تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : - أَحْمَد بْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فَصْلٌ : " تَقَرُّبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ " - فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } وَقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } وَقَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } وَقَوْلِهِ : { فَأَمَّا إنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ : { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا } الْحَدِيثَ . وَقَوْلِهِ : { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ . وَكَذَلِكَ " الْقُرْبَانُ " كَقَوْلِهِ : { إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا } . وَقَوْلِهِ : { حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } . وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَا رَيْبَ أَنَّهُ بِعُلُومِ وَأَعْمَالٍ يَفْعَلُهَا الْعَبْدُ وَفِي ذَلِكَ حَرَكَةٌ مِنْهُ وَانْتِقَالٌ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ . ثُمَّ لَا يَخْلُو مَعَ ذَلِكَ : إمَّا أَنَّ رُوحَهُ وَذَاتَهُ تَتَحَرَّكُ أَوْ لَا تَتَحَرَّكُ : وَإِذَا تَحَرَّكَتْ : فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهَا إلَى ذَاتِ اللَّهِ أَوْ إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَإِذَا كَانَتْ إلَى ذَاتِ اللَّهِ بَقِيَ النَّظَرُ فِي قُرْبِ اللَّهِ إلَيْهِ وَدُنُوِّهِ وَإِتْيَانِهِ وَمَجِيئِهِ ; إمَّا جَزَاءً عَلَى قُرْبِ الْعَبْدِ وَإِمَّا ابْتِدَاءً كَنُزُولِهِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا . ( فَالْأَوَّلُ : قَوْلُ " الْمُتَفَلْسِفَةِ " الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الرُّوحَ لَا دَاخِلَ الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَهُ وَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالْحَرَكَةِ وَلَا بِالسُّكُونِ وَقَدْ تَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمِلَّةِ . فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ قُرْبُ الْعَبْدِ وَدُنُوُّهُ إزَالَةُ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلُهَا بِالصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ الْكَرِيمَةِ حَتَّى تَبْقَى مُقَارِبَةً لِلرَّبِّ مُشَابِهَةً لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَيَقُولُونَ : الْفَلْسَفَةُ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ; فَأَمَّا حَرَكَةُ الرُّوحِ فَمُمْتَنِعَةٌ عِنْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : فِي قُرْبِ الْمَلَائِكَةِ . وَاَلَّذِي أَثْبَتُوهُ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ عَنْ الْعُيُوبِ وَتَكْمِيلِهَا بِالْمَحَاسِنِ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ ; لَكِنَّ نَفْيَهُمْ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ خَطَأٌ ; لَكِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِحَرَكَةِ جِسْمِهِ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا آثَارُ الرَّبِّ كَالْمَسَاجِدِ وَالسَّمَوَاتِ وَالْعَارِفِينَ . وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مِعْرَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ انْكِشَافُ حَقَائِقِ الْكَوْنِ لَهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَعَيْنِ الْقُضَاةِ وَابْنِ الْخَطِيبِ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " . ( الثَّانِي : قَوْلُ الْمُتَكَلِّمَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ . وَإِنَّ نِسْبَةَ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَإِنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ; لَكِنْ يُثْبِتُونَ حَرَكَةَ الْعَبْدِ وَالْمَلَائِكَةِ فَيَقُولُونَ : قُرْبُ الْعَبْدِ إلَى اللَّهِ حَرَكَةُ ذَاتِهِ إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُشَرَّفَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَهِيَ السَّمَوَاتُ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالْجَنَّةُ وَبِذَلِكَ يُفَسِّرُونَ مِعْرَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَّفِقُ هَؤُلَاءِ وَاَلَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي حَرَكَةِ بَدَنِ الْعَبْدِ إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُشَرَّفَةِ كَثُبُوتِ " الْعِبَادَاتِ " وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي حَرَكَةِ نَفْسِهِ . وَيُسَلِّمُ الْأَوَّلُونَ " حَرَكَةَ النَّفْسِ " بِمَعْنَى تَحَوُّلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ; لَا بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرَكَةِ الْجِسْمِ وَحَرَكَةِ الرُّوحِ أَيْضًا عِنْدَ الْآخَرِينَ إلَى كُلِّ مَكَانٍ تَظْهَرُ فِيهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ كَالسَّمَوَاتِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَمَوَاضِعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ فَهُوَ حَرَكَةٌ إلَى ( الثَّالِثُ : قَوْلُ : " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " الَّذِينَ يُثْبِتُونَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِمَّنْ دُونَهُمْ وَأَنَّ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ مِنْ مَلَائِكَةِ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ صَارَ يَزْدَادُ قُرْبًا إلَى رَبِّهِ بِعُرُوجِهِ وَصُعُودِهِ وَكَانَ عُرُوجُهُ إلَى اللَّهِ لَا إلَى مُجَرَّدِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِهِ وَأَنَّ رُوحَ الْمُصَلِّي تَقْرُبُ إلَى اللَّهِ فِي السُّجُودِ وَإِنْ كَانَ بَدَنُهُ مُتَوَاضِعًا . وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ . ثُمَّ " قُرْبُ الرَّبِّ مِنْ عَبْدِهِ " هَلْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْقُرْبِ كَمَا أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ إلَى الشَّيْءِ السَّاكِنِ كَالْبَيْتِ الْمَحْجُوجِ وَالْجِدَارِ وَالْجَبَلِ كُلَّمَا قَرُبْت مِنْهُ قَرُبَ مِنْك ؟ أَوْ هُوَ قُرْبٌ آخَرُ يَفْعَلُهُ الرَّبُّ كَمَا أَنَّك إذَا قَرُبْت إلَى الشَّيْءِ الْمُتَحَرِّكِ إلَيْك تَحَرَّكَ أَيْضًا إلَيْك فَمِنْك فِعْلٌ وَمِنْهُ فِعْلٌ آخَرُ . هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ " لِأَهْلِ السُّنَّةِ " مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ( قَاعِدَةِ الصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ كَمَسْأَلَةِ النُّزُولِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا فَمَا رُوِيَ مِنْ قُرْبِ الرَّبِّ إلَى خَوَاصِّ عِبَادِهِ وَتَجَلِّيهِ لِقُلُوبِهِمْ كَمَا فِي " الزُّهْدِ لِأَحْمَدَ أَنَّ مُوسَى قَالَ : يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُك ؟ قَالَ : " عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي أَقْتَرِبُ إلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ شِبْرًا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَرَقَتْ " . هَذَا الْقُرْبُ عِنْدَ الْمُتَفَلْسِفَةِ والجهمية هُوَ مُجَرَّدُ ظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ لِقَلْبِ الْعَبْدِ فَهُوَ قُرْبُ الْمِثَالِ . ثُمَّ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَا تُثْبِتُ حَرَكَةَ الرُّوحِ والجهمية تُسَلِّمُ جَوَازَ حَرَكَةِ الرُّوحِ إلَى مَكَانٍ عَالٍ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَعِنْدَهُمْ مَعَ التَّجَلِّي وَالظُّهُورِ تَقْرُبُ ذَاتُ الْعَبْدِ إلَى ذَاتِ رَبِّهِ وَفِي جَوَازِ دُنُوِّ ذَاتِ اللَّهِ الْقَوْلَانِ وَقَدْ بَسَطْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَعَلَى مَذْهَبِ " النفاة " مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ لَا يَكُونُ إتْيَانُ الرَّبِّ وَمَجِيئُهُ وَنُزُولُهُ إلَّا تَجَلِّيهِ وَظُهُورُهُ لِعَبْدِهِ . إذَا ارْتَفَعَتْ الْحُجُبُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْعَبْدِ الْمَانِعَةُ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ الْبَاطِنَةِ أَوْ الظَّاهِرَةِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي كَانَ أَعْمَى أَوْ أَعْمَشَ فَزَالَ عَمَاهُ فَرَأَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَيَقُولُ : جَاءَنِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَهَذَا قَوْلُ " النفاة " مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ ; لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّةَ يُثْبِتُونَ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يُثْبِتُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَافِقُهُمْ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ . وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " مِنْ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ أَيْضًا ; فَإِنَّ نُزُولَهُ وَإِتْيَانَهُ وَمَجِيئَهُ قَدْ يَكُونُ بِحَرَكَةِ مِنْ الْعَبْدِ وَقُرْبٍ مِنْهُ وَدُنُوٍّ إلَيْهِ وَهُوَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى انْكِشَافِ بَصِيرَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ هَذَا عِلْمٌ وَعِنْدَهُمْ يَكُونُ ذَلِكَ بِعِلْمِ مِنْ الْعَبْدِ وَبِعَمَلِ مِنْهُ فَهُوَ كَشْفٌ وَعَمَلٌ . وَلَا يُنْكِرُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَبْدِ حَرَكَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ وَإِنَّمَا قَدْ يُنْكِرُونَ حَرَكَتَهُ إلَى اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ شَبَّهَ بَعْضُهُمْ مَجِيءَ اللَّهِ بِقَوْلِهِ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } أَيْ الْمُوقَنُ بِهِ مِنْ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ . قُلْت : هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } وَقَوْلِهِ : { فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ } وَقَوْلِهِ : { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } وَجُعِلَ فِي ذَلِكَ هُوَ ظُهُورَهُ وَتَجَلِّيهِ . قُلْت : وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ ظُهُورِهِ وَتَجَلِّيهِ وَإِنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِذَلِكَ ; بَلْ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِحَرَكَةِ الْعَبْدِ إلَيْهِ ثُمَّ إنْ كَانَ سَاكِنًا كَانَ مَجِيئُهُ مِنْ لَوَازِمِ مَجِيءِ الْعَبْدِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرَكَةٌ كَانَ مَجِيئُهُ بِنَفْسِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ ذَاهِبًا إلَيْهِ وَهَكَذَا مَجِيءُ الْيَقِينِ وَمَجِيءُ السَّاعَةِ . وَفِي جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ يَكُونُ بِكَشْفِ حُجُبٍ لَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِالْعَبْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حِجَابُهُ النُّورُ - أَوْ النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سَبَحَاتِ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ } فَهِيَ حُجُبٌ تَحْجُبُ الْعِبَادَ عَنْ الْإِدْرَاكِ كَمَا قَدْ يَحْجُبُ الْغَمَامُ وَالسُّقُوفُ عَنْهُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ . فَإِذَا زَالَتْ تَجَلَّتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ . وَأَمَّا حَجْبُهَا لِلَّهِ عَنْ أَنْ يُرَى وَيُدْرَكَ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ . وَهُوَ يَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ السَّوْدَاءِ وَلَكِنْ يَحْجُبُ أَنْ تَصِلَ أَنْوَارُهُ إلَى مَخْلُوقَاتِهِ كَمَا قَالَ : { لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ } فَالْبَصَرُ يُدْرِكُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ وَأَمَّا السُّبُحَاتُ فَهِيَ مَحْجُوبَةٌ بِحِجَابِهِ النُّورَ أَوْ النَّارَ . والجهمية لَا تُثْبِتُ لَهُ حَجْبًا أَصْلًا ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَيَرْوُونَ الْأَثَرَ الْمَكْذُوبَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ قَصَّابًا يَحْلِفُ لَا وَاَلَّذِي احْتَجَبَ بِسَبْعِ سَمَوَاتٍ فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِي ؟ قَالَ لَا ; وَلَكِنَّك حَلَفْت بِغَيْرِ اللَّهِ . فَهَذَا لَا يُعْرَفُ لَهُ إسْنَادٌ وَلَوْ ثَبَتَ كَانَ عَلِيٌّ قَدْ فَهِمَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ مُحْتَجِبٌ عَنْ إدْرَاكِهِ لِخَلْقِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ; بِخِلَافِ احْتِجَابِهِ عَنْ إدْرَاكِ خَلْقِهِ لَهُ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ : إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه . فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا . وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ } . وَعِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ مِنْ الْمُتَجَهِّمَةِ أَنَّ حِجَابَ كُلِّ أَحَدٍ مَعَهُ وَكَشْفَهُ خَلْقَ الْإِدْرَاكِ فِيهِ لَا أَنَّهُ حِجَابٌ مُنْفَصِلٌ . وَأَمَّا إتْيَانُهُ وَنُزُولُهُ وَمَجِيئُهُ بِحَرَكَةِ مِنْهُ وَانْتِقَالٍ : فَهَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا .