تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } . { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } . فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ : { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ { قُلْ نَزَّلَهُ } عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ : { بِمَا يُنَزِّلُ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فِيهِ إخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ ; لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ بَيَانُ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ وَلَا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ . وَلَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فِي الْقُرْآنِ قَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْهُ : كَنُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ ; فَيَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْمَطَرِ مِنْ السَّحَابِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرِدُ مُطْلَقًا فَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مِنْ الْإِنْزَالِ ; بَلْ رُبَّمَا يَتَنَاوَلُ الْإِنْزَالَ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ كَقَوْلِهِ : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وَالْإِنْزَالُ مِنْ ظُهُورِ الْحَيَوَانِ كَإِنْزَالِ الْفَحْلِ الْمَاءَ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَقَوْلُهُ : { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } بَيَانٌ لِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَفِي قَوْلِهِ { الْأَمِينُ } دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا أُرْسِلَ بِهِ لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ فَإِنَّ الرَّسُولَ الْخَائِنَ قَدْ يُغَيِّرُ الرِّسَالَةَ كَمَا قَالَ فِي صِفَتِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } . وَفِي قَوْلِهِ : { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ : " مِنْهَا " بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي جِسْمٍ مِنْ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الجهمية الَّذِينَ يَقُولُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والنجارية والضرارية وَغَيْرِهِمْ ; فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ وَقَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ جهميا ; فَإِنَّ " جَهْمًا أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَالَغَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ فَلَهُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَزِيَّةُ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَدْ سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ ; فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بواسط يَوْمَ النَّحْرِ . وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ ; وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ وَافَقُوا جَهْمًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي مَسَائِلَ غَيْرِ ذَلِكَ : كَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَبَعْضِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ أَيْضًا وَلَا يُبَالِغُونَ فِي النَّفْيِ مُبَالَغَتَهُ . وَجَهْمٌ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ . أَوْ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَيَقُولُونَ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً ; لَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَجَهْمٌ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ أَيْضًا كَمَا نَفَتْهَا الْبَاطِنِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ . وَ ( الْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ : { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ; وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : مِنْهُ بَدَأَ أَيْ : هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الخلقية . وَ " مِنْهَا " أَنَّ قَوْلَهُ : { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } فِيهِ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ . وَ " مِنْهَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ - أَيْضًا - تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ بَلْ مَخْلُوقٌ : إمَّا فِي جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ جِسْمٍ آخَرَ غَيْرِهِمَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الكلابية وَالْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ خُلِقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ : الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ أُلْهِمَهُ جِبْرِيلُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ أُلْهِمَهُ مُحَمَّدٌ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ يَكُونُ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ غَيْرِهِ : فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ تَفْرِيعٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْنَا . وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي إثْبَاتِ خَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ الْعِبْرِيَّةُ وَيُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ ; لَكِنْ يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّتِهِمْ وَجُمْهُورِهِمْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ ; بَلْ لَفْظُ الْكَلَامِ يُقَالُ عَلَى هَذَا وَهَذَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَكِنَّ هَذَا يَنْقُضُ أَصْلَهُمْ فِي إبْطَالِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا تَقُولهُ الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَلَامُهُ حَقِيقَةً بَلْ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الجهمية وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ : فَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقْرَبُ وَقَوْلُ الْآخَرِينَ هُوَ قَوْلُ الجهمية الْمَحْضَةِ لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقُونَ لِهَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُونَهُمْ فِي اللَّفْظِ . الثَّانِي أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لِلَّهِ كَلَامٌ هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ والخلقية يَقُولُونَ : لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ كَلَامٌ . وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فالكلابية خَيْرٌ مِنْ الخلقية فِي الظَّاهِرِ ; لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يَقُولُونَ : إنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ كَلَامًا حَقِيقَةً غَيْرَ الْمَخْلُوقِ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ : فَإِنَّ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ خَمْسُ مَعَانٍ . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْعُقَلَاءُ الْكَثِيرُونَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَجَحْدِ الضَّرُورَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ وَاتِّفَاقٍ ; كَمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ . وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا وَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَاحِدٌ لِلضَّرُورَةِ وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ لِحُسْنِ ظَنِّهِ فِيمَنْ يُقَلِّدُ قَوْلَهُ وَلِمَحَبَّتِهِ لِنَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَمَا اتَّفَقَتْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَقَالَاتٍ يُعْلَمُ فَسَادُهَا بِالضَّرُورَةِ . وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ : نَحْنُ إذَا عَرَّبْنَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى الْقُرْآنِ ; بَلْ مَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا وَمَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا . وَكَذَلِكَ مَعْنَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَيْسَ هُوَ مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } وَلَا مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ . وَقَالُوا : إذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُتَنَوِّعَةُ شَيْئًا وَاحِدًا فَجَوِّزُوا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ صِفَةً وَاحِدَةً فَاعْتَرَفَ أَئِمَّةُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ عَقْلِيٌّ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : النَّاسُ فِي الصِّفَاتِ إمَّا مُثْبِتٌ لَهَا وَقَائِلٌ بِالتَّعَدُّدِ وَإِمَّا نَافٍ لَهَا ; وَأَمَّا إثْبَاتُهَا وَاتِّحَادُهَا فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَنْهُ جَوَابٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الْآمِدِي وَغَيْرِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } يَقْتَضِي نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ رَبِّهِ وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } وَإِنَّمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا يَقْرَأُ مَعَانِيَهُ الْمُجَرَّدَةَ . وَأَيْضًا فَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ فَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ نَزَّلَهُ مَنْ عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَخْلُوقَةِ وَلَا نَزَّلَهُ مِنْ نَفْسِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } وَهْم كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّمَا يُعَلِّمُهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَشَرٌ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ مَعَانِيهِ فَقَطْ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَ الْكُفَّارِ بِأَنَّ لِسَانَ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ بِأَنْ أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَجَعَلُوهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ وَالْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ { يُلْحِدُونَ } لَمَّا تَضَمَّنَ مِنْ مَعْنَى مَيْلِهِمْ عَنْ الْحَقِّ وَمَيْلُهُمْ إلَى هَذَا الَّذِي أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَإِنَّ لَفْظَ " الْإِلْحَادِ " يَقْتَضِي مَيْلًا عَنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ بِبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ قَالُوا يُعَلِّمُهُ مَعَانِيَهُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَدًّا لِقَوْلِهِمْ ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَعَلَّمُ مِنْ الْأَعْجَمِيِّ شَيْئًا بِلُغَةِ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ وَيُعَبِّرُ عَنْهُ هُوَ بِعِبَارَتِهِ . وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ تَعَلَّمَهُ مَنْ شَخْصٍ كَانَ بِمَكَّةَ أَعْجَمِيٌّ . قِيلَ : إنَّهُ كَانَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَإِذَا كَانَ الْكُفَّارُ جَعَلُوا الَّذِي يُعَلِّمُهُ مَا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ بَشَرًا وَاَللَّهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ بِأَنَّ لِسَانَ ذَلِكَ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ : عُلِمَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُؤَلِّفْ نَظْمَ الْقُرْآنِ بَلْ سَمِعَهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ عُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُؤَلِّفْهُ هُوَ وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ سَمِعَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } إلَى قَوْلِهِ : { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } وَ " الْكِتَابُ " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الكلابية أَوْ بَعْضَهُمْ يُفَرِّق بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكِتَابِ اللَّهِ فَيَقُولُ : كَلَامُهُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكِتَابُهُ هُوَ الْمَنْظُومُ الْمُؤَلَّفُ الْعَرَبِيُّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَ " الْقُرْآنُ " يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى نَفْسَ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى قُرْآنًا وَكِتَابًا وَكَلَامًا فَقَالَ تَعَالَى { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } وَقَالَ : { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } وَقَالَ : { وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْكِتَابُ . وَقَالَ : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَقَالَ : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } وَقَالَ : { وَالطُّورِ } { وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } { فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ } وَقَالَ : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } . وَلَكِنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فَيَكُونُ هُوَ الْكَلَامَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَقَالَ : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } . وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْلَهُ { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } يَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ . وَقَدْ أَخْبَرَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } إخْبَارً مُسْتَشْهِدٍ بِهِمْ لَا مُكَذِّبٍ لَهُمْ . وَقَالَ إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ يَظُنُّونَهُ أَوْ يَقُولُونَهُ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالظَّنِّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ ; فَعَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْهَوَاءِ وَلَا مِنْ اللَّوْحِ وَلَا مِنْ جِسْمٍ آخَرَ وَلَا مِنْ جِبْرِيلَ وَلَا مِنْ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُقِرُّونَ بِذَلِكَ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أَنَّهُ أَنْزَلَهُ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ أَنْزَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ نُزُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } { مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } فَإِنَّ كَوْنَهُ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ . وَفِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ سَوَاءً كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ جِبْرِيلَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ قَدْ أَنْزَلَهُ مَكْتُوبًا إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ كَتَبَهُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ وَكَتَبَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ ثُمَّ إنَّهُ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ مَا يَعْمَلُونَهَا ; فَيُقَابِلُ بِهِ الْكِتَابَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْوُجُودِ وَالْكِتَابَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ - وَهُوَ حَقٌّ - فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا مِنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ بِهِ . وَمَنْ قَالَ إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ الْكِتَابِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ كَانَ هَذَا بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ : " مِنْهَا " أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ فَبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ الْكِتَابِ كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَعْلَى مِنْ مُحَمَّدٍ بِدَرَجَةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَلْقَى إلَى جِبْرِيلَ الْمَعَانِيَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ عُبِّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فَقَوْلُهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أُلْهِمَهُ إلْهَامًا وَهَذَا الْإِلْهَامُ يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } وَقَالَ : { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } وَقَدْ أَوْحَى إلَى سَائِر النَّبِيِّينَ فَيَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنَ عَنْ جِبْرِيلَ ; لِأَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُ لِمُحَمَّدِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ ; وَلِهَذَا زَعَمَ ابْنُ عَرَبِيٍّ أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ : لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ . فَجَعَلَ أَخْذَهُ وَأَخْذَ الْمَلَكِ الَّذِي جَاءَ إلَى الرَّسُولِ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَادَّعَى أَنَّ أَخْذَهُ عَنْ اللَّهِ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ الرَّسُولِ لِلْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جَنْسِهِ . وَأَيْضًا فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فَفَضَّلَ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أَوْحَى إلَيْهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ : عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ عَبْدَهُ تَكْلِيمًا زَائِدًا عَنْ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ فَإِنَّ لَفْظَ التَّكْلِيمِ وَالْوَحْيِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالتَّكْلِيمُ هُوَ الْمَقْسُومُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } وَالتَّكْلِيمُ الْمُطْلَقُ هُوَ قَسِيمُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ لَيْسَ هُوَ قِسْمًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوَحْيِ قَدْ يَكُونُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِمُوسَى : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } وَقَدْ يَكُونُ قَسِيمَ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّورَى وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسَى وَالْوَحْيِ الْعَامِّ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْعِبَادِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَبَيْنَ إرْسَالِ رَسُولٍ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - أَمْرٌ غَيْرُ الْإِيحَاءِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَوْلُهُ : { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } وَقَوْلُهُ : { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ مُوسَى سَمِعَ جَمِيعَ الْمَعْنَى فَقَدْ سَمِعَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ سَمِعَ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَكِلَاهُمَا يَنْقُضُ قَوْلَهُمْ ; فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَإِنْ كَانَ مَا يَسْمَعُهُ مُوسَى وَالْمَلَائِكَةُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كُلَّهُ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلِمَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُهُ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ خَبَرِهِ وَجَمِيعِ أَمْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ أَخْبَارِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ . وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَسْمَعُ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ كَلَامُهُ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَوْلُهُ : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وَقَوْلُهُ : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } { إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } الْآيَاتِ . دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيمٍ سَمِعَهُ مُوسَى . وَالْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ لَا يُسْمَعُ بِالضَّرُورَةِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُسْمَعُ فَهُوَ مُكَابِرٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَادَاهُ وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا مَسْمُوعًا وَلَا يُعْقَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظُ النِّدَاءِ بِغَيْرِ صَوْتٍ مَسْمُوعٍ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } { إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } وَقَالَ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } { إنِّي أَنَا رَبُّكَ } وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ وَلَمْ يُنَادَ قَبْلَ ذَلِكَ ; وَلَمَّا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } وَمَثَلُ هَذَا قَوْلُهُ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } فَإِنَّهُ وَقَّتَ النِّدَاءَ بِظَرْفِ مَحْدُودٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الظُّرُوفِ وَجَعَلَ الظَّرْفَ لِلنِّدَاءِ لَا يُسْمَعُ النِّدَاءُ إلَّا فِيهِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وَقَوْلُهُ : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَوْقِيتُ بَعْضِ أَقْوَالِ الرَّبِّ بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الكلابية وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ; بَلْ الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ لِذَاتِهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ ; لِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُتَعَاقِبَةٌ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ وَأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذَاتِهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي وُجُودِهَا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالنِّدَاءُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْحُرُوفُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ الْأَصْوَاتِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ التَّكْلِيمَ وَالنِّدَاءَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكِ الْمَخْلُوقِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ مَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ لَا أَنَّهُ يَكُونُ هُنَاكَ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا تَكْلِيمَ ; بَلْ تَكْلِيمُهُ عِنْدَهُمْ جَعْلُ الْعَبْدِ سَامِعًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ سَمْعِهِ بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْأَعْمَى بَصِيرًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ رُؤْيَتِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْأَعْمَى . فَعِنْدَهُمْ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ سَمِعَ النِّدَاءَ الْقَدِيمَ لَا أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ . وَلِهَذَا يَقُولُونَ : إنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ لِخَلْقِهِ يَدُلُّ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُ يُكَلِّمُ خَلْقَهُ وَهَؤُلَاءِ يَرُدُّونَ عَلَى الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَيَقُولُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ السَّلَفِ ; لَكِنَّ قَوْلَهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ وَقَوْلُ الخلقية أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ . أَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِمْ أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلَامًا قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ ; بِخِلَافِ الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ . وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِ الخلقية أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ بَلْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ كَحَيَاتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ عِنْدَنَا صِفَةُ ذَاتٍ لَا صِفَةُ فِعْلٍ . والخلقية يَقُولُونَ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ مَعًا فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . وَاخْتِلَافُهُمْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى شَبِيهُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَفَرَحِهِ وَسُخْطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ بَائِنَةٌ عَنْهُ تَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا كُلَّهَا تَعُودُ إلَى إرَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْعَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هِيَ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةُ الْأَعْيَانِ لَكِنْ يَقُولُ : كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةُ الْعَيْنِ قَدِيمَةٌ قَبْلَ وُجُودِ مُقْتَضَيَاتِهَا كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ أَسْخَطَتْهُ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أَيْ أَغْضَبُونَا . وَقَالَ تَعَالَى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ سَخِطَ عَلَى الْكُفَّارِ لَمَّا كَفَرُوا وَرَضِيَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا آمَنُوا . وَنَظِيرُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ ; فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ مَقْصُودَةٍ وَإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ إلَى الْعِبَادِ ; لَكِنْ لَا يُثْبِتُونَ لِفِعْلِهِ حِكْمَةً تَعُودُ إلَيْهِ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَلَا لِمَقْصُودِ أَصْلًا . فَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا حِكْمَةً لَكِنْ لَا تَقُومُ بِهِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا قَصْدًا يَتَّصِفُ بِهِ وَالْفَرِيقَانِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا مَقْصُودًا يَعُودُ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ فِي " الْكَلَامِ " : أُولَئِكَ أَثْبَتُوا كَلَامًا هُوَ فِعْلُهُ لَا يَقُومُ بِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا لَا يَقُومُ بِهِ لَا يَعُودُ حُكْمُهُ إلَيْهِ . وَالْفَرِيقَانِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ حِكْمَةٌ مُرَادَةٌ لَهُ كَمَا يَمْنَعُ الْفَرِيقَانِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ وَفِعْلٌ يُرِيدُهُ وَقَوْلُ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ إذْ أَثْبَتُوا الْحِكْمَةَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَثْبَتُوا كَلَامًا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ إذْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ وَقَالُوا : لَا يُوصَفُ بِمُجَرَّدِ الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ أَصْلًا وَلَا يَعُودُ إلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا كَرِيمًا وَرَحِيمًا بِحِكْمَةِ وَرَحْمَةٍ لَمْ تَقُمْ بِهِ كَمَا لَا يَكُونُ عَلِيمًا بِعِلْمِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَقَدِيرًا بِقُدْرَةِ لَمْ تَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ مُحِبًّا رَاضِيًا غَضْبَانَ بِحُبِّ وَرِضًى وَغَضَبٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ . فَكُلٌّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسَائِلِ كَلَامِ اللَّهِ وَأَفْعَالِ اللَّهِ ; بَلْ وَسَائِر صِفَاتِهِ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا هُوَ قَوْلَ السَّلَفِ دُونَ الْآخَرِ ; لَكِنْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ بَلْ وَسَائِر الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ . قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ; وَالرَّسُولِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مُحَمَّدٌ وَالرَّسُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جِبْرِيلُ . قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } {