تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي امْرَأَةِ الْكَافِرِ هَلْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ ؟ أَمْ اسْتِبْرَاءٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ ; وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا . وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رَدِّ إنَاثِ عَبِيدِ الْمُعَاهِدِينَ : فَهُوَ نَظِيرُ رَدِّ مُهُورِ النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ أَهْلِ الْهُدْنَةِ وَهُنَّ الْمُمْتَحَنَاتِ اللَّاتِي قَالَ اللَّهُ فِيهِنَّ : { إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } الْآيَةَ . وَمِنْ أَنَّهُ كَانَ إذَا هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا . فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ : هَلْ تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةَ مُطْلَقًا ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ؟ أَوْ الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِذَا أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؟ وَالْأَحَادِيثُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَمِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَمِنْهَا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ ; كَمَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : أَبُو داود وَغَيْرُهُ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العاص بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا } وَفِي رِوَايَةٍ " بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ " وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ إسْحَاقَ ; وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ . وَرَوَى أَبُو داود وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَتْ ; فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أَسْلَمْت ; وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي : فَانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَوْجِهَا الْآخَرِ ; وَرَدَّهَا إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ } وَفِي إسْنَادِهِ سِمَاكٌ . فَقَدْ رَدَّهَا لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِهِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْهُ : هَلْ أَسْلَمَا مَعًا ؟ أَوْ هَلْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؟ وَتَرْكُ الاستفصال يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا تَتَنَاوَلُهُ صُوَرُ السُّؤَالِ . وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ . وَإِذَا أَسْلَمَ عَلَى مَوَارِيثَ لَمْ تُقَسَّمْ قُسِّمَتْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ عَلَى عُقُودٍ لَمْ تُقْبَضْ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ فِيهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ أَسْلَمَ رَقِيقُ الْكَافِرِ الذِّمِّيِّ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ ; بَلْ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ; وَاسْتِمْتَاعِهِ بِإِمَائِهِ : أُمِّ وَلَدِهِ وَغَيْرِهَا وَالِاسْتِخْدَامُ فَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ غَيْرِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ رَقِيقُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِمْ وَالدَّوَامُ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ ; وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَعْجِيلِ الْفُرْقَةِ خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِالتَّوَقُّفِ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ ذَلِكَ فِيمَنْ أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِهِ مِنْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ مَعَ كَثْرَةِ ذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَبَيْنَ اسْتِحْقَاقِهَا بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا . وَقِيَاسُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجْعَةِ مِنْ أَبْطَلْ الْقِيَاسِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . " وَأَيْضًا " فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي السَّبَايَا : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ ; وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ إلَّا الْحَيْضُ ; أَوْ الْحَمْلُ فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ ; وَالْأَمَةُ لَا يُتَصَوَّرُ هَذَا فِي حَقِّهَا فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إيجَابُ اسْتِبْرَاءٍ عَلَى مَنْ لَا تَحِيضُ وَإِيجَابُ ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ الْقِيَاسِ ; وَلِهَذَا اضْطَرَبَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى أَقْوَالٍ كُلٌّ مِنْهَا مَنْقُوضٌ . وَأَيْضًا فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا ; لِأَنَّهُنَّ كُنَّ مَوْطُوآتٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ . وَأَمَّا الْإِمَاءُ اللَّاتِي كُنَّ يَبِعْنَ عَلَى عَهْدِهِ فَلَمْ يَكُنَّ يوطأن فِي الْعَادَةِ ; بَلْ كُنَّ لِلِاسْتِخْدَامِ فِي الْغَالِبِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي لَمْ يَطَأْهَا سَيِّدُهَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَبْرِئِ اسْتِبْرَاؤُهَا كَمَا لَا يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا إذَا تَزَوَّجَتْ ; فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي التَّزْوِيجِ : فَفِي التَّسَرِّي أَوْلَى وَأَحْرَى ; وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُوطَأُ فَمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَا اسْتِبْرَاءٌ إذَا زُوِّجَتْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ إذَا وُطِئَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ : إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحْمِلُ مِثْلُهَا لَمْ يَجِبْ اسْتِبْرَاؤُهَا لَا بِحَيْضِ وَلَا بِحَمْلِ . فَهَذَا مُوَافِقٌ لِلنَّصِّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا اسْتَبْرَأَهَا اسْتِبْرَاءً عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِبْرَاءٍ إذَا اسْتَبْرَأَهَا وَكَذَلِكَ الَّذِي قَالَ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ إلَّا عَلَى حَامِلٍ أَوْ مَوْطُوءَةٍ . وَإِلَيْهِ مَالَ الروياني . وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مَشْرُوعٌ حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ الْحَامِلَ وَالْحَائِضَ مِنْ الْمَسْبِيَّاتِ اللَّاتِي لَا تُعْلَمُ حَالُهُنَّ . فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِبْرَاءِ . وَحَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ الَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ مُرْسَلٌ . وَالْقُرْآنُ لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ الْعِدَّةِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إلَّا عَلَى الْمُطَلَّقَاتِ ; لَا عَلَى مَنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا عَلَى مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ وَلَا عَلَى الْمَزْنِيِّ بِهَا . فَإِذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ الْمُخْتَلَعَةَ إنَّمَا عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِحَيْضَةِ الَّذِي هُوَ اسْتِبْرَاءٌ فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ وَالْمَزْنِيُّ بِهَا أَوْلَى بِذَلِكَ كَمَا هُوَ أَحَدُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فِي الْمُخْتَلَعَةِ ; وَفِي الْمَزْنِيِّ بِهَا . وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ دُونَ الْمَزْنِيِّ بِهَا ; وَدُونَ الْمُخْتَلَعَة . . فَبِأَيِّهِمَا أُلْحِقَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا إلَّا الِاعْتِدَادُ بِحَيْضَةِ كَمَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ . وَالِاعْتِبَارُ يُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ وَلَهَا مُتْعَةٌ بِالطَّلَاقِ وَنَفَقَةٌ وَسُكْنَى فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ فَإِذَا أُمِرَتْ أَنْ تَتَرَبَّصَ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِحَقِّ الزَّوْجُ ; لِيَتَمَكَّنَ مِنْ ارْتِجَاعِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ : كَانَ هَذَا مُنَاسِبًا وَكَانَ لَهُ فِي طُولِ الْعِدَّةِ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ إذَا وَجَبَتْ ; فَإِذَا مَسَّهَا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِأَجْلِ مَسِّهِ لَهَا وَكَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا وَلَهَا بِإِزَاءِ ذَلِكَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كَمَا لَهَا مَتَاعٌ لِأَجْلِ الطَّلَاقِ . أَمَّا غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى وَلَا مَتَاعٌ وَلَا لِلزَّوْجِ الْحَقُّ بِرُجْعَتِهَا : [ فَالتَّأَكُّدُ ] مِنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ تَحْصُلُ بِحَيْضَةِ وَاحِدَةٍ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمَمْلُوكَاتِ وَكَوْنُهَا حُرَّةً لَا أَثَرَ لَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تَعْتَدُّ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِحَيْضَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ كَمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ : فَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةِ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنْهَا . وَاَلَّتِي فُورِقَتْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى وَلَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا وَلَا مَتَاعَ : هِيَ بِمَنْزِلَتِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْمُطَلَّقَةِ آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى وَلَا رَجْعَةَ وَمَعَ هَذَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةِ ؟ قِيلَ : هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ لَهَا الْمُتْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَلَهَا السُّكْنَى مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ : فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَتَاعٍ أَوْ سُكْنَى عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . فَإِذَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِإِزَاءِ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا لَيْسَ فِي إيجَابِهَا عَلَى مَنْ لَا مَتَاعَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ وَلَا سُكْنَى وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَنْ تَعْتَدَّ و أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ أَمَرَهَا بِالِانْتِقَالِ إلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ } وَالْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ; فَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا : فَهُوَ الْحَقُّ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إنَّمَا عَلَيْهَا إلَّا الِاسْتِبْرَاءُ لَا الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ : فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ طُولَ الْعِدَّةِ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِحْقَاقِ الرَّجْعَةِ وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي كَوْنِهَا جُعِلَتْ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ . فَمَنْ لَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا لَا تَتَرَبَّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ; وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا يُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ ; لَا يُخَالِفُهُ وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ إلَّا مَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ لَا يُخَالِفُهُ . فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ قَضَتْ السُّنَّةُ كَانَ حَقًّا مُوَافِقًا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ . وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ الْمُخْتَلَعَةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِيهَا بِمَا ذُكِرَ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ ; وَهُوَ مَذْهَبُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ ; وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إلَّا مَا يُوَافِقُهُ لَا يُخَالِفُهُ ; فَلَا يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا . وَالْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَالِاسْتِبْرَاءِ إنْ عَلِمْنَاهَا وَإِلَّا فَيَكْفِينَا اتِّبَاعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الطَّاهِرَةُ الْمَعْرُوفَةُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْمَسْبِيَّاتِ اللَّاتِي يَبْتَدِئُ الرِّقُّ عَلَيْهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِيهِ : أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ وَطْأَهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَحَرَّجُوا مِنْ وَطْئِهِنَّ وَأَنْزَلَ فِي ذَلِكَ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَقَالَ فِيهِ : إنَّ أَجَلَّ وَطْئِهِنَّ إذَا نَقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ . { وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي سَبْيِ أوطاس : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } وَرُوِيَ : " حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً " وَالْعُلَمَاءُ عَامَّةً إنَّمَا يُوجِبُونَ فِي ذَلِكَ اسْتِبْرَاءً بِحَيْضَةِ وَهُوَ اعْتِدَادٌ مِنْ وَطْءِ زَوْجٍ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَوَطْؤُهُ مُحْتَرَمٌ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَإِنَّ مُحَارَبَتَهُ أَبَاحَتْ قَتْلَهُ وَأَخْذَ مَالِهِ وَاسْتِرْقَاقَ امْرَأَتِهِ . عَلَى نِزَاعٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ; لَكِنْ لَا خِلَافَ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهِ ثَابِتٌ مِنْهُ وَأَنَّ مَاءَهُ مَاءٌ مُحْتَرَمٌ لَا يَحِلُّ لِأَحَدِ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; بَلْ قَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي مُسْلِمٍ : { أَنَّهُ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ مُجِحٍّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ فَقَالَ : لَعَلَّ سَيِّدَهَا يُلِمُّ بِهَا قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ قَبْرَهُ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } و { نَهَى أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } . لَكِنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ لَمْ يُفَارِقْهَا زَوْجُهَا بِاخْتِيَارِهِ ; لَا بِطَلَاقِ ; وَلَا غَيْرِهِ ; لَكِنْ طريان الرِّقِّ عَلَيْهَا أَزَالَ مِلْكَهُ إلَى الْمُسْتَرِقِّ أَوْ اشْتِبَاهُ زَوْجِهَا بِغَيْرِهِ أَزَالَ ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحِ زَالَ عَنْ امْرَأَةٍ ; فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ . وَلَوْ أَنَّ الْكَافِرَ تَحَاكَمَ إلَيْنَا هُوَ وَامْرَأَتُهُ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَأَلْزَمْنَاهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ : فَعُلِمَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ مُطْلَقًا وَأَنَّ هَذِهِ لَمَّا زَالَ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ . فَلَا يُقَالُ : إنَّ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ مُفَارَقَةِ زَوْجٍ فِي الْحَيَاةِ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ ; بَلْ هَذَا مَنْقُوضٌ بِهَذِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .