تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ قَدْ كَتَبْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ الْكَلَامَ عَلَى جَمْعِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَبَيْنَ الْبُخْلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } فِي النِّسَاءِ وَالْحَدِيدِ وَضِدُّ ذَلِكَ الْإِعْطَاءِ وَالتَّقْوَى الْمُتَضَمِّنَةِ لِلتَّوَاضُعِ كَمَا قَالَ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا جِمَاعُ الدِّينِ الْعَامِّ كَمَا يُقَالُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ . فَالتَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ يَكُونُ بِالْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَذَلِكَ أَصْلُ التَّقْوَى وَالرَّحْمَةُ لِعِبَادِ اللَّهِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَهَذَانِ هُمَا حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَالذُّلِّ لَهُ وَذَلِكَ كُلُّهُ مُضَادٌّ لِلْخُيَلَاءِ وَالْفَخْرِ وَالْكِبْرِ . وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَفْعِ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَذَلِكَ مُضَادٌّ لِلْبُخْلِ . وَلِهَذَا وَغَيْرِهِ كَثَّرَ الْقِرَانُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ تَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا كَانَ ذِكْرًا لِلَّهِ أَوْ دُعَاءً لَهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَا دُمْت تَذْكُرُ اللَّهَ فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ وَلَوْ كُنْت فِي السُّوقِ وَهَذَا الْمَعْنَى - وَهُوَ دُعَاءُ اللَّهِ أَيْ قَصْدُهُ وَالتَّوَجُّهُ إلَيْهِ الْمُتَضَمِّنُ ذِكْرَهُ عَلَى وَجْهِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ - هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ اسْمِ الصَّلَاةِ كَصَلَاةِ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ وَالْمُضْطَجِعِ . وَالْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ وَالنَّاطِقِ وَالْأَخْرَسِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ حَرَكَاتُهَا وَأَلْفَاظُهَا فَإِنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوَارِدِهَا هُوَ بِالتَّوَاطُؤِ الْمُنَافِي لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ ادَّعَى فِيهَا الِاشْتِرَاكَ وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى الْمَجَازَ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا مَنْقُولَةً مِنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ مَزِيدَةً أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ الْعَامِّ الْمُتَوَاطِئِ الْمُطْلَقِ إذَا دَلَّ عَلَى نَوْعٍ أَوْ عَيْنٍ كَقَوْلِك هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ قَوْلِك : هَاتِ الْحَيَوَانَ الَّذِي عِنْدَك وَهِيَ غَنَمٌ فَهُنَا اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ : عَلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ الْمَوَارِدِ وَعَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا النَّوْعُ أَوْ الْعَيْنُ . فَاللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ الْمَوْجُودُ فِي جَمِيعِ التَّصَارِيفِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا قُرِنَ بِاللَّفْظِ مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ مَثَلًا أَوْ غَيْرِهَا دَلَّ عَلَى الْخُصُوصِ وَالتَّعْيِينِ وَكَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمُطْلَقَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَكَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَفْظٌ مُطْلَقٌ مُجَرَّدٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ . فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُفِيدُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ وَذَلِكَ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ كَقَوْلِك أَكْرِمْ الْإِنْسَانَ أَوْ الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الْفَرَسِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حَيْثُ ظَنُّوا وُجُودَهَا فِي الْخَارِجِ مُجَرَّدَةً عَنْ الْقُيُودِ وَفِي اللَّفْظِ الْمُتَوَاطِئِ حَيْثُ ظَنُّوا تَجَرُّدَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَنْ الْقُيُودِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُطْلَقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَلَا يُوجَدُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مُقَيَّدًا مُخَصَّصًا وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْنَى مُجَرَّدًا كَانَ مَحَلُّهُ الذِّهْنَ وَحِينَئِذٍ يُقَدَّرُ لَهُ لَفْظٌ مُجَرَّدٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ مُجَرَّدًا . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ فِيهِ عُمُومٌ وَإِطْلَاقٌ وَلَكِنْ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونًا بِقَيْدِ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ مَوَارِدِهِ كَصَلَوَاتِنَا وَصَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَالصَّلَاةِ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي مِثْلِ هَذَا حَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّ صَلَاةَ هَذَا الصِّنْفِ مِثْلُ صَلَاةِ هَذَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ صِلَاتُهُ مِثْلَ صِلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُتَشَابِهٌ كَمَا قَدْ حَقَّقْنَا هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى الِاتِّحَادِيَّةِ والجهمية والمتفلسفة وَنَحْوِهِمْ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ الَّتِي يُسَمَّى وَيُوصَفُ الْعِبَادُ بِمَا يُشْبِهُهَا كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ اسْمُ الزَّكَاةِ هُوَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ } وَأَمَّا الزَّكَاةُ الْمَالِيَّةُ الْمَفْرُوضَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالزَّكَاةُ الْمُقَارِنَةُ لِلصَّلَاةِ تُشَارِكُهَا فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قَالَ : يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ : يُعِينُ صَانِعًا أَوْ يَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ؟ قَالَ : يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّرِّ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِ : { عَلَى كُلِّ سلامي مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ } فَهَذَا - إنْ شَاءَ اللَّهُ - كَتَضَمُّنِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ نَفْعَ الْخَلَائِقِ فَإِنَّهُ بِمِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ يَحْصُلُ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ وَالْهُدَى فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْخَلْقِ . ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ هِيَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ وَجِنْسُ الصَّلَاةِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْغَيْرُ يَتَضَمَّنُ الْمَعْنَيَيْنِ الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَاةٌ وَصَدَقَةٌ ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ دُعَاءٍ لِلْغَيْرِ وَاسْتِغْفَارٍ مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْغَيْرِ دُعَاءٌ لِلنَّفْسِ أَيْضًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِدَعْوَةِ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا كُلَّمَا دَعَا لَهُ بِدَعْوَةِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ } .