تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا تَقُولُونَ فِي " الْمَنْطِقِ " وَهَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ .
123456789
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ : أَمَّا الْمَنْطِقُ : فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَإِنْ مَنْ لَيْسَ لَهُ بِهِ خِبْرَةٌ فَلَيْسَ لَهُ ثِقَةٌ بِشَيْءِ مِنْ عُلُومِهِ فَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةِ التَّعْدَادِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أُمُورٍ فَاسِدَةٍ وَدَعَاوَى بَاطِلَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِاسْتِقْصَائِهَا . بَلْ الْوَاقِعُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا : أَنَّك لَا تَجِدُ مَنْ يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي عُلُومِهِ بِهِ وَيُنَاظِرَ بِهِ إلَّا وَهُوَ فَاسِدُ النَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ كَثِيرُ الْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ عِلْمِهِ وَبَيَانِهِ . فَأَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ فِي هَذَا : أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ هُوَ وَأَمْثَالُهُ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلَالَةِ وَقَدْ فَقَدُوا أَسْبَابَ الْهُدَى كُلَّهَا فَلَمْ يَجِدُوا مَا يَرُدُّهُمْ عَنْ تِلْكَ الْجَهَالَاتِ إلَّا بَعْضُ مَا فِي الْمَنْطِقِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ بَعْضِ ذَلِكَ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ بَعْضِ بَاطِلِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ حَقٌّ يَنْفَعُهُمْ وَإِنْ وَقَعُوا فِي بَاطِلٍ آخَرَ . وَمَعَ هَذَا فَلَا يَصِحُّ نِسْبَةُ وُجُوبِهِ إلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . إذْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ فَإِنَّمَا أَتَى مِنْ نَفْسِهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ حَتَّى احْتَاجَ إلَى الْبَاطِلِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِهِ قَوْلُ غُلَاتِهِ وَجُهَّالِ أَصْحَابِهِ . وَنَفْسُ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ قَوَانِينَهُ فِي كُلِّ عُلُومِهِمْ بَلْ يُعْرِضُونَ عَنْهَا . إمَّا لِطُولِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا وَإِمَّا لِفَسَادِهَا وَإِمَّا لِعَدَمِ تَمَيُّزِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ . فَإِنَّ فِيهِ مَوَاضِعَ كَثِيرَةً هِيَ لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعِرٍ لَا سَهْلٍ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ . وَلِهَذَا مَا زَالَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ يَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِهِ حَتَّى رَأَيْت لِلْمُتَأَخِّرِينَ فُتْيَا فِيهَا خُطُوطُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ زَمَانِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهَا كَلَامٌ عَظِيمٌ فِي تَحْرِيمِهِ وَعُقُوبَةِ أَهْلِهِ حَتَّى إنَّ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي بَلَغَتْنَا : أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا عَمْرِو بْنَ الصَّلَاحِ أَمَرَ بِانْتِزَاعِ مَدْرَسَةٍ مَعْرُوفَةٍ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي وَقَالَ : أَخْذُهَا مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ أَخْذِ عَكَّا . مَعَ أَنَّ الْآمِدِيَّ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي وَقْتِهِ أَكْثَرَ تَبَحُّرًا فِي الْعُلُومِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْفَلْسَفِيَّةِ مِنْهُ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ إسْلَامًا وَأَمْثَلِهِمْ اعْتِقَادًا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأُمُورَ الدَّقِيقَةَ : سَوَاءٌ كَانَتْ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا إيمَانًا أَوْ كُفْرًا لَا تُعْلَمُ إلَّا بِذَكَاءِ وَفِطْنَةٍ فَكَذَلِكَ أَهْلُهُ قَدْ يستجهلون مَنْ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي عِلْمِهِمْ وَإِنْ كَانَ إيمَانُهُ أَحْسَنَ مِنْ إيمَانِهِمْ إذَا كَانَ فِيهِ قُصُورٌ فِي الذَّكَاءِ وَالْبَيَانِ وَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } { وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } { وَإِذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ } { وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } . فَإِذَا تَقَلَّدُوا عَنْ طَوَاغِيتِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ فَلَيْسَ بِعِلْمِ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لِكَثِيرِ مِنْهُمْ مَنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ مَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَيَكُونُ كَافِرًا زِنْدِيقًا مُنَافِقًا جَاهِلًا ضَالًّا مُضِلًّا ظَلُومًا كَفُورًا وَيَكُونُ مِنْ أَكَابِرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } . { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } وَرُبَّمَا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ إيمَانٌ إمَّا مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا . وَيَحْصُلُ لَهُ أَيْضًا مِنْهَا نِفَاقٌ فَيَكُونُ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَيَكُونُ فِي حَالٍ مُؤْمِنًا وَفِي حَالٍ مُنَافِقًا وَيَكُونُ مُرْتَدًّا : إمَّا عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَوْ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ : إمَّا رِدَّةَ نِفَاقٍ وَإِمَّا رِدَّةَ كُفْرٍ وَهَذَا كَثِيرٌ غَالِبٌ لَا سِيَّمَا فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ الَّتِي تَغْلِبُ فِيهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَالْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ . فَلِهَؤُلَاءِ مِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالضَّلَالِ مَا لَا يَتَّسِعُ لِذِكْرِهِ الْمَقَامُ . وَلِهَذَا لَمَّا تَفَطَّنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِمَا فِي هَذَا النَّفْيِ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ صَارُوا يَقُولُونَ : النُّفُوسُ الْقُدْسِيَّةُ - كَنُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ - تَفِيضُ عَلَيْهَا الْمَعَارِفُ بِدُونِ الطَّرِيقِ الْقِيَاسِيَّةِ . وَهُمْ مُتَّفِقُونَ جَمِيعُهُمْ عَلَى أَنَّ مِنْ النُّفُوسِ مَنْ تَسْتَغْنِي عَنْ وَزْنِ عُلُومِهَا بِالْمَوَازِينِ الصِّنَاعِيَّةِ فِي الْمَنْطِقِ لَكِنْ قَدْ يَقُولُونَ : هُوَ حَكِيمٌ بِالطَّبْعِ . وَالْقِيَاسُ يَنْعَقِدُ فِي نَفْسِهِ بِدُونِ تَعَلُّمِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ كَمَا يَنْطِقُ الْعَرَبِيُّ بِالْعَرَبِيَّةِ بِدُونِ النَّحْوِ ; وَكَمَا يَقْرِضُ الشَّاعِرُ الشِّعْرَ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الْعَرُوضِ . لَكِنَّ اسْتِغْنَاءَ بَعْضِ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَازِينِ لَا يُوجِبُ اسْتِغْنَاءَ الْآخَرِينَ . فَاسْتِغْنَاءُ كَثِيرٍ مِنْ النُّفُوسِ عَنْ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ . وَالْكَلَامُ هُنَا : هَلْ تَسْتَغْنِي النُّفُوسُ فِي عُلُومِهَا بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ نَفْسِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ وَمَوَادِّهِ الْمُعَيَّنَةِ . فَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ جِنْسِ هَذَا الْقِيَاسِ شَيْءٌ وَعَنْ الصِّنَاعَةِ الْقَانُونِيَّةِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا الْقِيَاسُ شَيْءٌ آخَرُ . فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ " أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَمْنَعُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ " وَفَسَادُ هَذَا مَبْسُوطٌ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا .