تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد ابْنُ تيمية - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفُرُوقِ : الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا كَوْنُ الْحَسَنَةِ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَةِ مِنْ النَّفْسِ وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } إلَى قَوْلِهِ { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَإِنَّهُ يَنْفِي التَّحْرِيمَ عَنْ غَيْرِهَا وَيُثْبِتُهُ لَهَا لَكِنْ هَلْ أَثْبَتَهَا لِلْجِنْسِ أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَمَا يُقَالُ إنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هَلْ هُوَ مُقْتَضًى أَوْ شَرْطٌ ؟ . فَفِي الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا هُوَ مُقْتَضًى فَهُوَ عَامٌّ ; فَإِنَّ الْعِلْمَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ يُوجِبُ الْخَوْفَ فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْخَشْيَةَ الْحَامِلَةَ عَلَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَتَرْكِ السَّيِّئَاتِ وَكُلُّ عَاصٍ فَهُوَ جَاهِلٌ لَيْسَ بِتَامِّ الْعِلْمِ تَبَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ السَّيِّئَاتِ الْجَهْلُ وَعَدَمُ الْعِلْمِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ شَيْئًا مَوْجُودًا ; بَلْ هُوَ مِثْلُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَعَدَمِ السَّمْعِ وَعَدَمِ الْبَصَرِ وَالْعَدَمُ لَيْسَ شَيْئًا وَإِنَّمَا الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ - وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يُضَافُ الْعَدَمُ الْمَحْضُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مَوْجُودٌ - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَالنَّفْسُ بِطَبْعِهَا تُحَرِّكُهُ فَإِنَّهَا حَيَّةٌ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاةِ وَلِهَذَا أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ الْحَارِثُ وَالْهُمَامُ وَفِي الْحَدِيثِ : { مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ مُلْقَاةٍ } إلَخْ . وَفِيهِ { الْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا } فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ هَدَاهَا اللَّهُ عَلَّمَهَا مَا يَنْفَعُهَا وَمَا يَضُرُّهَا فَأَرَادَتْ مَا يَنْفَعُهَا وَتَرَكَتْ مَا يَضُرُّهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ تَفَضَّلَ عَلَى بَنِي آدَمَ بِأَمْرَيْنِ ; هُمَا أَصْلُ السَّعَادَةِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَلِمُسْلِمِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ مَرْفُوعًا { إنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ } الْحَدِيثَ . فَالنَّفْسُ بِفِطْرَتِهَا إذَا تُرِكَتْ كَانَتْ مُحِبَّةً لِلَّهِ تَعْبُدُهُ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَلَكِنْ يُفْسِدُهَا مَنْ يُزَيِّنُ لَهَا مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الْآيَةَ . وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . ( الثَّانِي ) : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَى النَّاسَ هِدَايَةً عَامَّةً بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ مِنْ الْعَقْلِ وَبِمَا أَنْزَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الْكُتُبِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } - إلَى قَوْلِهِ - { مَا لَمْ يَعْلَمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } وَقَالَ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَتَهُ بِالْحَقِّ وَمَحَبَّتَهُ لَهُ وَقَدْ هَدَاهُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْعِلْمِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ بِهَا إلَى سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَجَعَلَ فِي فِطْرَتِهِ مَحَبَّةً لِذَلِكَ . لَكِنْ قَدْ يُعْرِضُ الْإِنْسَانُ عَنْ طَلَبِ عِلْمِ مَا يَنْفَعُهُ وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَكِنَّ النَّفْسَ مِنْ لَوَازِمِهَا الْإِرَادَةُ وَالْحَرَكَةُ فَإِنَّهَا حَيَّةٌ حَيَاةً طَبِيعِيَّةً لَكِنَّ سَعَادَتَهَا أَنْ تَحْيَا الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ فَتَعْبُدَ اللَّهَ وَمَتَى لَمْ تَحْيَا هَذِهِ الْحَيَاةَ كَانَتْ مَيِّتَةً وَكَانَ مَا لَهَا مِنْ الْحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّةِ مُوجِبًا لِعَذَابِهَا فَلَا هِيَ حَيَّةٌ مُتَنَعِّمَةٌ بِالْحَيَاةِ وَلَا مَيِّتَةٌ مُسْتَرِيحَةٌ مِنْ الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ لَمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَيِّ الْحَيَاةَ النَّافِعَةَ وَلَا مَيِّتًا عَدِيمَ الْإِحْسَاسِ كَانَ فِي الْآخِرَةِ كَذَلِكَ وَالنَّفْسُ إنْ عَلِمَتْ الْحَقَّ وَأَرَادَتْهُ فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَهِيَ بِطَبْعِهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ مَعْبُودٍ غَيْرِ اللَّهِ ; وَمُرَادَاتٍ سَيِّئَةٍ ; فَهَذَا تَرَكَّبَ مِنْ كَوْنِهَا لَمْ تَعْرِفْ اللَّهَ وَلَمْ تَعْبُدْهُ وَهَذَا عَدَمٌ . وَالْقَدَرِيَّةُ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا وَبِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُرِيدًا لَكِنْ يَجْعَلُونَهُ مُرِيدًا بِالْقُوَّةِ وَالْقَبُولِ أَيْ قَابِلًا لِأَنْ يُرِيدَ هَذَا وَهَذَا وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرِيدًا لِهَذَا الْمُعَيَّنِ وَهَذَا الْمُعَيَّنِ فَهَذَا عِنْدَهُمْ لَيْسَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ وَغَلِطُوا بَلْ اللَّهُ خَالِقُ هَذَا كُلِّهِ وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ النَّفْسَ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا } إلَخْ " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ إبْرَاهِيمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ وَجَعَلَ آلَ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَلَكِنَّ هَذَا إلَى اللَّهِ لِوَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ الغائية وَمِنْ جِهَةِ سَبَبِهِ : أَمَّا الْعِلَّةُ الغائية : فَإِنَّهُ إنَّمَا خَلَقَهُ لِحِكْمَةِ هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ وَإِنْ كَانَ شَرًّا إضَافِيًّا فَإِذَا أُضِيفَ مُفْرَدًا تَوَهَّمَ الْمُتَوَهِّمُ مَذْهَبَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الشَّرَّ الْمَحْضَ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَحَدِ لَا لِحِكْمَةِ وَلَا لِرَحْمَةِ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ يُبْطِلُ هَذَا كَمَا إذَا قِيلَ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ يَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ كَانَ هَذَا ذَمًّا لَهُمْ وَكَانَ بَاطِلًا وَإِذَا قِيلَ يُجَاهِدُونَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَقْتُلُونَ مَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَانَ هَذَا مَدْحًا لَهُمْ وَكَانَ حَقًّا . فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى حَكِيمٌ رَحِيمٌ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْهِ لَا يَفْعَلُ إلَّا خَيْرًا وَمَا خَلَقَهُ مِنْ أَلَمٍ لِبَعْضِ الْحَيَوَانِ وَمِنْ أَعْمَالِهِ الْمَذْمُومَةِ فَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَنِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ كَانَ هَذَا حَقًّا وَهُوَ مَدْحٌ لِلرَّبِّ . وَأَمَّا إذَا قِيلَ يَخْلُقُ الشَّرَّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا مَنْفَعَةَ لِأَحَدِ وَلَا لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَيُعَذِّبُ النَّاسَ بِلَا ذَنْبٍ لَمْ يَكُنْ مَدْحًا لَهُ بَلْ الْعَكْسُ وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِي خَلْقِ جَهَنَّمَ وَإِبْلِيسَ وَالسَّيِّئَاتِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ أَعْظَمُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ وَالْحُبَّ وَالرِّضَا لِذَاتِهِ وَلِإِحْسَانِهِ هَذَا حَمْدُ شُكْرٍ وَذَاكَ حَمْدٌ مُطْلَقًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا أَنَّ مَا خَلَقَهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الشُّكْرَ وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّجْمِ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } وَفِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ يَذْكُرُ : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَيَقُولُ عَقِبَهُ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قَالَ طَائِفَةٌ - وَاللَّفْظُ للبغوي - ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } قَالَ كُلَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْلِهِ { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } فَإِنَّهُ مَوَاعِظُ وَهُوَ نِعْمَةٌ ; لِأَنَّهُ يَزْجُرُ عَنْ الْمَعَاصِي وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : الزَّجَّاجُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْآيَاتِ أَيْ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ; لِأَنَّهَا كُلَّهَا نِعَمٌ فِي دِلَالَتِهَا إيَّاكُمْ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَرِزْقِهِ إيَّاكُمْ مَا بِهِ قِوَامُكُمْ هَذَا قَالُوهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } فَبِأَيِّ نِعَمِ رَبِّكَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تُشَكِّكُ وَقِيلَ : تَشُكُّ وَتُجَادِلُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تُكَذِّبُ . قُلْتُ ضُمِّنَ تَتَمَارَى مَعْنَى تُكَذِّبُ وَلِهَذَا عَدَّاهُ بِالتَّاءِ فَإِنَّهُ تَفَاعُلٌ مِنْ الْمِرَاءِ يُقَالُ : تَمَارَيْنَا فِي الْهِلَالِ وَمِرَاءٌ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ وَهُوَ يَكُونُ لِتَكْذِيبِ وَتَشْكِيكٍ . وَيُقَالُ : لَمَّا كَانَ الْخِطَابُ لَهُمْ . قَالَ : تَتَمَارَى أَيْ يَتَمَارَوْنَ وَلَمْ يَقُلْ : تَمْتَرِي ; لِأَنَّ التَّفَاعُلَ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ . قَالُوا : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } قِيلَ : الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ . فَإِنَّهُ قَالَ : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْهِ فَقَالَ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } . كَمَا قَالَ : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } { وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } . فَفِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ إحْسَانٌ إلَى عِبَادِهِ يُشْكَرُ عَلَيْهِ وَلَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ تَعُودُ إلَيْهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهَا لِذَاتِهِ فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا إنْعَامٌ إلَى عِبَادِهِ كَالثَّقَلَيْنِ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا آيَاتٌ يَحْصُلُ بِهَا هِدَايَتُهُمْ وَتَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَصِدْقِ أَنْبِيَائِهِ وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى } . قِيلَ : مُحَمَّدٌ وَقِيلَ : الْقُرْآنُ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ يَقُولُ : هَذَا نَذِيرٌ أَنْذَرَ بِمَا أَنْذَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ الْأُولَى . وَقَوْلُهُ : مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى أَيْ مِنْ جِنْسِهَا فَأَفْضَلُ النِّعَمِ نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } . وَمَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ إنْ كَانَ يَسُرُّهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ وَإِنْ كَانَ يَسُوءُهُ فَهُوَ نِعْمَةٌ ; لِأَنَّهُ يُكَفِّرُ خَطَايَاهُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ بِالصَّبْرِ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ حِكْمَةً وَرَحْمَةً لَا يَعْلَمُهَا الْعَبْدُ { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } الْآيَةَ وَكِلْتَا النِّعْمَتَيْنِ تَحْتَاجُ مَعَ الشُّكْرِ إلَى الصَّبْرِ أَمَّا الضَّرَّاءُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا نِعْمَةُ السَّرَّاءِ فَتَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ فِيهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : اُبْتُلِينَا بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا وَابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ فَلَمْ نَصْبِرْ فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمَسَاكِينُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي السَّرَّاءِ اللَّذَّةُ وَفِي الضَّرَّاءِ الْأَلَمُ اشْتَهَرَ ذِكْرُ الشُّكْرِ فِي السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ فِي الضَّرَّاءِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } - إلَى قَوْلِهِ - { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الْآيَةَ . وَأَيْضًا صَاحِبُ السَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الشُّكْرِ وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ أَحْوَجُ إلَى الصَّبْرِ فَإِنَّ صَبْرَ هَذَا وَشُكْرَ هَذَا وَاجِبٌ وَأَمَّا صَبْرُ السَّرَّاءِ فَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَصَاحِبُ الضَّرَّاءِ قَدْ يَكُونُ الشُّكْرُ فِي حَقِّهِ مُسْتَحَبًّا وَاجْتِمَاعُ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ يَكُونُ مَعَ تَأَلُّمِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذِهَا وَهَذَا حَالٌ يَعْسُرُ عَلَى كَثِيرٍ وَبَسْطُهُ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْعِمٌ بِهَذَا كُلِّهِ ; وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَكْثَرِ النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَأَمَّا ذُنُوبُ الْإِنْسَانِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَعَ هَذَا فَهِيَ مَعَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ نِعْمَةٌ وَهِيَ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مِنْ الِاعْتِبَارِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي عِبْرَةً لِغَيْرِي وَلَا تَجْعَلْ غَيْرِي أَسْعَدَ بِمَا عَلَّمْتَنِي مِنِّي وَفِي دُعَاءِ الْقُرْآنِ : { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } وَكَمَا فِيهِ : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا } وَاجْعَلْنَا أَئِمَّةً لِمَنْ يَقْتَدِي بِنَا وَلَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِمَنْ يَضِلُّ بِنَا وَالْآلَاءُ فِي اللُّغَةِ هِيَ النِّعَمُ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الْقُدْرَةَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ يَذْكُرُ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَيَذْكُرُ آيَاتِهِ الَّتِي فِيهَا نِعَمُهُ إلَى عِبَادِهِ وَيَذْكُرُ آيَاتِهِ الْمُبَيِّنَةَ لِحِكْمَتِهِ وَهِيَ مُتَلَازِمَةٌ ; لَكِنَّ نِعْمَةَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَلَابِسِ ظَاهِرَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ; فَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِهَا فِي " سُورَةِ النَّحْلِ " وَتُسَمَّى " سُورَةَ النِّعَمِ " كَمَا قَالَهُ قتادة وَغَيْرُهُ وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ الْحَمْدُ أَعَمُّ مِنْ الشُّكْرِ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهِ ; فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى نِعْمَةٍ وَغَيْرِهَا وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنْوَاعِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْيَدِ فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ فِيهِ نِعْمَةٌ لَمْ يَكُنْ الْحَمْدُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ . لَكِنَّ هَذَا فَهْمُ مَنْ عَرَفَ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ ; والجهمية وَالْجَبْرِيَّةُ بِمَعْزِلِ عَنْ هَذَا وَكَذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا تَعُودُ الْحِكْمَةُ إلَيْهِ ; بَلْ مَا ثَمَّ إلَّا نَفْعُ الْخَلْقِ فَمَا عِنْدَهُمْ إلَّا شُكْرٌ كَمَا لَيْسَ عِنْدَ الجهمية إلَّا قُدْرَةٌ وَالْقُدْرَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ نِعْمَةٍ وَحِكْمَةٍ لَا يَظْهَرُ فِيهَا وَصْفُ حَمْدٍ وَحَقِيقَةُ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ ; فَلَهُ مُلْكٌ بِلَا حَمْدٍ كَمَا أَنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الْحَمْدِ بِلَا مُلْكٍ وَعِنْدَ السَّلَفِ لَهُ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ تَامَّيْنِ . قَالَ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فَلَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ فِي إلَهِيَّتِهِ وَلَهُ الْعَدْلُ وَلَهُ الْعِزَّةُ وَالْحِكْمَةُ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يُثْبِتُهَا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ فَمَنْ قَصَّرَ عَنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ نَقَصَ الرَّبَّ بَعْضَ حَقِّهِ . والجهمي الْجَبْرِيُّ : لَا يُثْبِتُ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً وَلَا تَوْحِيدَ إلَهِيَّتِهِ بَلْ تَوْحِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ وَالْمُعْتَزِلِيُّ لَا يُثْبِتُ تَوْحِيدَ إلَهِيَّتِهِ وَلَا عَدْلًا وَلَا عِزَّةً وَلَا حِكْمَةً وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ يُثْبِتُ حِكْمَةً مَا مَعْنَاهَا يَعُودُ إلَى غَيْرِهِ فَتِلْكَ لَا تَكُونُ حِكْمَةً فَمَنْ فَعَلَ لَا لِأَمْرِ يَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ لِغَيْرِهِ فَهَذَا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ قَاطِبَةً لَيْسَ بِحَكِيمِ وَإِذَا كَانَ الْحَمْدُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ رَأْسُ الشُّكْرِ فَهُوَ أَوَّلُ الشُّكْرِ وَالْحَمْدِ وَإِنْ كَانَ عَلَى نِعْمَةٍ وَعَلَى حِكْمَةٍ فَالشُّكْرُ بِالْأَعْمَالِ هُوَ عَلَى نِعْمَتِهِ وَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ لِإِلَهِيَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ فَقَدْ صَارَ مَجْمُوعُ الْأُمُورِ دَاخِلًا فِي الشُّكْرِ . وَلِهَذَا عَظَّمَ الْقُرْآنُ أَمْرَ الشُّكْرِ وَلَمْ يُعَظِّمْ أَمْرَ الْحَمْدِ مُجَرَّدًا إذْ كَانَ نَوْعًا مِنْ الشُّكْرِ وَشُرِعَ الْحَمْدُ الَّذِي هُوَ الشُّكْرُ مَقُولًا أَمَامَ كُلِّ خِطَابٍ مَعَ التَّوْحِيدِ فَفِي الْفَاتِحَةِ الشُّكْرُ مَعَ التَّوْحِيدِ وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشُّكْرِ وَالتَّوْحِيدِ . وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ نَوْعَانِ : فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِيهَا الشُّكْرُ وَالتَّنْزِيهُ وَالتَّعْظِيمُ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ فِيهَا التَّوْحِيدُ وَالتَّكْبِيرُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَهَلْ الْحَمْدُ عَلَى الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَمَا قِيلَ فِي الْعَزْمِ أَمْ عَامٌّ ؟ فِيهِ نَظَرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدُّ مِنْكَ الْجَدُّ } هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ . و " أَحَقُّ " أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَةٌ فَقَالُوا : { حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ } وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ; بَلْ حَقُّ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ كَمَا قَالَ : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } وَلَكِنْ أَحَقُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ الْحَمْدُ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ فَفِيهِ أَنَّ الْحَمْدَ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ وَلِهَذَا وَجَبَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ . وَإِذَا قِيلَ : يَخْلُقُ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُوجِبًا لِمَحَبَّةِ الْعِبَادِ لَهُ وَحَمْدِهِمْ ; بَلْ الْعَكْسُ ; وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ بِالذَّمِّ وَالشَّتْمِ نَظْمًا وَنَثْرًا وَكَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ فَقَلْبُهُ مُمْتَلِئٌ بِهِ لَكِنْ يَرَى أَنْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ يَخَافُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي شِعْرِ طَائِفَةٍ مِنْ الشُّيُوخِ ذِكْرُ نَحْوِ هَذَا ; وَيُقِيمُونَ حُجَجَ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى اللَّهِ ; وَهُوَ خِلَافُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } فَقَوْلُهُ : { أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ } يَقْتَضِي أَنَّ حَمْدَهُ أَحَقُّ مَا قَالَهُ الْعَبْدُ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا الْخَيْرَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَنَفْسُهُ مُتَحَرِّكَةٌ بِالطَّبْعِ حَرَكَةً لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الشَّرِّ حِكْمَةً بَالِغَةً وَنِعْمَةً سَابِغَةً . فَإِذَا قِيلَ : فَلِمَ لَا خَلَقَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ؟ . قِيلَ كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ خَلْقًا غَيْرَ الْإِنْسَانِ وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَحْصُلُ وَهَذَا سُؤَالُ الْمَلَائِكَةِ حَيْثُ قَالُوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } - إلَى قَوْلِهِ - { إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَعَلِمَ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ هَذَا مَا لَمْ تَعْلَمْهُ الْمَلَائِكَةُ فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ آحَادُ النَّاسِ وَنَفْسُ الْإِنْسَانِ خُلِقَتْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } وَقَالَ : { خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } فَقَدْ خَلَقَ خِلْقَةً تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مَا خُلِقَ مِنْهَا لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ وَرَحْمَةٍ عَمِيمَةٍ . فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْغَايَةِ مَعَ أَنَّ الشَّرَّ لَا يُضَافُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ . وَأَمَّا ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ - فَإِنَّ هَذَا الشَّرَّ إنَّمَا وُجِدَ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُصْلِحُ النَّفْسَ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ بِفِطْرَتِهَا تَقْتَضِي مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَقَدْ هُدِيَتْ إلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ تُعِينُهَا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ ; لَكِنَّ النَّفْسَ الْمُذْنِبَةَ لَمَّا حَصَلَ لَهَا مَنْ زَيَّنَ لَهَا السَّيِّئَاتِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مَالَتْ إلَى ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ مُرَكَّبًا مِنْ عَدَمِ مَا يَنْفَعُ وَهَذَا الْأَصْلُ وَوُجُودُ هَذَا الْعَدَمِ لَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلَاءِ الْقَوْلُ فِيهِمْ كَالْقَوْلِ فِيهَا خَلَقَهُمْ لِحِكْمَةِ فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ مَا تَصْلُحُ بِهِ هُوَ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ وَالشَّرُّ الْمَحْضُ هُوَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَكَانَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ . وَالْعَبْدُ إذَا اعْتَرَفَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِهِ فَإِنْ اعْتَرَفَ إقْرَارًا بِخَلْقِ اللَّهِ لِكُلِّ شَيْءٍ وَبِكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ وَاعْتِرَافًا بِفَقْرِهِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ إنْ لَمْ يَهْدِهِ فَهُوَ ضَالٌّ فَخَضَعَ لِعِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ اعْتَرَفَ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ فَهَذَا الذَّنْبُ أَعْظَمُ مِنْ الْأَوَّلِ وَهَذَا مِنْ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ . وَهُنَا سُؤَالٌ سَأَلَهُ طَائِفَةٌ : وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى لِلْمُؤْمِنِ مِنْ قَضَاءٍ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ وَقَدْ قَضَى عَلَيْهِ السَّيِّئَاتِ وَعَنْهُ جَوَابَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ : وَلَكِنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ النِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ ; وَلِهَذَا قَالَ : { إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ } إلَخْ . وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ فَلَا إشْكَالَ . وَ ( الثَّانِي ) : إنْ قُدِّرَ دُخُولُهَا ; فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ } فَإِذَا قُضِيَ لَهُ بِأَنْ يُحْسِنَ فَهُوَ مِمَّا يَسُرُّهُ ; فَإِذَا قُضِيَ لَهُ يُسِيئُهُ فَهُوَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ إذَا لَمْ يَتُبْ ; فَإِنْ تَابَ أُبْدِلَتْ حَسَنَةً فَيَشْكُرُ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَتُبْ اُبْتُلِيَ بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُهَا فَيَصْبِرُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ وَهُوَ قَالَ : لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ ; وَالْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ هُوَ الَّذِي لَا يَضُرُّهُ الذَّنْبُ ; بَلْ يَتُوبُ مِنْهُ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ كَمَا جَاءَ فِي عِدَّةِ آثَارٍ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ يَعْمَلُهُ فَلَا يَزَالُ يَتُوبُ مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ بِتَوْبَتِهِ مِنْهُ الْجَنَّةَ } وَالذَّنْبُ يُوجِبُ ذُلَّ الْعَبْدِ وَخُضُوعَهُ وَاسْتِغْفَارَهُ وَشُهُودَهُ لِفَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ . وَفِي قَوْلِهِ : { فَمِنْ نَفْسِكَ } مِنْ الْفَوَائِدِ : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ ; فَإِنَّ الشَّرَّ لَا يَجِيءُ إلَّا مِنْهَا ; وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى الذُّنُوبِ فَيَتُوبُ مِنْهَا وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ وَسَيِّئَاتِ عَمَلِهِ وَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ ; فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ الْخَيْرُ وَيُدْفَعُ عَنْهُ الشَّرُّ ; وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ وَأَحْكَمُهُ دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . فَإِنَّهُ إذَا هَدَاهُ هَذَا الصِّرَاطَ أَعَانَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ فَلَمْ يُصِبْهُ شَرٌّ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ; وَالذُّنُوبُ مِنْ لَوَازِمِ النَّفْسِ ; وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَةٍ ; وَهُوَ إلَى الْهُدَى أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ; وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهُ ; وَلِهَذَا أَمَرَ بِهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ لِفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ بَعْضَ قَدْرِهِ مَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ نَفْسِهِ ; وَنُفُوسِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الْمَأْمُورِينَ بِهَذَا الدُّعَاءِ ; وَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ الَّذِي يَقْتَضِي شَقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; فَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ جَعَلَ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنْ الشَّرِّ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَّةَ أَحَدٍ إلَّا لِنَعْتَبِرَهَا وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْمُقْتَضَى وَالْحُكْمِ فَلَوْلَا أَنَّ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ - فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُ - لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشْبِهُهُ قَطُّ ; لَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَالَ : { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } وَقَالَ : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ } وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ : فَمَنْ } وَقَالَ : { لَتَأْخُذُنَّ مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ قَالَ : فَمَنْ } وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَلَمَّا كَانَ فِي { غَزْوَةِ حنين كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ - وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - كَمَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى : { اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } إنَّهَا سُنَنٌ لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَإِنْ كَانَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ فَأَعْظَمُهَا جُحُودُ الْخَالِقِ وَالشِّرْكُ بِهِ وَطَلَبُ النَّفْسِ أَنْ تَكُونَ شَرِيكَةً لَهُ سُبْحَانَهُ أَوْ إلَهًا مِنْ دُونِهِ وَكُلُّ هَذَيْنِ وَقَعَ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ أَنْ يُعْبَدَ وَيُطَاعَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي فِي فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ غَايَةُ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ وَفِي نُفُوسِ سَائِرِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ شُعْبَةٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا إنْ لَمْ يُعِنْ اللَّهُ الْعَبْدَ وَيَهْدِهِ وَإِلَّا وَقَعَ فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وَإِبْلِيسُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ : مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ إلَّا أَنَّهُ قَدَرَ فَأَظْهَرَ وَغَيْرُهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ نَفْسَهُ وَالنَّاسَ رَأَى الْوَاحِدَ يُرِيدُ نَفْسَهُ أَنْ تُطَاعَ وَتَعْلُوَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالنُّفُوسُ مَشْحُونَةٌ بِحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا فَتَجِدُهُ يُوَالِي مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ وَيُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَوَاهُ وَإِنَّمَا مَعْبُودُهُ مَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُهُ قَالَ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } وَالنَّاسُ عِنْدَهُ كَمَا هُمْ عِنْدَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ مِنْ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ يال , ياغي أَيْ صَدِيقِي وَعَدُوِّي فَمَنْ وَافَقَ هَوَاهُمْ كَانَ وَلِيًّا وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ كَانَ عَدُوًّا وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَهَذِهِ حَالُ فِرْعَوْنَ . وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُرِيدُ أَنْ يُطَاعَ أَمْرُهُ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ فِرْعَوْنُ مِنْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَجُحُودِ الصَّانِعِ وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ فَإِذَا جَاءَهُمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَةِ تَرْكَ طَاعَتِهِمْ عَادَوْهُ كَمَا عَادَى فِرْعَوْنُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عِنْدَهُ عَقْلٌ وَإِيمَانٌ لَا يَطْلُبُ هَذَا الْحَدَّ بَلْ تَطْلُبُ نَفْسُهُ مَا هُوَ عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ مُطَاعًا مُسْلِمًا طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ فِي أَغْرَاضِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ ذَنْبٌ وَمَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَيَكُونُ مَنْ أَطَاعَهُ أَحَبَّ إلَيْهِ وَأَعَزَّ عِنْدَهُ مِمَّنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَخَالَفَ هَوَاهُ وَهَذِهِ شُعْبَةٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ وَسَائِرِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ . وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَحَبَّ مَنْ يُعَظِّمُهُ دُونَ مَنْ يُعَظِّمُ نَظِيرَهُ وَرُبَّمَا أَبْغَضَ نَظِيرَهُ حَسَدًا وَبَغْيًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَدْعُو إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } الْآيَةُ . وَقَالَ : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَقَالَ : { وَمَا تَفَرَّقُوا إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ انْتَقَمَ بِهِ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ لِيَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَيَعْبُدُوهُ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِيَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَدْ أَمَرَ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ بِهَذَا وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ فَقَالَ : { إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } الْآيَةَ . قَالَ قتادة : أَيْ دِينُكُمْ وَاحِدٌ وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ وَالشَّرِيعَةُ مُخْتَلِفَةٌ . وَكَذَلِكَ قَالَ الضَّحَّاكُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْ : دِينُكُمْ دِينٌ وَاحِدٌ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وقتادة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ نَحْوُ ذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بَيَّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ وَمَا يَأْتُونَ ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْأُمَّةُ الْمِلَّةُ وَالطَّرِيقَةُ كَمَا قَالَ : { إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } كَمَا تُسَمَّى الطَّرِيقُ إمَامًا ; لِأَنَّ السَّالِكَ فِيهَا يُؤْتَمُّ بِهِ فَكَذَلِكَ السَّالِكُ يَؤُمُّهُ وَيَقْصِدُهُ وَالْأُمَّةُ أَيْضًا مُعَلِّمُ الْخَيْرِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ النَّاسُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً . وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّسُلَ أَنْ تَكُونَ مِلَّتُهُمْ وَدِينُهُمْ وَاحِدًا لَا يَتَفَرَّقُونَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } الْآيَةَ . وَلِهَذَا كَانَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ مع تَنَوُّعِ شَرَائِعِهِمْ ; فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُطَاعِينَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ مُتَّبِعًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ وَأَحَبَّ مَنْ دَعَا إلَى مِثْلِ مَا دَعَا إلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ذَلِكَ فَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ; لِأَنَّ قَصْدَهُ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ ; وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ; وَمَنْ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرٌ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ ; فَهَذَا يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُطَاعَ الْمَعْبُودَ ; وَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ حَالِ فِرْعَوْنَ وَأَشْبَاهِهِ ; فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ دُونَ اللَّهِ فَهَذَا حَالُ فِرْعَوْنَ ; وَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُطَاعَ مَعَ اللَّهِ فَهَذَا يُرِيدُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ; وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَلَا يَكُونَ الدِّينُ إلَّا لَهُ ; وَتَكُونُ الْمُوَالَاةُ فِيهِ وَالْمُعَادَاةُ فِيهِ ; وَلَا يُتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ ; وَلَا يُسْتَعَانُ إلَّا بِهِ . فَالْمُتَّبِعُ لِلرُّسُلِ يَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ ; لِيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ لَا لَهُ فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَحَبَّهُ وَأَعَانَهُ وَسُرَّ بِهِ ; وَإِذَا أَحْسَنَ إلَى النَّاسِ فَإِنَّمَا يُحْسِنُ إلَيْهِمْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ; وَيَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَهُ مُحْسِنًا فَيَرَى أَنَّ عَمَلَهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ ; وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي الْفَاتِحَةِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَلَا يَطْلُبُ مِمَّنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ; وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِ إذْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الْإِحْسَانِ ; فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ إذْ يَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى وَعَلَى ذَلِكَ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ إذْ يَسَّرَ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُحْسِنُ إلَى غَيْرِهِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ ; أَوْ لِيَجْزِيَهُ بِطَاعَتِهِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ إيَّاهُ أَوْ نَفْعٍ آخَرَ ; وَقَدْ يَمُنُّ عَلَيْهِ فَيَقُولُ : أَنَا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ بِفُلَانِ فَلَمْ يَشْكُرْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذَا لَمْ يَعْبُدْ اللَّهَ وَلَمْ يَسْتَعِنْهُ فَلَا عَمِلَ لِلَّهِ وَلَا عَمِلَ بِهِ فَهُوَ كَالْمُرَائِي . وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ الْمَنَّانِ وَصَدَقَةَ الْمُرَائِي فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قَالَ قتادة