تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تيمية قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ فَصْلٌ فِي " قُدْرَةِ الرَّبِّ " عَزَّ وَجَلَّ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ قُدْرَةَ الرَّبِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَدْ كَتَبْنَاهُ عَلَى " الْأَرْبَعِينَ " وَ " الْمُحَصَّلِ " وَفِي شَرْحِ " الأصبهانية " وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَكَلَّمْنَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرازي وَغَيْرُهُ فِي " مَسْأَلَةِ كَوْنِ الرَّبِّ قَادِرًا مُخْتَارًا " وَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ التَّقْصِيرِ الْكَثِيرِ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . ( وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ الرُّسُلَ فَنَقُولُ : هُنَا مَسَائِلُ : ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَالنَّاسُ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : " طَائِفَةٌ " تَقُولُ هَذَا عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ . وَ " طَائِفَةٌ " تَقُولُ : هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ يَخُصُّ مِنْهُ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ ; فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ . ( وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ النُّظَّارِ وَهُوَ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَيْسَ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانُوا مُتَنَازِعِينَ فِي الْمَعْدُومِ فَإِنَّ الْمُمْتَنِعَ لِذَاتِهِ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ . وَلَا يَتَصَوَّرُهُ الذِّهْنُ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ ; وَلَكِنْ يُقَدَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الذِّهْنِ ثُمَّ يُحْكَمُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَارِجِ ; إذْ كَانَ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ وَتَصَوُّرُهُ فِي الْأَذْهَانِ ; إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ : بِأَنْ يُقَالَ : قَدْ تَجْتَمِعُ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الشَّيْءِ فَهَلْ يُمْكِنُ فِي الْخَارِجِ أَنْ يَجْتَمِعَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ . كَمَا تَجْتَمِعُ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ . فَيُقَالُ : هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُقَدَّرُ اجْتِمَاعُ نَظِيرِ الْمُمْكِنِ ثُمَّ يُحْكَمُ بِامْتِنَاعِهِ وَأَمَّا نَفْسُ اجْتِمَاعِ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَلَا يُمْكِنُ وَلَا يُعْقَلُ فَلَيْسَ بِشَيْءِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَلَا فِي الْأَذْهَانِ . فَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَوْلِهِ : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءِ فِي الْخَارِجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَقَدْ يُطْلِقُونَ أَنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَوْجُودُ . فَيُقَالُ عَلَى هَذَا : فَيَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ قَادِرًا إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ وَمَا لَمْ يَخْلُقْهُ لَا يَكُونُ قَادِرًا [ عَلَيْهِ ] . وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ قَالُوا : لَا يَكُونُ قَادِرًا إلَّا عَلَى مَا أَرَادَهُ ; دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ وَيَحْكِي هَذَا عَنْ تِلْمِيذِ النَّظَّامِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَوْجُودُ مِنْ نُظَّارِ الْمُثْبِتَةِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ : أَحْمَد وَغَيْرِ أَحْمَد كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِمَا . يَقُولُونَ : إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَوْجُودِ فَيُقَالُ : إنَّ هَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا مَا لَمْ تُثْبِتْهُ الْآيَةُ . فَالْآيَةُ أَثْبَتَتْ قُدْرَتَهُ عَلَى الْمَوْجُودِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا : هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّيْءَ اسْمٌ لِمَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ وَلِمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ . فَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ هُوَ شَيْءٌ فِي التَّقْدِيرِ وَالْعِلْمِ وَالْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فِي الْخَارِجِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَلَفْظُ الشَّيْءِ فِي الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا . فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَا وُجِدَ وَكُلُّ مَا تَصَوَّرَهُ الذِّهْنُ مَوْجُودًا إنْ تُصُوِّرَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَدِيرٌ ; لَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } وَقَالَ : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِوَجْهِك فَلَمَّا نَزَلَ : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } الْآيَةَ قَالَ : هَاتَانِ أَهْوَنُ } فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الأولتين وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُمَا وَقَالَ : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَذْهَبَ بِهِ حَتَّى تَمُوتُوا عَطَشًا وَتَهْلَكَ مَوَاشِيكُمْ وَتَخْرَبَ أَرَاضِيكُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا يَفْعَلُهُ . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ جَعَلَ الْمَاءَ أُجَاجًا وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَمِثْلُ هَذَا : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } . { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ } . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَفَعَلَ أَشْيَاءَ وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهَا لَكَانَ إذَا شَاءَهَا لَمْ يُمْكِنْ فِعْلُهَا . ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ : إنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ . ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَفْعَالُ نَفْسِهِ وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِهَذَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْيَانِ جَاءَتْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ } { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } وَجَاءَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا نَصٌّ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَفْعُولَةِ وَقَوْلُهُ : { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } و { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الْجَبَّارُ عَلَيْهِمْ الْمُسَيْطِرُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } - عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مِمَّنْ جَعَلَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُوصِي لِأَهْلِهِ : { لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ . فَلَمَّا حَرَقُوهُ أَعَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت قَالَ : خَشْيَتُك يَا رَبِّ فَغَفَرَ لَهُ } . وَهُوَ كَانَ مُخْطِئًا فِي قَوْلِهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَإِنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَيْهِ لَكِنْ لِخَشْيَتِهِ وَإِيمَانِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْجَهْلَ وَالْخَطَأَ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ . وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } إلَى قَوْلِهِ ; { فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ قَادِرًا أَيْضًا عَلَى خَلْقِهِ فَالْقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِهِ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِهِ وَجَاءَ أَيْضًا الْحَدِيثُ مَنْصُوصًا فِي مِثْلِ { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مَسْعُودٍ لَمَّا رَآهُ يَضْرِبُ عَبْدَهُ لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْك مِنْك عَلَى هَذَا } . فَهَذَا فِيهِ بَيَانُ قُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى عَيْنِ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ وَفِيهِ إثْبَاتُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " قُدْرَةِ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ " فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : كِلَا النَّوْعَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِالْفَاعِلِ وَيَتَنَاوَلُ مَقْدُورَهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَبِهِ نَطَقَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْقُدْرَتَيْنِ يَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ الْقَائِمَ بِالْقَادِرِ وَمَقْدُورِهِ الْمُبَايِنِ لَهُ وَقَدْ تَبَيَّنَ بَعْضُ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ الرَّبِّ . وَأَمَّا قُدْرَةُ الْعَبْدِ : فَذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَثِيرَةٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً مِثْلَ قَوْلِهِ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } . { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } . الْآيَةَ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِك } . وَأَمَّا الْمُبَايِنُ لِمَحَلِّ الْقُدْرَةِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } إلَى { قَدِيرًا } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى الْأَوَّلِ وَهَذِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا وَقْتًا آخَرَ . وَهَذِهِ قُدْرَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ . وَقَوْلُهُ : { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا } الْآيَةَ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَفِي قَوْلِهِ قَادِرِينَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . ( أَحَدُهَا : قَادِرِينَ عَلَى جَنَّتِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ قَالَهُ قتادة . قُلْت : وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وقتادة . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : قَادِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ البغوي : قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَنَّتِهِمْ . وَثِمَارُهَا لَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَحَدٌ وَعَنْ قتادة قَالَ : غَدَا الْقَوْمُ وَهُمْ يَحْدُونَ إلَى جَنَّتِهِمْ . قَادِرِينَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : وَ ( الثَّانِي : قَادِرِينَ عَلَى الْمَسَاكِينِ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ : أَيْ عَلَى مَنْعِهِمْ وَقِيلَ : عَلَى إعْطَائِهِمْ لَكِنَّ الْبُخْلَ مَنَعَهُمْ مِنْ الْإِعْطَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَ ( الثَّالِثُ : غَدَوْا وَهُمْ قَادِرِينَ . أَيْ وَاجِدُونَ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . قُلْت : الْآيَةُ وَصَفَتْهُمْ بِأَنَّهُمْ غَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَالْحَرْدُ يَرْجِعُ إلَى الْقَصْدِ فَغَدَوْا بِإِرَادَةِ جَازِمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْجَزَهُمْ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ : أَيْ ظَنُّوا أَنَّ الْأَمْرَ يَبْقَى كَمَا كَانَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَمَّتْ قُدْرَتُهُمْ لَكِنْ سُلِبُوا الْقُدْرَةَ بِإِهْلَاكِ جَنَّتِهِمْ . قَالَ البغوي : الْحَرْدُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْمَنْعِ وَالْغَضَبِ . قَالَ الْحَسَنُ وقتادة وَأَبُو الْعَالِيَةِ : عَلَى جِدٍّ وَجُهْدٍ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ : عَلَى أَمْرٍ مُجْتَمِعٍ قَدْ أَسَّسُوهُ بَيْنَهُمْ . قَالَ : وَهَذَا عَلَى مَعْنَى الْقَصْدِ ; لِأَنَّ الْقَاصِدَ إلَى الشَّيْءِ جَادٌّ مُجْمِعٌ عَلَى الْأَمْرِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ والقتيبي : غَدَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى حَرْدٍ : عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ ; يَقُولُ : حَارَدَتْ السَّنَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَطَرٌ وَحَارَدَتْ النَّاقَةُ عَلَيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ ; وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ : عَلَى حَنَقٍ وَغَضَبٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ وَفِي تَفْسِيرِ الوالبي : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى قُدْرَةٍ . قُلْت : الْحَرْدُ فِيهِ مَعْنَى الْعَزْمِ الشَّدِيدِ ; فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا وَحَرْدُ السَّنَةِ وَالنَّاقَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الشِّدَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَنَقُ وَالْغَضَبُ فِيهِ شِدَّةٌ ; فَكَانَ لَهُمْ عَزْمٌ شَدِيدٌ عَلَى أَخْذِهَا وَعَلَى حِرْمَانِ الْمَسَاكِينِ وَغَدَوْا بِهَذَا الْعَزْمِ قَادِرِينَ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُعْجِزُهُمْ وَمَا يَمْنَعُهُمْ لَكِنْ جَاءَهَا أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَقِيلَ الْحَرْدُ هُوَ الْغَيْظُ وَالْغَضَبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَنَظِيرُ هَذَا وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْمَطْلُوبِ أَنَّ الْقُدْرَةَ تَكُونُ عَلَى الْأَعْيَانِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ } - إلَى قَوْلِهِ - { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَوْلَا الْجَائِحَةُ لَكَانَ ظَنُّهُمْ صَادِقًا وَكَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا ; لَكِنْ لَمَّا أَتَاهَا أَمْرُ اللَّهِ تَبَيَّنَ خَطَأُ الظَّنِّ وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا لَا فِي حَالِ سَلَامَتِهَا وَلَا فِي حَالِ عَطَبِهَا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ أَبْطَلَ ظَنَّهُمْ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْإِهْلَاكِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا ذَهَبُوا لِيَحْصُدُوا بَلْ سَلَبُوا الْقُدْرَةَ عَلَيْهَا - وَهِيَ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ - فَانْتَفَتْ لِانْتِفَاءِ الْمَحَلِّ الْقَابِلِ ; لَا لِضَعْفِ مِنْ الْفَاعِلِ وَفِي تِلْكَ قَالَ : { عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } وَلَمْ يَقُلْ قَادِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَهُ مَنْ قَالَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِمْ قَادِرِينَ أَيْ لَيْسَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا يُنَافِي الْقُدْرَةَ : كَالْمَرَضِ وَالضَّعْفِ وَلَكِنْ بَطَلَ مَحَلُّ الْقُدْرَةِ كَاَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَى النَّقْدِ وَالرِّزْقِ وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ . وقَوْله تَعَالَى { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } فَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا كَسَبُوا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ يَقْدِرُ عَلَى مَا كَسَبَ فَالْمُرَادُ بِالْمَكْسُوبِ الْمَالُ الْمَكْسُوبُ . وقَوْله تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا } فَلَمَّا ذُكِرَ فِي الْمَمْلُوكِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ الْآخَرَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ هَذَا وَهُوَ إثْبَاتُ الرِّزْقِ الْحَسَنِ مَقْدُورًا لِصَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَبِهَذَا يَنْطِقُ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : فُلَانٌ يَقْدِرُ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَفُلَانٌ يَقْدِرُ عَلَى كَذَا وَكَذَا وَمَقْدِرَةُ هَذَا دُونَ مَقْدِرَةِ هَذَا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمَلِكَ نَائِبٌ لِلْعِبَادِ عَلَى مَا مَلَّكَهُمْ اللَّهُ إيَّاهُ وَالْمَلِكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْقُدْرَةِ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا إلَّا مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَلِيِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَالْعَقْدُ وَالْمَنْقُولُ مَمْلُوكٌ لِمَالِكِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُ وَقَدْ قَالَ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي لَا أَمْلِكُ إلَّا نَفْسِي وَأَخِي } لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَخِيهِ ; لِطَاعَتِهِ لَهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لَهُ وَقَالَ تَعَالَى : { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أَيْ مُطِيقِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ صَارُوا مُقْرِنِينَ مُطِيقِينَ لَمَّا سَخَّرَهَا لَهُمْ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ نَقَبُوا ذَلِكَ لَكَانُوا قَدْ اسْتَطَاعُوا النَّقْبَ وَالنَّقْبُ لَيْسَ هُوَ حَرَكَةَ أَيْدِيهِمْ بَلْ هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ مَنْقُوبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّقْبَ مَقْدُورٌ لِلْعِبَادِ . وَأَيْضًا فَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَاتِ الْخَارِجَةَ مَصْنُوعَةٌ لَهُمْ وَمَا كَانَ مَصْنُوعًا لَهُمْ فَهُوَ مَقْدُورٌ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ : لَيْسَ شَيْءٌ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِمْ مَصْنُوعًا لَهُمْ وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى لِنُوحِ : { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } وَقَالَ { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْفُلْكَ مَخْلُوقَةٌ مَعَ كَوْنِهَا مَصْنُوعَةٌ لِبَنِي آدَمَ وَجَعَلَهَا مِنْ آيَاتِهِ فَقَالَ : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } وَ { سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } وَقَالَ : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } فَجَعَلَ الْأَصْنَامَ مَنْحُوتَةً مَعْمُولَةً لَهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَخَالِقُ مَعْمُولِهِمْ فَإِنَّ " مَا " هَاهُنَا : بِمَعْنَى الَّذِي وَالْمُرَادُ خَلَقَ مَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ الْأَصْنَامِ وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لِلْمَعْمُولِ وَفِيهِ أَثَرُ الْفِعْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ فَضَعِيفٌ جِدًّا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } وَإِنَّمَا دَمَّرَ مَا بَنَوْهُ وَعَرَّشُوهُ فَأَمَّا الْأَعْرَاضُ الَّتِي قَامَتْ بِهِمْ فَتِلْكَ فَنِيَتْ قَبْلَ أَنْ يَغْرَقُوا وَقَوْلُهُ : { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعُرُوشَ مَفْعُولٌ لَهُمْ هُمْ فَعَلُوا الْعَرْشَ الَّذِي فِيهِ وَهُوَ التَّأْلِيفُ وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَبْنِيَّ هُمْ بَنُوهُ حَيْثُ قَالَ : { أَتَبْنُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } هُوَ كَقَوْلِهِ : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } وَقَوْلُهُ : { جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ جَابُوا الصَّخْرَ : أَيْ قَطَعُوهُ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَالْأَمْرُ إنَّمَا يَكُونُ بِمَقْدُورِ الْعَبْدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ مَقْدُورٌ لَهُ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي الشَّخْصِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِثْلُ الذَّبْحِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَقَوْلُهُ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ مَقْتُولٌ لِلْآدَمِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } فَإِنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } فَإِنَّ قَتْلَهُمْ حَصَلَ بِأُمُورِ خَارِجَةٍ عَنْ قُدْرَتِهِمْ مِثْلَ إنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنَّ التُّرَابَ يُصِيبُ أَعْيُنَهُمْ كُلَّهُمْ وَيُرْعِبُ قُلُوبَهُمْ فَالرَّمْيُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ خَارِجًا عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الْمُعْتَادِ هُوَ الرَّمْيُ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَا ظَفِرْت أَنْتَ وَلَا أَصَبْت وَلَكِنَّ اللَّهَ ظَفَرَك وَأَيَّدَك . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَا بَلَغَ رَمْيُك كَفًّا مِنْ تُرَابٍ أَوْ حَصًى أَنْ يَمْلَأَ عُيُونَ ذَلِكَ الْجَيْشِ الْكَثِيرِ إنَّمَا اللَّهُ تَوَلَّى ذَلِكَ . وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : مَا رَمَيْت قُلُوبَهُمْ بِالرُّعْبِ إذْ رَمَيْت وُجُوهَهُمْ بِالتُّرَابِ . وَلِهَذَا كَانَ هَذَا أَمْرًا خَارِجًا عَنْ مَقْدُورِهِ فَكَانَ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ . وَقِيلَ بَلْ الرَّبُّ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى مَا يَقُومُ بِذَاتِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ : كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزاغوني وَغَيْرِهِمْ . وَقِيلَ : إنَّ الْعَبْدَ يَقْدِرُ عَلَى هَذَا وَهَذَا وَالرَّبُّ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى الْمُنْفَصِلِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقِيلَ إنَّ كِلَيْهِمَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقُومُ بِهِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَ : كِلَاهُمَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُنْفَصِلِ دُونَ الْمُتَّصِلِ .