تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصْلٌ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي آيَةِ الشَّهَادَةِ فِي قَوْلِهِ { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا } أَيْ بِقَوْلِنَا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى حُذِفَ ضَمِيرُ كَانَ لِظُهُورِهِ أَيْ وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } وَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا } أَيْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ يُعْتَاضُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَيْسَ أَحَدٌ يَشْهَدُ شَهَادَةً مُزَوَّرَةً بِلَا عِوَضٍ - وَلَوْ مَدْحَ - أَوْ اتِّخَاذَ يَدٍ . وَآفَةُ الشَّهَادَةِ : إمَّا اللَّيُّ وَإِمَّا الْإِعْرَاضُ : الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ فَيَحْلِفَانِ لَا نَشْتَرِي بِقَوْلِنَا ثَمَنًا : أَيْ لَا نُكَذِّبُ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ أَوْ لَا نَشْتَرِي بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا ; لِأَنَّهُمَا كَانَا مُؤْتَمَنَيْنِ فَعَلَيْهِمَا عَهْدٌ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ; فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ عَهْدٌ مِنْ الْعُهُودِ . وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا } أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّهَادَةِ أَوْ الْأَمَانَةِ . وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَمَانَةِ فَإِنَّهُمَا اسْتَشْهَدَا وَائْتَمَنَا لَكِنَّ ائْتِمَانَهُمَا لَيْسَ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ ; بَلْ حُكْمُهُ ظَاهِرٌ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهِ إلَى تَنْزِيلٍ بِخِلَافِ اسْتِشْهَادِهِمَا وَالْمَعْثُورُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِثْمِ ظُهُورُ بَعْضِ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ مَنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُمَا بَعْدَ أَنْ وَجَدَ ذِكْرَهَا فِي الْوَصِيَّةِ وَسُئِلَا عَنْهَا فَأَنْكَرَاهَا . وَقَوْلُهُ : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ } يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنًى بَغَى عَلَيْهِمْ وعدى ( عَلَيْهِمْ كَمَا يُقَالُ فِي الْغَصْبِ : غَصَبْت عَلَيَّ مَالِي . وَلِهَذَا قِيلَ : { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا } أَيْ كَمَا اعْتَدَوْا . ثُمَّ قَوْلُهُ : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِمَعْنَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِيَيْنِ بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ لَمَّا عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا وَهُوَ إخْبَارُ الْمُشْتَرِينَ أَنَّهُمْ اشْتَرَوْا " الْجَامَ " مِنْهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِمَا مَا رَأَيْنَاهُ فَحَلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ مِنْ الْمُدَّعِينَ الْأُولَيَانِ وَأَخَذَ " الْجَامَ " مِنْ الْمُشْتَرِي وَسَلَّمَ إلَى الْمُدَّعِي وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ إقْرَارِهِمَا بِأَنَّهُمَا بَاعًا الْجَامَ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى يَمِينِ الْمُدَعَّيَيْنِ لَوْ اعْتَرَفَا بِأَنَّهُ جَامُ الْمُوصِي وَأَنَّهُمَا غَصَبَاهُ وَبَاعَاهُ بَلْ بَقُوا عَلَى إنْكَارِ قَبْضِهِ مَعَ بَيْعِهِ أَوْ ادَّعَوْا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُمَا بِهِ وَهَذَا بَعِيدٌ . فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُتَّهَمَ بِخِيَانَةِ وَنَحْوِهَا - كَمَا اتَّهَمَ هَؤُلَاءِ - إذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَخِيَانَتُهُ كَانَ ذَلِكَ لَوْثًا يُوجِبُ رُجْحَانَ جَانِبِ الْمُدَّعِي ; فَيَحْلِفُ وَيَأْخُذُ كَمَا قُلْنَا فِي الدِّمَاءِ سَوَاءٌ وَالْحِكْمَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يُفْعَلُ عَلَانِيَةً بَلْ سِرًّا فَيَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا أُخِذَ بِقَوْلِ مَنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فَمَعَ عَدَمِ اللَّوْثِ جَانِبُ الْمُنْكَرِ رَاجِحٌ أَمَّا إذَا كَانَ قَتْلٌ وَلَوْثٌ قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ . وَكَذَلِكَ الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْعَادَةِ وَمَنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ فَقَدْ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ الْكَذِبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ أَمَّا إذَا ظَهَرَ لَوْثٌ بِأَنْ يُوجَدَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَهُ فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذُ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ ظَهَرَ بَعْضُ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ مَنْ اشْتَرَاهُ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَإِنَّ هَذَا اللَّوْثَ فِي تَغْلِيبِ الظَّنِّ أَقْوَى ; لَكِنْ فِي الدَّمِ قَدْ يَتَيَقَّنُ الْقَتْلُ وَيَشُكُّ فِي عَيْنِ الْقَاتِلِ فَالدَّعْوَى إنَّمَا هِيَ بِالتَّعْيِينِ . وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ : فَتَارَةً يَتَيَقَّنُ ذَهَابُ الْمَالِ وَقَدْرِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فِي مَكَانٍ مَعْرُوفٍ . وَتَارَةً يَتَيَقَّنُ ذَهَابَ مَالٍ لَا قَدْرُهُ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مَالٌ وَذَهَبَ . وَتَارَةً يَتَيَقَّنُ هَتْكَ الْحِرْزِ وَلَا يَدْرِي أَذَهَبَ بِشَيْءِ أَمْ لَا ؟ هَذَا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ وَأَمَّا فِي دَعْوَى الْخِيَانَةِ فَلَا تُعْلَمُ الْخِيَانَةُ فَإِذَا ظَهَرَ بَعْضُ الْمَالِ الْمُتَّهَمِ بِهِ عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ مِنْ قَبْضِهِ مِنْهُ ظَهَرَ اللَّوْثُ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ بَعِيدٌ . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ . وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } جَمَعَ فِيهِ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ فَكَمَا أَنَّ الدِّمَاءَ إذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي لَوْثٌ حَلَفَ فَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ كَمَا حَلَّفْنَاهُ مَعَ شَاهِدِهِ فَكُلُّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِهِ كَمَا جَعَلْنَا فِي الدِّمَاءِ الشَّهَادَةَ الْمُزَوَّرَةَ لِنَقْصِ نِصَابِهَا أَوْ صِفَاتِهَا لَوْثًا وَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ جَعَلَ الشَّاهِدَ مَعَ الْيَمِينِ فَالشَّاهِدُ الْمُزَوِّرُ مَعَ لَوْثٍ وَهُوَ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ فِي هَذَا حَالُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّ بَابَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا فَاسِقٌ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا عَدْلًا . وَكَذَلِكَ الْمُدَّعِي قَدْ يَكْذِبُ فَاعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْأَنْصَارِيِّ : كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ ؟ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُتَّهَمَ إذَا كَانَ فَاجِرًا فَلِلْمُدَّعِي أَنْ لَا يَرْضَى بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ مَنْ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَسْرِقَ يَسْتَحِلُّ أَنْ يَحْلِفَ .