تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَصْلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } فَقَوْلُهُ : { يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : مَعْنَاهُ تَخُونُونَ أَنْفُسَكُمْ . زَادَ بَعْضُهُمْ : تَظْلِمُونَهَا . فَجَعَلُوا الْأَنْفُسَ مَفْعُولَ { تَخْتَانُونَ } وَجَعَلُوا الْإِنْسَانَ قَدْ خَانَ نَفْسَهُ أَيْ ظَلَمَهَا بِالسَّرِقَةِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أبيرق - أَوْ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يَذْنِبُهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ ظَلَمَ فِيهِ نَفْسَهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً . وَإِذَا كَانَ اخْتِيَانُ النَّفْسِ هُوَ ظُلْمُهَا أَوْ ارْتِكَابُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهَا كَانَ كُلُّ مُذْنِبٍ مُخْتَانًا لِنَفْسِهِ وَإِنْ جَهَرَ بِالذُّنُوبِ وَكَانَ كُفْرُ الْكَافِرِينَ وَقِتَالُهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ وَكَذَلِكَ قَطْعُ الطَّرِيقَ وَالْمُحَارَبَةُ وَكَذَلِكَ الظُّلْمُ الظَّاهِرُ وَكَانَ مَا فَعَلَهُ قَوْمُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ اخْتِيَانًا لِأَنْفُسِهِمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي خَاصٍّ مِنْ الذُّنُوبِ مِمَّا يُفْعَلُ سِرًّا وَحَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } عَنَى بِذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ { لَمَّا جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فشكى أَنَّهُ بَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ لَمَّا نَامَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَكَانَ مَنْ نَامَ قَبْلَ الْأَكْلِ حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ فَيَسْتَمِرُّ صَائِمًا فَأَصْبَحَ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنِ فَلَمَّا شَكَا حَالَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَدْت أَهْلِي اللَّيْلَةَ فَقَالَتْ إنَّهَا قَدْ نَامَتْ فَظَنَنْتهَا لَمْ تَنَمْ فَوَاقَعْتهَا فَأَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ نَامَتْ قَالُوا : فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي عُمَرَ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ } } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْجِمَاعَ لَيْلَةَ الصِّيَامِ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ النَّوْمِ . وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ عُمَرَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْلَ النَّوْمِ وَأَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ أَخَذَ يَلُومُ نَفْسَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْتَذِرُ إلَى اللَّهِ مِنْ نَفْسِي هَذِهِ الْخَائِنَةَ إنِّي رَجَعْت إلَى أَهْلِي بَعْدَمَا صَلَّيْت الْعِشَاءَ فَوَجَدْت رَائِحَةً طَيِّبَةً فَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي فَجَامَعْت أَهْلِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنْت جَدِيرًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ } وَجَاءَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَذَكَرُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ . فَهَذَا فِيهِ أَنَّ نَفْسَهُ الْخَاطِئَةَ سَوَّلَتْ لَهُ ذَلِكَ وَدَعَتْهُ إلَيْهِ وَأَنَّهُ أَخَذَ يَلُومُهَا بَعْدَ الْفِعْلِ فَالنَّفْسُ هُنَا هِيَ الْخَائِنَةُ الظَّالِمَةُ وَالْإِنْسَانُ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ إذَا لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ إلَى أَفْعَالِ لَا تَدْعُو إلَيْهَا عَلَانِيَةٌ وَعَقْلُهُ يَنْهَاهُ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَنَفْسُهُ تَغْلِبُهُ عَلَيْهَا . وَلَفْظُ الْخِيَانَةِ حَيْثُ اُسْتُعْمِلَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِيمَا خَفِيَ عَنْ الْمَخُونِ كَاَلَّذِي يَخُونُ أَمَانَتَهُ فَيَخُونُ مَنْ ائْتَمَنَهُ إذَا كَانَ لَا يُشَاهِدُهُ وَلَوْ شَاهَدَهُ لَمَا خَانَهُ . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } وَقَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَامَ : { أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ يَقُومُ إلَى هَذَا فَيَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : هَلَّا أَوْمَضْت إلَيَّ ؟ فَقَالَ : مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ } قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { عَلَى كُلِّ خُلُقٍ يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } وَمَثَلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِنْسَانُ كَيْفَ يَخُونُ نَفْسَهُ . وَهُوَ لَا يَكْتُمُهَا مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ سِرًّا عَنْهَا ؟ كَمَا يَخُونُ مَنْ لَا يَشْهَدُهُ مِنْ النَّاسِ ؟ كَمَا يَخُونُ اللَّهَ وَالرَّسُولَ إذَا لَمْ يُشَاهِدْهُ فَلَا يَكُونُ مِمَّنْ يَخَافُ اللَّهَ بِالْغَيْبِ وَلِمَ خُصَّتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ بِأَنَّهَا خِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ دُونَ غَيْرِهَا ؟ فَالْأَشْبَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : { تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } مِثْلَ قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } . وَالْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ هَذَا : إنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَيُخْرِجُونِ قَوْلَهُ : { سَفِهَ } عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ ; فَيَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوهُ مِنْ اللُّزُومِ إلَى التَّعْدِيَةِ بِلَا حُجَّةٍ . وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ - كَالْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ - فَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُمَيَّزَ قَدْ يَكُونُ مَعْرِفَةً كَمَا يَكُونُ نَكِرَةً وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شَوَاهِدَ كَثِيرَةً مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مِثْلَ قَوْلِهِمْ : أَلِمَ فُلَانٌ رَأْسَهُ وَوَجِعَ بَطْنَهُ وَرَشَدَ أَمْرَهُ . وَكَانَ الْأَصْلُ سَفِهَتْ نَفْسُهُ وَرَشَدَ أَمْرُهُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : غَبِنَ رَأْيُهُ وَبَطِرَتْ نَفْسُهُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } مِنْ هَذَا الْبَابِ فَالْمَعِيشَةُ نَفْسُهَا بَطِرَتْ فَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ نَصَبَهُ عَلَى التَّمْيِيزِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ } فَقَوْلُهُ : { سَفِهَ نَفْسَهُ } مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ أَيْ كَانَتْ سَفِيهَةً فَلَمَّا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ نَصَبَهَا عَلَى التَّمْيِيزِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ ; لَكِنَّ ذَاكَ نَكِرَةٌ وَهَذَا مَعْرِفَةٌ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ أَصَحُّ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى ; فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ السَّفِيهُ نَفْسُهُ : كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ } فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ تَخْتَانُ أَنْفُسُكُمْ فَالْأَنْفُسُ هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ كَمَا أَنَّهَا هِيَ السَّفِيهَةُ . وَقَالَ : اخْتَانَتْ وَلَمْ يَقُلْ خَانَتْ ; لِأَنَّ الِافْتِعَالَ فِيهِ زِيَادَةُ فِعْلٍ عَلَى مَا فِي مُجَرَّدِ الْخِيَانَةِ قَالَ عِكْرِمَةُ : وَالْمُرَادُ بِاَلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ابْنُ أبيرق الَّذِي سَرَقَ الطَّعَامَ وَالْقُمَاشَ وَجَعَلَ هُوَ وَقَوْمُهُ يَقُولُونَ : إنَّمَا سَرَقَ فُلَانٌ لِرَجُلِ آخَرَ . فَهَؤُلَاءِ اجْتَهَدُوا فِي كِتْمَانِ سَرِقَةِ السَّارِقِ وَرَمْيِ غَيْرِهِ بِالسَّرِقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } فَكَانُوا خَائِنِينَ لِلصَّاحِبِ وَالرَّسُولِ وَقَدْ اكْتَسَبُوا الْخِيَانَةَ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَامِعُونَ بِاللَّيْلِ وَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ عَنْهُمْ حِينَ يَفْعَلُونَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوهُ فِيمَا بَعْدُ عِنْدِ التَّوْبَةِ أَمَّا عِنْدَ الْفِعْلِ فَكَانُوا يَحْتَاجُونَ مِنْ سَتْرِ ذَلِكَ وَإِخْفَائِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْخَائِنُ وَحْدَهُ أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ : { تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ يَخُونُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } فَإِنَّ السَّارِقَ وَأَقْوَامًا خَانُوا إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ . وَالْمَجَامِعُ إنْ كَانَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَقَدْ خَانَهَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ . وَالصِّيَامُ مَبْنَاهُ عَلَى الْأَمَانَةِ فَإِنَّ الصَّائِمَ يُمْكِنُهُ الْفِطْرُ وَلَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ فَإِذَا أَفْطَرَ سِرًّا فَقَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ وَالْفِطْرُ بِالْجِمَاعِ الْمَسْتُورِ خِيَانَةٌ كَمَا أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ سِرًّا وَإِخْبَارَ الرَّسُولِ وَالْمَظْلُومِ بِبَرَاءَةِ السَّقِيمِ وَسَقِمَ الْبَرِيءِ خِيَانَةٌ فَهَذَا كُلُّهُ خِيَانَةٌ وَالنَّفْسُ هِيَ الَّتِي خَانَتْ ; فَإِنَّهَا تُحِبُّ الشَّهْوَةَ وَالْمَالَ وَالرِّئَاسَةَ وَخَانَ وَاخْتَانَ مِثْلُ كَسَبَ وَاكْتَسَبَ فَجَعَلَ الْإِنْسَانَ مُخْتَانًا . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الَّتِي تَخْتَانُ كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَضُرُّ ; لِأَنَّ مَبْدَأَ ذَلِكَ مِنْ شَهْوَتِهَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ وَمَبْدَأُ السَّفَهِ مِنْهَا لِخِفَّتِهَا وَطَيْشِهَا وَالْإِنْسَانُ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ بِأُمُورِ يَنْهَاهَا عَنْهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ فَتَكُونُ نَفْسُهُ اخْتَانَتْهُ وَغَلَبَتْهُ وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ وَالْمَالِ ; وَلِهَذَا لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ وَيُقْصَدُ بالائتمان مَنْ لَا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْخِيَانَةِ فِي ذَلِكَ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : لَوْ ائْتَمَنْت عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَأَدَّيْت الْأَمَانَةَ وَلَوْ ائْتَمَنْت عَلَى امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ لَخِفْت أَنْ لَا أُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِيهَا . وَكَذَلِكَ الْمَالُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَنْفُسِ الْحَرِيصَةِ عَلَى أَخْذِهِ كَيْفَ اتَّفَقَ . وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّفْسَ تَخُونُ أَمَانَتَهَا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ابْتِدَاءً لَا يَقْصِدُ الْخِيَانَةَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْخِيَانَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَتَغْلِبُهُ عَلَى رَأْيِهِ وَلِهَذَا يَلُومُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَذُمُّهَا وَيَقُولُ هَذِهِ النَّفْسُ الْفَاعِلَةُ الصَّانِعَةُ ; فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ . فَصْلٌ وَدَلَّ قَوْلُهُ : { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجِدَالُ عَنْ الْخَائِنِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ خَائِنَةً : لَهَا فِي السِّرِّ أَهْوَاءٌ وَأَفْعَالٌ بَاطِنَةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ الْمُجَادَلَةُ عَنْهَا قَالَ تَعَالَى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } فَإِنَّهُ يَعْتَذِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَعْذَارِ وَيُجَادِلُ عَنْهَا وَهُوَ يُبْصِرُهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى : { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ } فَهُوَ يُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ وَفِيهِ لَدَدٌ : أَيْ مَيْلٌ وَاعْوِجَاجٌ عَنْ الْحَقِّ وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مُجَادَلَتُهُ وَذَبُّهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ النَّاسِ و " الثَّانِي " فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِحَيْثُ يُقِيمُ أَعْذَارَ نَفْسِهِ وَيَظُنُّهَا مُحِقَّةً وَقَصْدُهَا حَسَنًا وَهِيَ خَائِنَةٌ ظَالِمَةٌ لَهَا أَهْوَاءٌ خَفِيَّةٌ قَدْ كَتَمَتْهَا حَتَّى لَا يَعْرِفَ بِهَا الرَّجُلُ حَتَّى يَرَى وَيَنْظُرَ قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ قَالَ أَبُو داود : هِيَ حَبُّ الرِّيَاسَةِ . وَهَذَا مِنْ شَأْنِ النَّفْسِ حَتَّى إنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُجَادِلُ اللَّهَ بِالْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْحَدُ أَعْمَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجَوَارِحُهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وَمِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ الْمُجَادَلَةُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْكَذِبِ وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . { وَفِي قِصَّةِ تَبُوكَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ الْمُنَافِقُونَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَجَعَلَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ كَعْبٌ قَالَ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَعَدْت بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ لَقَدَرْت أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ : إنِّي أُوتِيت جَدَلًا ; وَلَكِنْ أَخَافُ إنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشَكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيَّ ; وَلَئِنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَقْوَى قَطُّ وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْت عَنْك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ يَعْنِي وَالْبَاقِي يُكَذَّبُونَ ثُمَّ إنَّهُ هَجَرَهُ مُدَّةً ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ } . فَالِاعْتِذَارُ عَنْ النَّفْسِ بِالْبَاطِلِ وَالْجِدَالُ عَنْهَا لَا يَجُوزُ ; بَلْ إنْ أَذْنَبَ سِرًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ بِذَنْبِهِ وَخَضَعَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَسَأَلَهُ مَغْفِرَتَهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَوَّابٌ وَإِنْ كَانَتْ السَّيِّئَةُ ظَاهِرَةً تَابَ ظَاهِرًا وَإِنْ أَظْهَرَ جَمِيلًا وَأَبْطَنَ قَبِيحًا تَابَ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْقَبِيحِ فَمَنْ أَسَاءَ سِرًّا أَحْسَنَ سِرًّا وَمَنْ أَسَاءَ عَلَانِيَةً أَحْسَنَ عَلَانِيَةً { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } .