تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَاحَثَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا : الْقُرْآنُ حَرْفٌ وَصَوْتٌ . وَقَالَ الْآخَرُ : لَيْسَ هُوَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا : النُّقَطُ الَّتِي فِي الْمُصْحَفِ وَالشَّكْلُ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ الْآخَرُ : لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ فَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ ؟
1
فَأَجَابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " يَتَنَازَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْلِطُونَ فِيهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَاَلَّذِي قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } فَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرِهِ عُبِّرَ بِهِ عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَإِنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَإِنَّهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وبالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وبالسريانية كَانَ إنْجِيلًا فَيَجْعَلُونَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا مَعْنًى وَاحِدًا وَهَذَا قَوْلٌ فَاسِدٌ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَهُوَ قَوْلٌ أَحْدَثَهُ ابْنُ كُلَّابٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ غَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ . وَإِنْ أَرَادَ الْقَائِل بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ أَخْطَأَ وَابْتَدَعَ وَقَالَ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْكَلَامَ كَلَامُ الْبَارِئِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ وَفِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ فَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ . { الم } { غُلِبَتِ الرُّومُ } أَهَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي ; وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى . وَالنَّاسُ إذَا بَلَّغُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَبِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ وَالْمُحَدِّثُ بَلَّغَهُ عَنْهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ إذَا بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْهُ وَقَرَأَتْهُ النَّاسُ بِأَصْوَاتِهِمْ . وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَنَادَى مُوسَى بِصَوْتِ نَفْسِهِ ; كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَصَوْتُ الْعَبْدِ لَيْسَ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ وَلَا مِثْلُ صَوْتِهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ : لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . وَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُنَادِي بِصَوْتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا جِبْرِيلَ وَلَا غَيْرِهِ وَأَنَّ الْعِبَادَ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْعَبْدِ صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ صَوْتِ الْعَبْدِ وَصَوْتِ الرَّبِّ ; بَلْ يَجْعَلُ هَذَا هُوَ هَذَا فَيَنْفِيهِمَا جَمِيعًا أَوْ يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا فَإِذَا نَفَى الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ مُنَادِيًا لِعِبَادِهِ بِصَوْتِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْعَبْدِ صِفَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الْمُتَنَوِّعَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ هُوَ مُصِيبٌ فِي هَذَا الْفَرْقِ دُونَ ذَاكَ الثَّانِي الَّذِي فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ حَيْثُ جَعَلَ الْكَلَامَ الْمُتَنَوِّعَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ . وَإِذَا ثَبَتَ جَعْلُ صَوْتِ الرَّبِّ هُوَ صَوْتَ الْعَبْدِ أَوْ سَكَتَ عَنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ إنَّ الْحُرُوفَ مُتَعَاقِبَةٌ فِي الْوُجُودِ مُقْتَرِنَةٌ فِي الذَّاتِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةُ الْأَعْيَانِ فَجَعَلَ عَيْنَ صِفَةِ الرَّبِّ تَحِلُّ فِي الْعَبْدِ أَوْ تَتَّحِدُ بِصِفَتِهِ فَقَالَ بِنَوْعِ مِنْ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ يُفْضِي إلَى نَوْعٍ مِنْ التَّعْطِيلِ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ عَدَمَ الْفَرْقِ وَالْمُبَايَنَةِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَخْلُوقِ وَصِفَاتِهِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ; بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ صَوْتِ الرَّبِّ وَصَوْتِ الْعَبْدِ وَمُتَّفِقُونَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَأَنَّهُ يُنَادِي عِبَادَهُ بِصَوْتِهِ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَلَا مِدَادِ الْمَصَاحِفِ قَدِيمًا بَلْ الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَحْفُوظٌ بِقُلُوبِهِمْ وَهُوَ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ . وَالصَّحَابَةُ كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ لَمَّا كَتَبُوهَا بِغَيْرِ شَكْلٍ وَلَا نُقَطٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ ثُمَّ لَمَّا حَدَثَ اللَّحْنُ نَقَّطَ النَّاسُ الْمَصَاحِفَ وَشَكَّلُوهَا فَإِنْ كُتِبَتْ بِلَا شَكْلٍ وَلَا نُقَطٍ جَازَ وَإِنْ كُتِبَتْ بِنَقْطِ وَشَكْلٍ جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَحُكْمُ " النَّقْطِ وَالشَّكْلِ " حُكْمُ الْحُرُوفِ فَإِنَّ الشَّكْلَ يُبَيِّنُ إعْرَابَ الْقُرْآنِ كَمَا يُبَيِّنُ النَّقْطُ الْحُرُوفَ . وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْحُرُوفُ وَيُكْتَبُ بِهِ الشَّكْلُ وَالنَّقْطُ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بِالشَّكْلِ وَالنَّقْطِ وَبِغَيْرِ شَكْلٍ وَنَقْطٍ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَحُكْمُ الْإِعْرَابِ حُكْمُ الْحُرُوفِ ; لَكِنَّ الْإِعْرَابَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِلْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ ; فَلِهَذَا لَا يُحْتَاجُ لِتَجْرِيدِهِمَا وَإِفْرَادِهِمَا بِالْكَلَامِ ; بَلْ الْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ : مَعَانِيهِ وَحُرُوفُهُ وَإِعْرَابُهُ وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ . وَالْمَكْتُوبُ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ : سَوَاءٌ كُتِبَ بِشَكْلِ وَنَقْطٍ أَوْ بِغَيْرِ شَكْلٍ وَنَقْطٍ وَالْمِدَادُ الَّذِي كُتِبَ بِهِ الْقُرْآنُ لَيْسَ بِقَدِيمِ ; بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ الَّذِي كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِالْمِدَادِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْمَصَاحِفُ يَجِبُ احْتِرَامُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ فِيهَا وَاحْتِرَامُ النَّقْطِ وَالشَّكْلِ إذَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ مُشَكَّلًا مَنْقُوطًا كَاحْتِرَامِ الْحُرُوفِ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ إعْرَابِ الْقُرْآنِ كَحُرْمَةِ حُرُوفِهِ الْمَنْقُوطَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ . وَاَللَّهُ تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ فَجَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ فَلَا يُقَالُ بَعْضُهُ كَلَامُ اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَى مُوسَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } { إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ إيحَائِهِ إلَى النَّبِيِّينَ وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى فَمَنْ قَالَ : إنَّ مُوسَى لَمْ يَسْمَعْ صَوْتًا ; بَلْ أُلْهِمَ مَعْنَاهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُوسَى وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَالتَّكَلُّمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَهَذَا كَانَ ضَالًّا . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءِ بَعْدَ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } فَنَادَاهُ حِينَ أَتَاهَا وَلَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ نَادَاهُمَا حِينَ أَكَلَا مِنْهَا وَلَمْ يُنَادِهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } بَعْدَ أَنْ خَلَقَ آدَمَ وَصَوَّرَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَا قَوْلُهُ : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ : يُخْبِرُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَنَادَى فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ إلَى الصَّفَا قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } وَقَالَ : نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ بَدَأَ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَةِ . وَالسَّلَفُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ قَدِيمُ الْعَيْنِ ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ وَالْخَبَرُ بِكُلِّ مُخْبَرٍ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَازِمَةٌ لِذَاتِ اللَّه لَمْ تَزَلْ لَازِمَةً لِذَاتِهِ وَإِنَّ الْبَاءَ وَالسِّينَ وَالْمِيمَ مَوْجُودَةٌ مُقْتَرِنَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ مَعًا أَزَلًا وَأَبَدًا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا شَيْءٌ شَيْئًا . وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ فِي الْأَزَلِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِالنِّدَاءِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنَّمَا تَجَدَّدَ اسْتِمَاعُ مُوسَى لَا أَنَّهُ نَادَاهُ حِينَ أَتَى الْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ ; بَلْ نَادَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَنَاهَى وَلَكِنْ تِلْكَ السَّاعَةُ سَمِعَ النِّدَاءَ . وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فِي أَصْلِ قَوْلِهِمْ . فَإِنَّ أَصْلَ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّبَّ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ . فَلَا يَقُومُ بِهِ كَلَامٌ وَلَا فِعْلٌ بِاخْتِيَارِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَالُوا : هَذِهِ حَوَادِثُ وَالرَّبُّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ . فَخَالَفُوا صَحِيحَ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ بِهَذَا يَرُدُّونَ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَيُثْبِتُونَ حُدُوثَ الْعَالَمِ وَأَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِلْفَلَاسِفَةِ كَسَرُوا وَادَّعَوْا أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا فِعْلٍ يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ صَارَ قَادِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا بِغَيْرِ أَمْرٍ حَدَثَ أَوْ يُغَيِّرُونَ الْعِبَارَةَ فَيَقُولُونَ . لَمْ يَزَلْ قَادِرًا ; لَكِنْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمَقْدُورَ كَانَ مُمْتَنِعًا وَإِنَّ الْفِعْلَ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ . وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا : كَانَ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى مَا يُمْكِنُ فِيمَا لَا يَزَالُ لَا عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ فِي الْأَزَلِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ حَيْثُ يُثْبِتُونَهُ قَادِرًا فِي حَالِ كَوْنِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ وَبَيْنَ عَيْنِهِ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْفَلَاسِفَةُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ; بَلْ الْفَلَاسِفَةُ ادَّعَوْا أَنَّ مَفْعُولَهُ الْمُعَيَّنَ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ فَضَلُّوا فِي ذَلِكَ وَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ ; فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعَالَمِ بَلْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ; إذْ هُوَ فَاعِلٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ وَالْفَاعِلُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولِهِ لَازِمًا لِذَاتِهِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَاتِّفَاقِ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ . بَلْ وَكُلُّ فَاعِلٍ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولِهِ لَازِمًا لِذَاتِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ مُقَارَنَةُ مَفْعُولِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ فَكَيْفَ بِالْفَاعِلِ بِالْإِرَادَةِ . وَمَا يُذْكَرُ بِأَنَّ الْمَعْلُولَ يُقَارِنُ عِلَّتَهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مِنْ الْعِلَلِ يَجْرِي مَجْرَى الشُّرُوطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ لَا يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَشْرُوطِ بَلْ قَدْ يُقَارِنُهُ كَمَا تُقَارِنُ الْحَيَاةُ الْعِلْمَ وَأَمَّا مَا كَانَ فَاعِلًا سَوَاءً سُمِّيَ عِلَّةً أَوْ لَمْ يُسَمَّ عِلَّةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ وَالْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَهُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ وَلَا يَعْرِفَ الْعُقَلَاءُ فَاعِلًا قَطُّ يَلْزَمُهُ مَفْعُولٌ مُعَيَّنٌ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ حَرَّكْت يَدِي فَتَحَرَّكَ الْخَاتَمُ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّرْطِ لَا مِنْ بَابِ الْفَاعِلِ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَالَمُ قَدِيمًا لَكَانَ فَاعِلُهُ مُوجِبًا بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ وَهَذَا خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ . وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ ; بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ وَلَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مَنْعُوتًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْعَالَمُ فِيهِ مِنْ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ مَا دَلَّ عَلَى عِلْمِ الرَّبِّ وَفِيهِ مِنْ الِاخْتِصَاصِ مَا دَلَّ عَلَى مَشِيئَتِهِ وَفِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ مَا دَلَّ عَلَى رَحْمَتِهِ ; وَفِيهِ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ مَا دَلَّ عَلَى حِكْمَتِهِ وَفِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا دَلَّ عَلَى قُدْرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى مَعَ أَنَّ الرَّبَّ مُسْتَحِقٌّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِذَاتِهِ ; فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكُلِّ كَمَالٍ مُمْكِنِ الْوُجُودِ لَا نَقْصَ فِيهِ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ مُنَزَّهٌ فِيهَا عَنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَمُنَزَّهٌ عَنْ النَّقَائِصِ مُطْلَقًا ; فَإِنَّ وَصْفَهُ بِهَا مَنْ أَعْظَمِ الْأَبَاطِيلِ وَكَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ لَا يَسْتَفِيدُهُ مَنْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى خَلْقِهِ بِالْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَمَا جَعَلَهُ فِيهِمْ مِنْ صِفَاتِ الْأَحْيَاءِ وَخَالِقُ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَحَقُّ بِهَا وَلَا كُفُؤَ لَهُ فِيهَا وَأَصْلُ اضْطِرَابِ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ " أَنَّ الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةَ لَمَّا نَاظَرَتْ الْفَلَاسِفَةَ فِي " مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ " اعْتَقَدُوا أَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتَنَاهَى لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَالْتَزَمُوا أَنَّ الرَّبَّ كَانَ فِي الْأَزَلِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ ; بَلْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ . وَكَانَ مُعَطَّلًا عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا فِي الْأَزَلِ عَلَى الْفِعْلِ فِيمَا لَا يَزَالُ مَعَ امْتِنَاعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ حَيْثُ يَصِفُونَهُ بِالْقُدْرَةِ فِي حَالِ امْتِنَاعِ الْمَقْدُورِ لِذَاتِهِ ; إذْ كَانَ الْفِعْلُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوَّلُ وَالْأَزَلُ لَا أَوَّلَ لَهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَوَّلِيَّةِ وَنَفْيِهَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَلَمْ يَهْتَدُوا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلِيَّةَ وَالْحُدُوثَ وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ وَالْمَفْعُولُ الْمُعَيَّنُ وَبَيْنَ مَا لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَهُوَ نَوْعُ الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ ; بَلْ هَذَا يَكُونُ دَائِمًا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ آحَادِهِ حَادِثًا كَمَا يَكُونُ دَائِمًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ آحَادِهِ فَانِيًا بِخِلَافِ خَالِقٍ يَلْزَمُهُ مَخْلُوقُهُ الْمُعَيَّنُ دَائِمًا فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَصَحِيحِ النَّقْلِ ; وَلِهَذَا اتَّفَقَتْ فِطَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ إلَّا شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمُمْكِنَ الْمَفْعُولَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ فَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لِسَلَفِهِمْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَإِنْ قَالُوا بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَأَرِسْطُو أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِقِدَمِهَا مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ بِنَاءً عَلَى إثْبَاتِ عِلَّةٍ غائية لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ يَتَحَرَّكُ الْفَلَكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ فَاعِلًا مُبْدِعًا وَلَمْ يُثْبِتُوا مُمْكِنًا قَدِيمًا وَاجِبًا بِغَيْرِهِ وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَجْهَلَ بِاَللَّهِ وَأَكْفَرَ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ فَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مَا كَانَ مُمْكِنًا بِذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَقُولُوا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ . وَطَائِفَةٌ وَافَقَتْهُمْ عَلَى امْتِنَاعِ وُجُودِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ; لَكِنْ قَالُوا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ فَقَالُوا إنَّهُ فِي الْأَزَلِ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بَلْ وَلَا كَانَ الْكَلَامُ مَقْدُورًا لَهُ ثُمَّ صَارَ مُتَكَلِّمًا بِلَا حُدُوثِ حَادِثٍ بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْهَاشِمِيَّةِ والكرامية وَغَيْرِهِمْ . وَطَائِفَةٌ قَالَتْ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَا يَكُونُ إلَّا قَدِيمَ الْعَيْنِ لَازِمًا لِذَاتِ الرَّبِّ فَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ فَجَعَلَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَآيَةَ الدَّيْنِ وَسَائِر آيَاتِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَكُلَّ كَلَامٍ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ مَعْنًى وَاحِدًا لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُقْتَرِنَةٌ لَازِمَةٌ لِلَذَّاتِ . وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا وَافَقُوا الجهمية وَالْمُعْتَزِلَةَ فِي أَصْل قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى عَرْشِهِ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُنَادِ مُوسَى حِينَ نَادَاهُ وَلَا تُغْضِبُهُ الْمَعَاصِي وَلَا تُرْضِيه الطَّاعَاتُ وَلَا تُفْرِحُهُ تَوْبَةُ التَّائِبِينَ . وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ : إنَّهُ لَا يَرَاهَا إذَا وُجِدَتْ ; بَلْ إمَّا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ رَائِيًا لَهَا وَإِمَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ بَلْ تَعَلُّقٌ مَعْدُومٌ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي خَالَفُوا فِيهَا نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ . وَاَلَّذِي أَلْجَأَهُمْ لِذَلِكَ مُوَافَقَتُهُمْ للجهمية عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقْدِرُ فِي الْأَزَلِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْكَلَامِ وَخَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ فِي قَوْلِهِمْ : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ ثُمَّ افْتَرَقُوا أَحْزَابًا أَرْبَعَةً كَمَا تَقَدَّمَ : الخلقية والحدوثية والاتحادية و الِاقْتِرَانِيَّةُ . وَشَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ لَا بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ وَلَا بِكَلَامِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ : لَا قَدِيمِ النَّوْعِ وَلَا قَدِيمِ الْعَيْنِ وَلَا حَادِثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ ; بَلْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ مَا يَفِيضُ عَلَى نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ . وَيَقُولُونَ إنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى مِنْ سَمَاءِ عَقْلِهِ وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ ; فَإِنَّهُ إنَّمَا يَعْلَمُهَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَيَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ . وَقَوْلُهُمْ يَعْلَمُ نَفْسَهُ وَمَفْعُولَاتِهِ حَقٌّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لَكِنْ قَوْلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَعْيَانَ الْمُعَيَّنَةَ جَهْلٌ وَتَنَاقُضٌ فَإِنَّ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ مُعَيَّنَةٌ وَالْأَفْلَاكُ مُعَيَّنَةٌ وَكُلُّ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٌ . فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُعَيَّنَاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ إذْ الْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّاتٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ . تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَهُمْ إنَّمَا أَلْجَأَهُمْ إلَى هَذَا الْإِلْحَادِ فِرَارُهُمْ مِنْ تَجَدُّدِ الْأَحْوَالِ لِلْبَارِي تَعَالَى مَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ الْحَوَادِثَ تَقُومُ بِالْقَدِيمِ وَإِنَّ الْحَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ; لَكِنْ نَفَوْا ذَلِكَ عَنْ الْبَارِي لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا صِفَةَ لَهُ ; بَلْ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَقَالُوا : إنَّ الْعِلْمَ نَفْسُ عَيْنِ الْعَالِمِ وَالْقُدْرَةَ نَفْسُ عَيْنِ الْقَادِرِ وَالْعِلْمَ وَالْعَالِمَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالْمُرِيدَ وَالْإِرَادَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَاتِ هِيَ الْمَوْصُوفَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْعِلْمُ كُلُّ الْمَعْلُومِ كَمَا يَقُولُهُ الطوسي صَاحِبُ " شَرْحِ الْإِشَارَاتِ " فَإِنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ سِينَا إثْبَاتَهُ لِعِلْمِهِ بِنَفْسِهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْ نَفْسِهِ وَابْنُ سِينَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ لَكِنَّهُ تَنَاقَضَ مَعَ ذَلِكَ حَيْثُ نَفَى قِيَامَ الصِّفَاتِ بِهِ وَجَعَلَ الصِّفَةَ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَكُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى . وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ هُمْ أَوْغَلَ فِي الِاتِّحَادِ وَالْإِلْحَادِ مِمَّنْ يَقُولُ مَعَانِي الْكَلَامِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ; لَكِنَّهُمْ أَلْزَمُوا قَوْلَهُمْ لِأُولَئِكَ فَقَالُوا : إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةُ شَيْئًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةَ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةَ . فَاعْتَرَفَ حُذَّاقُ أُولَئِكَ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَا جَوَابَ عَنْهُ . ثُمَّ قَالُوا : وَإِذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى جَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ فَجَاءَ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَابْنُ سَبْعِينَ والقونوي وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ فَقَالُوا : إذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ جَاز أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ الْخَالِقُ هُوَ الْمَوْجُودَ الْمُمْكِنَ الْمُحْدَثَ الْمَخْلُوقَ فَقَالُوا : إنَّ وُجُودَ كُلِّ مَخْلُوقٍ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَقَالُوا : الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ أُولَئِكَ بَيْنَ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْكَلَامِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ . وَكَانَ مُنْتَهَى أَمْرِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ فِي الْكَلَامِ إلَى هَذَا التَّعْطِيلِ وَالْكُفْرِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي قَالَهُ أَهْلُ الْوَحْدَةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ كَمَا أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَعَيْنِهِ وَقَالُوا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ قَدِيمٍ قَالُوا أَوَّلًا : إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا تَسْبِقُ الْبَاءُ السِّينَ ; بَلْ لَمَّا نَادَى مُوسَى فَقَالَ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } { إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } كَانَتْ الْهَمْزَةُ وَالنُّونُ وَمَا بَيْنَهُمَا مَوْجُودَاتٍ فِي الْأَزَلِ يُقَارِنُ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ لَازِمَةً لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى . ثُمَّ قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ : إنَّ ذَلِكَ الْقَدِيمَ هُوَ نَفْسُ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ الْمَسْمُوعُ صَوْتَانِ قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَشْكَالُ الْمِدَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَحَلُّ الْمِدَادِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ . وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : الْمِدَادُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ وَأَكْثَرُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلَفْظِ الْقَدِيمِ وَلَا يَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ ; بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدِيمٌ فِي عِلْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَقُولُ فَصَارَ هَؤُلَاءِ حُلُولِيَّةً اتِّحَادِيَّةً فِي الصِّفَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَكَانَ مُنْتَهَى أَمْرِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إلَى التَّعْطِيلِ . وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّ كَلِمَاتِهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنَّمَا نَادَاهُ حِينَ أَتَى ; لَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّ صَوْتَ الرَّبِّ لَا يُمَاثِلُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ لَا يُمَاثِلُ عِلْمَهُمْ وَقُدْرَتَهُ لَا تُمَاثِلُ قُدْرَتَهُمْ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَإِنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ عَطَّلُوا الذَّاتَ أَوْ الصِّفَاتِ أَوْ الْكَلَامَ أَوْ الْأَفْعَالَ بَاطِلَةٌ وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْحُلُولِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي الذَّاتِ أَوْ الصِّفَاتِ بَاطِلَةٌ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ بَسَطْنَاهَا فِي الْوَاجِبِ الْكَبِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .