تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تيمية - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ مَا تَقُولُونَ فِي " الْمَنْطِقِ " وَهَلْ مَنْ قَالَ إنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ .
123456789
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْمَنْطِقِ : إنَّ الْقِيَاسَ الْخَطَابِيَّ هُوَ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ كَمَا أَنَّ الْبُرْهَانِيَّ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ : فَلَمْ يَعْرِفْ مَقْصُودَ الْقَوْمِ ; وَلَا قَالَ حَقًّا . فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَطَابِيِّ وَالْجَدَلِيِّ قَدْ يُفِيدُ الظَّنَّ كَمَا أَنَّ الْبُرْهَانِيَّ قَدْ تَكُونُ مُقَدِّمَاتُهُ مَشْهُورَةً وَمُسَلَّمَةً . فَالتَّقْسِيمُ لِمَوَادِّ الْقِيَاسِ وَقَعَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَاتِ الَّتِي يُقْبَلُ مِنْهَا ; فَتَارَةً يُقْبَلُ الْقَوْلُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ ; إذْ الْعِلْمُ يُوجِبُ الْقَبُولَ . وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَلَا يُوجِبُ قَبُولَهُ إلَّا لِسَبَبِ . فَإِنْ كَانَ لِشُهْرَتِهِ : فَهُوَ خَطَابِيٌّ وَلَوْ لَمْ يُفِدْ عِلْمًا وَلَا ظَنًّا . وَهُوَ أَيْضًا خَطَابِيٌّ إذَا كَانَتْ قَضِيَّتُهُ مَشْهُورَةً وَإِنْ أَفَادَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا . وَالْقَوْلُ فِي الْجَدَلِيِّ كَذَلِكَ . ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يُمَثِّلُونَ الْمَشْهُورَاتِ الْمَقْبُولَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ عِلْمِيَّةً بِقَوْلِنَا " الْعِلْمُ حَسَنٌ وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ وَالْعَدْلُ حَسَنٌ وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا مَنْ يَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّا إذَا رَجَعْنَا إلَى مَحْضِ الْعَقْلِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ حُكْمًا بِذَلِكَ . وَقَدْ يُمَثِّلُونَهَا بِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لِلْمَوْجُودِ الْآخَرِ أَوْ محايثا لَهُ أَوْ أَنَّ الْمَوْجُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِجِهَةِ مِنْ الْجِهَاتِ . أَوْ يَكُونَ جَائِزَ الرُّؤْيَةِ وَيَزْعُمُونَ : أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْوَهْمِ لَا الْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْعَقْلَ يُسَلِّمُ مُقَدِّمَاتٍ يُعْلَمُ بِهَا فَسَادُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ . وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ . فَأَمَّا تِلْكَ الْقَضَايَا الَّتِي سَمَّوْهَا مَشْهُورَاتٍ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ فَهِيَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الْبَدِيهِيَّةِ الَّتِي جَزْمُ الْعُقُولِ بِهَا أَعْظَمُ مَنْ جَزْمِهَا بِكَثِيرِ مِنْ الْعُلُومِ الْحِسَابِيَّةِ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَهِيَ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بَلْ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ : أَنَّهَا قَضَايَا بَدِيهِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ ; لَكِنْ قَدْ لَا يُحْسِنُونَ تَفْسِيرَ ذَلِكَ . فَإِنَّ حُسْنَ ذَلِكَ وَقُبْحَهُ هُوَ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا وَحُسْنُ الْفِعْلِ هُوَ كَوْنُهُ مُقْتَضِيًا لِمَا يَطْلُبُهُ الْحَيُّ لِذَاتِهِ وَيُرِيدُهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَقُبْحُهُ بِالْعَكْسِ . وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ هِيَ كَذَلِكَ مُحَصِّلَةٌ لِمَا يُطْلَبُ لِذَاتِهِ وَيُرَادُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ فَحُسْنُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ هُوَ لِكَوْنِهِ مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ الْمُرَادِ بِذَاتِهِ أَوْ مُنَافِيًا لِذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ الْحَقُّ يُطْلَقُ تَارَةً بِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيُقَالُ : هَذَا حَقٌّ أَيْ ثَابِتٌ وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْ مُنْتَفٍ ; وَفِي الْأَفْعَالِ : بِمَعْنَى التَّحْصِيلِ لِلْمَقْصُودِ فَيُقَالُ : هَذَا الْفِعْلُ حَقٌّ ; أَيْ نَافِعٌ ; أَوْ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ وَيُقَالُ : بَاطِلٌ أَيْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَمَّا زَعْمُهُمْ : أَنَّ الْبَدِيهَةَ وَالْفِطْرَةَ قَدْ تَحْكُمُ بِمَا يَتَبَيَّنُ لَهَا بِالْقِيَاسِ فَسَادُهُ : فَهَذَا غَلَطٌ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ بَدِيهِيَّةٍ فِطْرِيَّةٍ فَإِنْ جُوِّزَ أَنْ تَكُونَ الْمُقَدِّمَاتُ الْفِطْرِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ غَلَطًا مِنْ غَيْرِ تَبْيِينِ غَلَطِهَا إلَّا بِالْقِيَاسِ لَكَانَ قَدْ تَعَارَضَتْ الْمُقَدِّمَاتُ الْفِطْرِيَّةُ بِنَفْسِهَا وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ فِطْرِيَّةٌ . فَلَيْسَ رَدُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْفِطْرِيَّةِ لِأَجْلِ تِلْكَ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ بَلْ الْغَلَطُ فِيمَا تَقِلُّ مُقَدِّمَاتُهُ أَوْلَى فَمَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ وَبِمُقَدِّمَاتٍ فِطْرِيَّةٍ أَقْرَبُ إلَى الْغَلَطِ مِمَّا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْفِطْرَةِ . وَهَذَا يَذْكُرُونَهُ فِي نَفْيِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مُتَقَدِّمِيهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا الْمُقَدِّمَاتِ الْمُتَلَقَّاةِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ رَتَّبُوهُ عَلَى ذَلِكَ : إمَّا بِطْرِيقِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ لَبَّسُوا الْحَنِيفِيَّةَ بِالصَّابِئَةِ : كَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِمَا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ وَقَرَّرُوا إثْبَاتَ الْعِلْمِ بِمُوجَبِ النُّبُوآتِ بِهِ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّهُ جَعَلَ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلُومِ الْحَدْسِيَّةِ لِقُوَّةِ صَفَاءِ تِلْكَ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ وَطَهَارَتِهَا وَأَنَّ قُوَى النُّفُوسِ فِي الْحَدْسِ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ . وَلَا بُدَّ لِلْعَالَمِ مِنْ نِظَامٍ يَنْصِبُهُ حَكِيمٌ فَيُعْطِي النُّفُوسَ الْمُؤَيِّدَةَ مِنْ الْقُوَّةِ مَا تَعْلَمُ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا بِطَرِيقِ الْحَدْسِ وَيَتَمَثَّلُ لَهَا مَا تَسْمَعُهُ وَتَرَاهُ فِي نَفْسِهَا مِنْ الْكَلَامِ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهَا وَيَكُونُ لَهَا مِنْ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تُطِيعُهَا بِهَا هَيُولَى الْعَالَمِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا فَهَذِهِ الْخَوَارِقُ فِي قُوَى الْعِلْمِ مَعَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَقُوَّةِ الْعَمَلِ وَالْقُدْرَةِ : هِيَ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدْسَ رَاجِعٌ إلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا مَا يَسْمَعُ وَيَرَى فِي نَفْسِهِ فَهُوَ مَنْ جِنْسِ الرُّؤْيَا وَهَذَا الْقَدْرُ يَحْصُلُ مِثْلُهُ لِكَثِيرِ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ وَكُفَّارِهِمْ فَضْلًا عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ . فَكَيْفَ يُجْعَلُ ذَلِكَ هُوَ غَايَةَ النُّبُوَّةِ ؟ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَكْمَلَ وَأَشْرَفَ فَهُوَ كَمَلِكِ أَقْوَى مِنْ مَلِكٍ . وَلِهَذَا صَارُوا يَقُولُونَ : النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ وَلَمْ يُثْبِتُوا نُزُولَ مَلَائِكَةٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إلَى مَنْ يَخْتَارُهُ وَيَصْطَفِيهِ مِنْ عِبَادِهِ . وَلَا قَصْدَ إلَى تَكْلِيمِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ مِنْ رُسُلِهِ ; كَمَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ قُدَمَائِهِمْ أَنَّهُ قَالَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ : أَنَا أُصَدِّقُك فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي أَنَّ عِلَّةَ الْعِلَلِ كَلَّمَك مَا أَقْدِرُ أَنْ أُصَدِّقَك فِي هَذَا . وَلِهَذَا صَارَ مَنْ ضَلَّ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يَدَّعِي مُسَاوَاةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أَوْ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِمْ ; وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّوْعِ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَظْلَمِهِمْ وَأَكْفَرِهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ نِفَاقًا . وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ الْمَنْطِقِيُّونَ فَيَقُولُونَ : يُعْلَمُ بِهَذَا الْقِيَاسِ ثُبُوتُ الصَّانِعِ وَقُدْرَتُهُ وَجَوَازُ إرْسَالِ الرُّسُلِ ; وَتَأْيِيدُ اللَّهِ لَهُمْ بِمَا يُوجِبُ تَصْدِيقَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ أَقْرَبُ إلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ; وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنْ الْبَاطِلِ : تَارَةً مِنْ جِهَةِ مَا تَقَلَّدُوهُ عَنْ الْمَنْطِقِيِّينَ ; وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ مَا ابْتَدَعُوهُ هُمْ مِمَّا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَمَنْطِقِيَّةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ ; لَكِنَّ الْهُدَى وَالْعِلْمَ وَالْبَيَانَ فِي فَلَاسِفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُتَكَلِّمِيهِمْ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ ; لِمَا فِي تينك الْمِلَّتَيْنِ مِنْ الْفَسَادِ . وَلَكِنَّ الْغَرَضَ تَقْرِيرُ جِنْسِ النُّبُوَّاتِ . فَإِنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا لَكِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِبَعْضِ الرُّسُلِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِ . وَالصَّابِئَةَ الْفَلَاسِفَةَ وَنَحْوَهُمْ آمَنُوا بِبَعْضِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ دُونَ بَعْضٍ . فَإِذَا اتَّفَقَ مُتَفَلْسِفٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ جَمَعَ الكفرين : الْكُفْرَ بِخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ . وَالْكُفْرَ بِحَقَائِقِ صِفَاتِ الرِّسَالَةِ فِي جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ فَهَذَا هَذَا . فَيُقَالُ لَهُمْ - مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفَاوُتِ قُوَى بَنِي آدَمَ فِي الْإِدْرَاكِ - : مَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يُخْرَقَ سَمْعُ أَحَدِهِمْ وَبَصَرُهُ حَتَّى يَسْمَعَ وَيَرَى مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ مَا لَا يَرَاهُ غَيْرُهُ ؟ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلَّا وَمَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ قَاعِدٌ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ } " فَهَذَا إحْسَاسٌ بِالظَّاهِرِ أَوْ بِالْبَاطِنِ لِمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ . وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ الْكُلِّيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي بَنِي آدَمَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ بَعْضَ النُّفُوسِ يَكُونُ لَهَا مِنْ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا وَحْدَهَا أَوْ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا مَا لَا يَكُونُ مِنْ الْبَدِيهِيَّاتِ عِنْدَكُمْ ؟ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْكِنًا - وَعَامَّةُ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ - دَعْ الْأَنْبِيَاءَ - فَمِثْلَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَيْسَ فِي مَنْطِقِكُمْ طَرِيقٌ إلَيْهَا إذْ لَيْسَتْ مِنْ الْمَشْهُورَاتِ وَلَا الْجَدَلِيَّاتِ وَلَا مَوَادُّهَا عِنْدَكُمْ يَقِينِيَّةٌ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ نَفْيَهَا وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين عَلَى إثْبَاتِهَا . فَإِنْ كَذَّبْتُمْ بِهَا كُنْتُمْ - مَعَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ وَخَسَارَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - تَارِكِينَ لِمَنْطِقِكُمْ أَيْضًا وَخَارِجِينَ عَمَّا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ : أَنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ إلَّا بِمُوجَبِ الْقِيَاسِ إذْ لَيْسَ لَكُمْ بِهَذَا النَّفْيِ قِيَاسٌ وَلَا حُجَّةَ تُذْكَرُ . وَلِهَذَا لَمْ تَذْكُرُوا عَلَيْهِ حُجَّةً وَإِنَّمَا انْدَرَجَ هَذَا النَّفْيُ فِي كَلَامِكُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ . وَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ هِيَ حَقٌّ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ مِنْ الْحَقِّ مَا لَا يُوزَنُ بِمِيزَانِ مَنْطِقِكُمْ . وَإِنْ قُلْتُمْ : لَا نَدْرِي أَحَقٌّ هِيَ أَمْ بَاطِلٌ ؟ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ أَعْظَمَ الْمَطَالِبِ وَأَجَلَّهَا لَا يُوزَنُ بِمِيزَانِ الْمَنْطِقِ . فَإِنْ صَدَّقْتُمْ لَمْ يُوَافِقْكُمْ الْمَنْطِقُ . وَإِنْ كَذَّبْتُمْ لَمْ يُوَافِقْكُمْ الْمَنْطِقُ . وَإِنْ ارْتَبْتُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ الْمَنْطِقُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ مَوَازِينَ الْأَمْوَالِ لَا يُقْصَدُ أَنْ يُوزَنَ بِهَا الْحَطَبُ وَالرَّصَاصُ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَأَمْرُ النُّبُوَّاتِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ أَعْظَمُ فِي الْعُلُومِ مِنْ الذَّهَبِ فِي الْأَمْوَالِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْطِقِكُمْ مِيزَانٌ لَهُ كَانَ الْمِيزَانُ - مَعَ أَنَّهُ مِيزَانٌ - عَائِلًا جَائِرًا وَهُوَ أَيْضًا عَاجِزٌ . فَهُوَ مِيزَانٌ جَاهِلٌ ظَالِمٌ إذْ هُوَ إمَّا أَنْ يَرُدَّ الْحَقَّ وَيَدْفَعَهُ فَيَكُونُ ظَالِمًا أَوْ لَا يَزِنُهُ وَلَا يُبَيِّنُ أَمْرَهُ فَيَكُونُ جَاهِلًا أَوْ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَيَرُدُّ الْحَقَّ وَيَدْفَعُهُ - وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَيْسَ لِلنُّفُوسِ عَنْهُ عِوَضٌ وَلَا لَهَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ وَلَيْسَتْ سَعَادَتُهَا إلَّا فِيهِ وَلَا هَلَاكُهَا إلَّا بِتَرْكِهِ - فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ - مَعَ هَذَا - أَنْ تَقُولُوا : إنَّهُ وَمَا وَزَنْتُمُوهُ بِهِ مِنْ الْمَتَاعِ الْخَسِيسِ الَّذِي أَنْتُمْ فِي وَزْنِكُمْ إيَّاهُ بِهِ ظَالِمُونَ عَائِلُونَ لَمْ تَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَمْ تَسْتَدِلُّوا بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ : هُوَ [ مِعْيَارُ ] الْعُلُومِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْحِكْمَةُ الْيَقِينِيَّةُ الَّتِي فَازَ بِالسَّعَادَةِ عَالِمُهَا وَخَابَ بِالشَّقَاوَةِ جَاهِلُهَا وَرَأْسُ مَالِ السَّادَةِ وَغَايَةُ الْعَالِمِ الْمُنْصِفِ مِنْكُمْ : أَنْ يَعْتَرِفَ بِعَجْزِ مِيزَانِكُمْ عَنْهُ . وَأَمَّا عَوَامُّ عُلَمَائِكُمْ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ وَيَرُدُّونَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْطِقُكُمْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ فَلَسْتُمْ بِتَحْرِيفِ أَمْرِ مَنْطِقِكُمْ أَحْسَنَ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَحْرِيفِ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ حَقٌّ هَادٍ ; لَا رَيْبَ فِيهِ . فَهَذَا هَذَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .