تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْمَعْصِيَةِ " وَ " الْفُسُوقِ " وَ " الْكُفْرِ " : فَإِذَا أُطْلِقَتْ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ دَخَلَ فِيهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } . فَأَطْلَقَ مَعْصِيَتَهُمْ لِلرُّسُلِ بِأَنَّهُمْ عَصَوْا هُودًا مَعْصِيَةَ تَكْذِيبٍ لِجِنْسِ الرُّسُلِ فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ لِجِنْسِ الرُّسُلِ كَمَعْصِيَةِ مَنْ قَالَ : { فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } . وَمَعْصِيَةِ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ تَعَالَى : { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } أَيْ كَذَّبَ بِالْخَيْرِ وَتَوَلَّى عَنْ طَاعَةِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُصَدِّقُوا الرُّسُلَ فِيمَا أَخْبَرُوا وَيُطِيعُوهُمْ فِيمَا أَمَرُوا . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي فِرْعَوْنَ : { فَكَذَّبَ وَعَصَى } . وَقَالَ عَنْ جِنْسِ الْكَافِرِ : { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . فَالتَّكْذِيبُ لِلْخَبَرِ وَالتَّوَلِّي عَنْ الْأَمْرِ . وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ تَصْدِيقُ الرُّسُلِ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَلَفْظُ " التَّوَلِّي " بِمَعْنَى التَّوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وَذَمُّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ مَنْ تَوَلَّى ; دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّاعَةِ وَذَمَّ الْمُتَوَلِّي عَنْ الطَّاعَةِ ; كَمَا عَلَّقَ الذَّمَّ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ " التَّأْبِيدَ " لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ ; وَلِهَذَا قَالَ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } . وَقَالَ فِيمَنْ يَجُورُ فِي الْمَوَارِيثِ : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . فَهُنَا قَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِتَعَدِّي حُدُودِهِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا مُطْلَقَةً ; وَقَالَ : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } . فَهِيَ مَعْصِيَةٌ خَاصَّةٌ ; وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } فَأَخْبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ مَعْصِيَةُ الرُّمَاةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِلُزُومِ ثَغْرِهِمْ وَإِنْ رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ قَدْ انْتَصَرُوا فَعَصَى مَنْ عَصَى مِنْهُمْ هَذَا الْأَمْرَ وَجَعَلَ أَمِيرُهُمْ يَأْمُرُهُمْ لَمَّا رَأَوْا الْكُفَّارَ مُنْهَزِمِينَ وَأَقْبَلَ مَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَى الْمَغَانِمِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } . جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ . وَقَدْ قَالَ : { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } . فَقَيَّدَ الْمَعْصِيَةَ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنِّيَاحَةِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا . وَكَذَلِكَ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ لَا يَدْعُنَّ وَيْلًا وَلَا يَخْدِشْنَ وَجْهًا وَلَا يَنْشُرْنَ شَعْرًا وَلَا يَشْقُقْنَ ثَوْبًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ جَمِيعُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَدِلَّتِهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَلَفْظُ الْآيَةِ عَامٌّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْصِينَهُ فِي مَعْرُوفٍ . وَمَعْصِيَتُهُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَعْرُوفٍ ; فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِمُنْكَرِ لَكِنْ هَذَا كَمَا قِيلَ : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ إنَّمَا تَلْزَمُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } وَهُوَ لَا يَدْعُو إلَّا إلَى ذَلِكَ . وَالتَّقْيِيدُ هُنَا لَا مَفْهُومَ لَهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ دُعَاءٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا أَمْرٌ بِغَيْرِ مَعْرُوفٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } . فَإِنَّهُنَّ إذَا لَمْ يُرِدْنَ تَحَصُّنًا ; امْتَنَعَ الْإِكْرَاهُ . وَلَكِنْ فِي هَذَا بَيَانُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } . وَقَوْلُهُ : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } . فَالتَّقْيِيدُ فِي جَمِيعِ هَذَا لِلْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ لَا لِإِخْرَاجِ فِي وَصْفٍ آخَرَ ; وَلِهَذَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ النُّحَاةِ : الصِّفَاتُ فِي الْمَعَارِفِ لِلتَّوْضِيحِ لَا لِلتَّخْصِيصِ وَفِي النَّكِرَاتِ لِلتَّخْصِيصِ يَعْنِي فِي الْمَعَارِفِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصٍ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } . وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } . وَقَوْلِهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } . وَالصِّفَاتُ فِي النَّكِرَاتِ إذَا تَمَيَّزَتْ تَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ أَيْضًا وَمَعَ هَذَا فَقَدْ عَطَفَ الْمَعْصِيَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ فِي قَوْلِهِ : { وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاسِقَ عَاصٍ أَيْضًا .