تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَوْلُهُ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } الْآيَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ : { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْجَمْعِ أَعْرَضَ الْعَاصِي عَنْ ذَمِّ نَفْسِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الذَّنْبِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ وَقَامَ بِقَلْبِهِ حُجَّةُ إبْلِيسَ فَلَمْ تَزِدْهُ إلَّا طَرْدًا كَمَا زَادَتْ الْمُشْرِكِينَ ضَلَالًا حِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } . وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْقِ لَغَابُوا عَنْ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَاللَّجَأِ إلَى اللَّهِ فِي الْهِدَايَةِ كَمَا فِي خُطْبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ } فَيَشْكُرُهُ وَيَسْتَعِينُهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَيَحْمَدُهُ عَلَى إحْسَانِهِ . ثُمَّ قَالَ : { وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا } إلَى آخِرِهِ . لَمَّا اسْتَغْفَرَ مِنْ الْمَعَاصِي اسْتَعَاذَهُ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ تَقَعُ . ثُمَّ قَالَ : { وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا } أَيْ وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا . ثُمَّ قَالَ { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ } إلَخْ . شَهَادَةٌ بِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ هَذَا كُلُّهُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَاللَّجَأِ إلَيْهِ وَالْإِيمَانِ بِأَقْدَارِهِ . فَهَذِهِ الْخُطْبَةُ عِقْدُ نِظَامِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . وَقَالَ كَوْنُ الْحَسَنَاتِ مِنْ اللَّهِ وَالسَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ لَهُ وُجُوهٌ : " الْأَوَّلُ " أَنَّ النِّعَمَ تَقَعُ بِلَا كَسْبٍ . " الثَّانِي " أَنَّ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ إحْسَانِ اللَّهِ إلَى عَبْدِهِ فَخَلَقَ الْحَيَاةَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَحَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ . وَإِذَا تَدَبَّرْت هَذَا شَكَرْت اللَّهَ فَزَادَك وَإِذَا عَلِمْت أَنَّ الشَّرَّ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ نَفْسِك تُبْت فَزَالَ . الثَّالِثُ أَنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ . الرَّابِعُ أَنَّ الْحَسَنَةَ يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا فَيُحِبُّ أَنْ يُنْعِمَ وَيُحِبَّ أَنْ يُطَاعَ ; وَلِهَذَا تَأَدَّبَ الْعَارِفُونَ فَأَضَافُوا النِّعَمَ إلَيْهِ وَالشَّرَّ إلَى مَحَلِّهِ كَمَا قَالَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } . " الْخَامِسُ " أَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ بِهَا بِكُلِّ اعْتِبَارٍ وَأَمَّا السَّيِّئَةُ فَمَا قَدَّرَهَا إلَّا لِحِكْمَةِ . السَّادِسُ أَنَّ الْحَسَنَاتِ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ ; لِأَنَّهَا إمَّا فِعْلُ مَأْمُورٍ أَوْ تَرْكُ مَحْظُورٍ وَالتَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ فَتَرْكُهُ لَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ ذَنْبٌ وَكَرَاهَتُهُ لَهُ وَمَنْعُ نَفْسِهِ مِنْهُ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُغْضَ فِي اللَّهِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الْإِيمَانِ وَهُوَ أَصْلُ التَّرْكِ . وَجَعَلَ الْمَنْعَ لِلَّهِ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَصْلُ التَّرْكِ . وَكَذَلِكَ بَرَاءَةُ الْخَلِيلِ مِنْ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ وَمَعْبُودِيهِمْ لَيْسَتْ تَرْكًا مَحْضًا ; بَلْ صَادِرًا عَنْ بُغْضٍ وَعَدَاوَةٍ . وَأَمَّا السَّيِّئَاتُ فَمَنْشَؤُهَا مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ . وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْجَهْلِ وَإِلَّا فَلَوْ تَمَّ الْعِلْمُ بِهَا لَمْ يَفْعَلْهَا ; فَإِنَّ هَذَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَقَدْ يَغْفُلُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ بِقُوَّةِ وَارِدِ الشَّهْوَةِ وَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } الْآيَةَ . السَّابِعُ أَنَّ ابْتِلَاءَهُ لَهُ بِالذُّنُوبِ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ . " الثَّامِنُ " أَنَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ لَا تَنْحَصِرُ أَسْبَابُهُ مِنْ إنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ ; فَيَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى اللَّهِ وَلَا يَرْجُو إلَّا هُوَ ; فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ التَّامَّ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ وَأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الشُّكْرِ جَزَاءً عَلَى مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ; وَلَكِنْ لَا يَبْلُغُ أَنْ يَشْكُرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ الْمُنْعِمُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَخْلُوقٌ وَنِعَمُ الْمَخْلُوقِ مِنْهُ أَيْضًا وَجَزَاؤُهُ عَلَى الشُّكْرِ وَالْكُفْرِ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ . فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } صَارَ تَوَكُّلُهُ وَرَجَاؤُهُ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَإِذَا عَرَفَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الشُّكْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ صَارَ لَهُ وَالشَّرُّ انْحَصَرَ سَبَبُهُ فِي النَّفْسِ ; فَعَلِمَ مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى فَتَابَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلَّا رَبَّهُ وَلَا يَخَافُ إلَّا ذَنْبَهُ . وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ السَّلَفِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مُطْلَقًا كَانَ بِذُنُوبِهِمْ لَمْ يُسْتَثْنَ أَحَدٌ وَهَذَا مِنْ فَوَائِدِ تَخْصِيصِ الْخِطَابِ ; لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ " . التَّاسِعُ " أَنَّ السَّيِّئَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّفْسِ وَالسَّيِّئَةُ خَبِيثَةٌ : كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } الْآيَةَ . قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ : الْكَلِمَاتُ { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } وَقَالَ : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } وَقَالَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَالْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ صِفَاتٌ لِلْقَائِلِ الْفَاعِلِ فَإِذَا اتَّصَفَتْ النَّفْسُ بِالْخُبْثِ فَمَحَلُّهَا مَا يُنَاسِبُهَا فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَيَّاتِ يُعَاشِرْنَ النَّاسَ كَالسَّنَانِيرِ لَمْ يَصْلُحْ ; بَلْ إذَا كَانَ فِي النَّفْسِ خُبْثٌ طَهُرَتْ حَتَّى تَصْلُحَ لِلْجَنَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ وَفِيهِ : { حَتَّى إذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ } فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ السَّيِّئَةَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَطْمَعْ فِي السَّعَادَةِ التَّامَّةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ بَلْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِهِ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } إلَخْ . وَعَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ عَدْلٌ وَأَفْعَالُهُ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ { يَمِينُ اللَّهِ ملآى } إلَى قَوْلِهِ : { وَالْقِسْطُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى } وَعَلِمَ فَسَادَ قَوْلِ الجهمية الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا عَدْلٍ . إلَى أَنْ قَالَ : وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ غَايَتُهُ إذَا عَظُمَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَنْ يَقُولَ - كَمَا نُقِلَ عَنْ الشاذلي - يَكُونُ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ أَقْوَالٌ وَأَدْعِيَةٌ تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَجُوزَ عِنْدَهُ أَنْ يَجْعَلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَيَدْعُونَ بِأَدْعِيَةِ فِيهَا اعْتِدَاءٌ كَمَا فِي حِزْبِ الشاذلي . وَآخَرُونَ مِنْ عَوَامِّهِمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُكَرِّمَ اللَّهُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ لِمَنْ هُوَ فَاجِرٌ وَكَافِرٌ وَيَقُولُونَ : هَذِهِ مَوْهِبَةٌ وَيَظُنُّونَهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ وَهِيَ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ مِثْلُهَا لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } وَصَحَّ قَوْلُهُ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } . فَعَدَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ إلَى أَنْ نَبَذَ الْقُرْآنَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ فَلَا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْآنِ وَنَهْيَهُ وَلَا يُوَالِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِ وَلَا يُعَادِي مَنْ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُعَادَاتِهِ ; بَلْ يُعَظِّمُ مَنْ يَأْتِي بِبَعْضِ الْخَوَارِقِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ الشَّيَاطِينِ ; لَكِنْ يُعَظِّمُهُ لِهَوَاهُ وَيُفَضِّلُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } إلَخْ . قَالَ : وَفِي قَوْله تَعَالَى { فَمِنْ نَفْسِكَ } مِنْ الْفَوَائِدِ : أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَلَامِ النَّاسِ وَذَمِّهِمْ ; بَلْ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ ; وَلِهَذَا كَانَ أَنْفَعُ الدُّعَاءِ وَأَعْظَمُهُ دُعَاءَ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْهُدَى كُلَّ لَحْظَةٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَاجَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُصَّ عَلَيْنَا قِصَّةً فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِنَعْتَبِرَ وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا قِسْنَا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ ; فَلَوْلَا أَنَّ فِي النُّفُوسِ مَا فِي نُفُوسِ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ لَمْ يَكُنْ بِنَا حَاجَةٌ إلَى الِاعْتِبَارِ بِمَنْ لَا نُشَبِّهُهُ قَطُّ ; وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا يُقَالُ لَكَ إلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } وَقَوْلُهُ : { أَتَوَاصَوْا بِهِ } وَقَوْلُهُ : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } وَلِهَذَا فِي الْحَدِيثِ : { لَتَسْلُكُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ } . وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مِنْ النَّفْسِ وَأَعْظَمُ السَّيِّئَاتِ جُحُودُ الْخَالِقِ وَالشِّرْكُ بِهِ وَطَلَبُ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لَهُ وَكِلَا هَذَيْنِ وَقَعَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا مِنْ نَفْسٍ إلَّا وَفِيهَا مَا فِي نَفْسِ فِرْعَوْنَ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اعْتَبَرَ وَتَعَرَّفَ أَحْوَالَ النَّاسِ رَأَى مَا يُبْغِضُ نَظِيرَهُ وَأَتْبَاعَهُ حَسَدًا كَمَا فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مَنْ يَدْعُو إلَى مَثَلِ مَا دَعَا إلَيْهِ مُوسَى ; وَلِهَذَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِنَظِيرِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِرْعَوْنَ .