنِهَا دَلَالَةً شَاهِدَةً لِلْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ . وَقُلْ لِلْأَرْضِ مَنْ فَجَّرَ أَنْهَارَهَا وَغَرَسَ أَشْجَارَهَا وَأَخْرَجَ نَبَاتَهَا وَثِمَارَهَا فَإِنْ لَمْ تُجِبْكَ حِوَارًا وَإِلَّا أَجَابَتْكَ اعْتِبَارًا وَهَذَا يَقُولُهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ : { كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } قَالَ : كُلُّ مَخْلُوقٍ قَانِتٌ لَهُ بَاشَرَ صَنْعَتَهُ فِيهِ وَأَجْرَى أَحْكَامَهُ عَلَيْهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ذُلِّهِ لِرَبِّهِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } قَالَ : إسْلَامُ الْكُلِّ خُضُوعُهُمْ لِنَفَاذِ أَمْرِهِ فِي جِبِلِّهِمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَمْتَنِعُ مِنْ جِبِلَّةٍ جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَكِنَّ الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : أَنَّ الْقُنُوتَ وَالِاسْتِلَامَ وَالتَّسْبِيحَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّ سُجُودَ الْكَارِهِ وَذُلَّهُ وَانْقِيَادَهُ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْهُ مِنْ عَافِيَةٍ وَمَرَضٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } . قَالَ : تَسْبِيحُهُ دَلَالَتُهُ عَلَى صَانِعِهِ فَتُوجِبُ بِذَلِكَ تَسْبِيحًا مِنْ غَيْرِهِ وَالصَّوَابُ أَنَّ لَهَا تَسْبِيحًا وَسُجُودًا بِحَسَبِهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فَقْرَ الْمَخْلُوقَاتِ إلَى الْخَالِقِ وَدَلَالَتَهَا عَلَيْهِ وَشَهَادَتَهَا لَهُ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ كَمَا أَنَّهُ فَطَرَهُمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ وَبُيِّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ دَلَالَةِ الْآيَاتِ وَدَلَالَةِ الْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ وَالتَّمْثِيلِيِّ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْبُرْهَانِيَّ الْعَقْلِيَّ سَوَاءٌ صِيغَ بِلَفْظِ الشُّمُولِ كَالْأَشْكَالِ الْمَنْطِقِيَّةِ أَوْ صِيغَ بِلَفْظِ التَّمْثِيلِ وَبُيِّنَ أَنَّ الْجَامِعَ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ أَيْنَمَا وُجِدَ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى صُورَةِ الْقِيَاسَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ هُوَ عِلْمٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الْجُزْئِيَّةِ وَأَبْلَغُ مِمَّا هُوَ فِي الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ إنَّمَا تَصِيرُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْعَقْلِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ جُزْئِيَّاتِهَا فِي الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يَجْعَلُهَا كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة أُصُولَ عِلْمِهِمْ كَقَوْلِهِمْ الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ أَوْ النَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ أَيُّ كُلِّيٍّ تَصَوَّرَهُ الْإِنْسَانُ عَلِمَ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جُزْئِيِّهِ وَإِنْ لَمْ تَخْطُرْ لَهُ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ بَعْضُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضٍ وَأَنَّ الدِّرْهَمَ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضِهِ وَأَنَّ الْمَدِينَةَ أَكْثَرُ مِنْ بَعْضِهَا وَأَنَّ الْجَبَلَ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضِهِ وَكَذَلِكَ النَّقِيضَانِ وَهُمَا : الْوُجُودُ وَالْعَدَمُ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا تَصَوَّرَ وُجُودَ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَعَدَمَهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَهُوَ يَقْضِي بِالْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ وَهَكَذَا أَمْثَالُ ذَلِكَ . وَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ الْكُلِّيُّ فَائِدَتُهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا مُعَيَّنٌ : كَانَ إثْبَاتُ الصَّانِعِ بِطَرِيقِ الْآيَاتِ هُوَ الْوَاجِبَ . كَمَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقَةُ الْقِيَاسِيَّةُ صَحِيحَةً لَكِنَّ فَائِدَتَهَا نَاقِصَةٌ وَالْقُرْآنُ إذَا اسْتَعْمَلَ فِي الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّاتِ اسْتَعْمَلَ قِيَاسَ الْأَوْلَى لَا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ مَا وَجَبَ تَنْزِيهُ مَخْلُوقٍ عَنْهُ مِنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ الَّتِي لَا كَمَالَ فِيهَا . فَالْبَارِي تَعَالَى أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ وَمَا ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ : فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا آيَاتٌ لِلْخَالِقِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ : أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هِيَ آيَةٌ وَعَلَامَةٌ عَلَيْهِ فَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ دَلِيلٌ وَآيَةٌ عَلَى الْخَالِقِ نَفْسِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . ثُمَّ الْفِطَرُ تَعْرِفُ الْخَالِقَ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ فَإِنَّهَا قَدْ فُطِرَتْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ بِدُونِ هَذِهِ الْآيَاتِ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَهُ فَإِنَّ كَوْنَهَا آيَةً لَهُ وَدَلَالَةً عَلَيْهِ : مِثْلَ كَوْنِ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى الْمُسَمَّى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَصَوَّرَ الْمُسَمَّى قَبْلَ ذَلِكَ وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا اسْمٌ لَهُ فَكَذَلِكَ كَوْنُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى هَذَا يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ مُتَصَوَّرًا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَمَعْرِفَةُ الْإِضَافَةِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَصَوُّرِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ ; لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ عَالِمًا بِالْإِضَافَةِ وَلَا كَوْنِهِ دَلِيلًا فَإِذَا تَصَوَّرَهُ عَرَفَ الْمَدْلُولَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ لِلْخَالِقِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهُ ; حَتَّى يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ دَلَائِلُ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ الْعَقْلِيَّةَ الْفِطْرِيَّةَ هِيَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ وَاتَّفَقَ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ وَتَلَازَمَ الرَّأْيُ وَالسَّمْعُ . والمتفلسفة كَابْنِ سِينَا الرازي وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا قَالُوا : إنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّ الْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ قَالُوا : وَالْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ; وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ أَحْدَثَهَا ابْنُ سِينَا وَرَكَّبَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَكَلَامِ سَلَفِهِ ; فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ قَسَّمُوا الْوُجُودَ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَقَسَّمَهُ هُوَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُ لَيْسَ مُحْدَثًا ; بَلْ زَعَمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بَلْ حُذَّاقُهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ خَطَأٌ وَأَنَّهُ خَالَفَ سَلَفَهُ وَجُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرَهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ أَنَّ الْقِدَمَ وَوُجُوبَ الْوُجُودِ مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا أَحْدَثَهُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّا نَشْهَدُ حُدُوثَ مَوْجُودَاتٍ كَثِيرَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَنَشْهَدُ عَدَمَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ وَمَا كَانَ مَعْدُومًا أَوْ سَيَكُونُ مَعْدُومًا لَا يَكُونُ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَاجِبَ الْوُجُودِ فَلَيْسَ فِي دَلِيلِهِمْ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَفْلَاكِ وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَ تَهَافُتَهُمْ فِيهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ لَكِنَّ عُمْدَتَهُمْ أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا ; لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ وَالْوَاجِبُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا هَذَا عُمْدَتُهُمْ . وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَمَا زَالَ النُّظَّارُ يُبَيِّنُونَ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ كَمَا بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ فَسَادَهُ بِحَسَبِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْوَاجِبِ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ بَيْنَ عِدَّةِ مَعَانٍ : فَيُقَالُ لِلْمَوْجُودِ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ فَتَكُونُ الذَّاتُ وَاجِبَةً وَالصِّفَاتُ وَاجِبَةً وَيُقَالُ لِلْمَوْجُودِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ فَتَكُونُ الذَّاتُ وَاجِبَةً دُونَ الصِّفَاتِ وَيُقَالُ لِمُبْدِعِ الْمُمْكِنَاتِ وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ وَالْمُبْدِعُ لَهَا هُوَ الْخَالِقُ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتُ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصِّفَاتِ لَمْ تُخْلَقْ وَالصِّفَاتُ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الذَّاتِ لَمْ تُخْلَقْ وَلِهَذَا صَارَ مَنْ سَارَ خَلْفَهُمْ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالْعِرْفَانَ إلَى أَنْ جَعَلَ الْوَاجِبَ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ أَوَّلًا : فِي أَنَّ سَعَادَةَ الْعَبْدِ فِي كَمَالِ افْتِقَارِهِ إلَى رَبِّهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ أَيْ فِي أَنْ يَشْهَدَ ذَلِكَ وَيَعْرِفَهُ وَيَتَّصِفَ مَعَهُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ مِنْ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَإِلَّا فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُحْتَاجُونَ لَكِنْ يَظُنُّ أَحَدُهُمْ نَوْعَ اسْتِغْنَاءٍ فَيَطْغَى . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَلَّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى } { أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } وَقَالَ : { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { كَانَ يَئُوسًا }