تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ قَوْلُهُ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } قِيلَ : اللَّامُ لَامُ كَيْ أَيْ يَسْمَعُونَ لِيَكْذِبُوا وَيَسْمَعُونَ لِيَنْقُلُوا إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك فَيَكُونُونَ كَذَّابِينَ وَنَمَّامِينَ جَوَاسِيسَ وَالصَّوَابُ أَنَّهَا لَامُ التَّعْدِيَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ } فَالسَّمَاعُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الْقَبُولِ أَيْ قَابِلُونَ لِلْكَذِبِ وَيَسْمَعُونَ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك وَيُطِيعُونَهُمْ فَيَكُونُ ذَمًّا لَهُمْ عَلَى قَبُولِ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ وَعَلَى طَاعَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أَيْ هُمْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ وَفِيكُمْ مَنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ فَيَكُونُ قَدْ ذَمَّهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ فِي نَوْعَيْ الْكَلَامِ خَبَرِهِ وَإِنْشَائِهِ فَإِنَّ بَاطِلَ الْخَبَرِ الْكَذِبُ وَبَاطِلَ الْإِنْشَاءِ طَاعَةُ غَيْرِ الرُّسُلِ وَهَذَا بَعِيدٌ . ثُمَّ قَالَ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فَذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي غذائي الْجَسَدِ وَالْقَلْبِ يَغْتَذُونَ الْحَرَامَ بِخِلَافِ مَنْ يَأْكُلُ الْحَلَالَ وَلَا يَقْبَلُ إلَّا الصِّدْقَ وَفِيهِ ذَمٌّ لِمَنْ يُرَوِّجُ عَلَيْهِ الْكَذِبَ وَيَقْبَلُهُ أَوْ يُؤْثِرُهُ لِمُوَافَقَتِهِ هَوَاهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ قَبُولُ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ ; لِأَنَّهَا كَذِبٌ لَا سِيَّمَا إذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ قَبُولُهَا لِأَجْلِ الْعِوَضِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِنْ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ فُتُوحٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ : { إنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أَهْلُ الْبِدَعِ وَأَهْلُ الْفُجُورِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِمَا كُذِبَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَحْكَامِهِ وَاَلَّذِينَ يُطِيعُونَ الْخَلْقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ . وَمِثْلُهُ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } فَإِنَّمَا تَنَزَّلَتْ بِالسَّمْعِ الَّذِي يَخْلِطُ فِيهِ بِكَلِمَةِ الصِّدْقِ أَلْفَ كَلِمَةٍ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى مَنْ هُوَ كَذَّابٌ فَاجِرٌ فَيَكُونُ سَمَّاعًا لِلْكَذِبِ مِنْ مُسْتَرِقَةِ السَّمْعِ . ثُمَّ قَالَ فِي السُّورَةِ : { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } فَقَوْلُ الْإِثْمِ وَسَمَاعُ الْكَذِبِ وَأَكْلُ السُّحْتِ أَعْمَالٌ مُتَلَازِمَةٌ فِي الْعَادَةِ وَلِلْحُكَّامِ مِنْهَا خُصُوصٌ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا ارْتَشَى سَمِعَ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ وَالدَّعْوَى الْفَاجِرَةَ فَصَارَ سَمَّاعًا لِلْكَذِبِ أَكَّالًا لِلسُّحْتِ قَائِلًا لِلْإِثْمِ . وَلِهَذَا خَيَّرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَرْكِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ قَصْدُهُمْ قَبُولَ الْحَقِّ وَسَمَاعَهُ مُطْلَقًا ; بَلْ يَسْمَعُونَ مَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَتَقَوَّلُونَ الرِّوَايَاتِ الْمَكْذُوبَةَ .