تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَصْلٌ وَ ( أَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا جِنْسَ الدَّلِيلِ إلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ قَالُوا : لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ ; أَوْ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ ; أَوْ بِأَحَدِ الْجُزْئِيَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَرُبَّمَا عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ . فَقَالُوا : إمَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ أَوْ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ أَوْ بِأَحَدِ الْخَاصَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ . قَالُوا : وَالْأَوَّلُ هُوَ " الْقِيَاسُ " يَعْنُونَ بِهِ قِيَاسَ الشُّمُولِ فَإِنَّهُمْ يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْقِيَاسِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ يَخُصُّونَ بِاسْمِ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلَ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَاسْمُ الْقِيَاسِ عِنْدَهُمْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا . قَالُوا : وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْجُزْئِيَّاتِ عَلَى الْكُلِّيِّ هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنْ كَانَ تَامًّا فَهُوَ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ وَهُوَ يُفِيدُ الْيَقِينَ ; وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَمْ يُفِدْ الْيَقِينَ . ( فَالْأَوَّلُ هُوَ اسْتِقْرَاءُ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا وُجِدَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ . و ( الثَّانِي اسْتِقْرَاءُ أَكْثَرِهَا وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ : الْحَيَوَانُ إذَا أَكَلَ حَرَّكَ فَكَّهُ الْأَسْفَلَ لِأَنَّا اسْتَقْرَيْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا هَكَذَا فَيُقَالُ لَهُ التِّمْسَاحُ يُحَرِّكُ الْأَعْلَى . ثُمَّ قَالُوا : إنَّ الْقِيَاسَ يَنْقَسِمُ إلَى " اقْتِرَانِيٍّ وَاسْتِثْنَائِيٍّ " فالاستثنائي مَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ أَوْ نَقِيضُهَا مَذْكُورَةً فِيهِ بِالْفِعْلِ . وَالِاقْتِرَانِيُّ مَا تَكُونُ فِيهِ بِالْقُوَّةِ : كَالْمُؤَلَّفِ مِنْ الْقَضَايَا الْحَمْلِيَّةِ . كَقَوْلِنَا كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . والاستثنائي مَا يُؤَلَّفُ مِنْ الشَّرْطِيَّاتِ وَهُوَ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا مُتَّصِلَةٌ - كَقَوْلِنَا إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ - وَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يُنْتِجُ عَيْنَ التَّالِي وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ . وَ ( الثَّانِي الْمُنْفَصِلَةُ وَهِيَ : إمَّا مَانِعَةُ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ كَقَوْلِنَا الْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ وَإِمَّا فَرْدٌ ; فَإِنَّ هَذَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ ; وَلَا يَخْلُو الْعَدَدُ عَنْ أَحَدِهِمَا وَإِمَّا مَانِعَةُ الْجَمْعِ فَقَطْ : كَقَوْلِنَا هَذَا إمَّا أَسْوَدُ وَإِمَّا أَبْيَضُ أَيْ : لَا يَجْتَمِعُ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ . وَقَدْ يَخْلُو الْمَحَلُّ عَنْهُمَا وَأَمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوِّ فَهِيَ الَّتِي يَمْتَنِعُ فِيهَا عَدَمُ الْجُزْأَيْنِ جَمِيعًا وَلَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا وَقَدْ يَقُولُونَ مَانِعَةُ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ هِيَ الشَّرْطِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ ; وَهِيَ مُطَابِقَةٌ لِلنَّقِيضَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ ; هِيَ أَخَصُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ ; فَإِنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ يَرْتَفِعَانِ وَهُمَا أَخَصُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ . وَأَمَّا مَانِعَةُ الْخُلُوِّ فَإِنَّهَا أَعَمُّ مِنْ النَّقِيضَيْنِ وَقَدْ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ تَمْثِيلُ ذَلِكَ ; بِخِلَافِ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ; فَإِنَّ أَمْثَالَهُمَا كَثِيرَةٌ . وَيُمَثِّلُونَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ : هَذَا رَكِبَ الْبَحْرَ أَوْ لَا يَغْرَقُ فِيهِ أَيْ لَا يَخْلُو مِنْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَغْرَقُ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْبَحْرِ فَإِمَّا أَنْ لَا يَغْرَقَ فِيهِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ رَاكِبَهُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاكِبَهُ وَقَدْ يَجْتَمِعُ أَنْ يَرْكَبَ وَيَغْرَقَ . وَالْأَمْثَالُ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِنَا هَذَا حَيٌّ أَوْ لَيْسَ بِعَالِمِ أَوْ قَادِرٍ أَوْ سَمِيعٍ أَوْ بَصِيرٍ أَوْ مُتَكَلِّمٍ فَإِنَّهُ إنْ وُجِدَتْ الْحَيَاةُ فَهُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ وَإِنْ عُدِمَتْ عُدِمَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ . وَقَدْ يَكُونُ حَيًّا مَنْ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ هَذَا مُتَطَهِّرٌ أَوْ لَيْسَ بِمُصَلٍّ فَإِنَّهُ إنْ عُدِمَتْ الصَّلَاةُ عُدِمَتْ الطَّهَارَةُ وَإِنْ وُجِدَتْ الطَّهَارَةُ فَهُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْهُمَا . وَكَذَلِكَ كُلُّ عَدَمِ شَرْطٍ وَوُجُودِ مَشْرُوطِهِ فَإِنَّهُ إذَا رُدِّدَ الْأَمْرُ بَيْنَ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْخُلُوِّ ; فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو الْأَمْرُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ وَإِذَا عُدِمَ عُدِمَ الشَّرْطُ فَصَارَ الْأَمْرُ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَعَدَمِ الشَّرْطِ . ثُمَّ قَسَّمُوا الِاقْتِرَانِيَّ إلَى الْأَشْكَالِ الْأَرْبَعَةِ - لِكَوْنِ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ إمَّا مَحْمُولًا فِي الْكُبْرَى مَوْضُوعًا فِي الصُّغْرَى - وَهُوَ الشَّكْلُ الطَّبِيعِيُّ وَهُوَ يُنْتِجُ الْمَطَالِبَ الْأَرْبَعَةَ الْجُزْئِيَّ وَالْكُلِّيَّ وَالْإِيجَابِيَّ وَالسَّلْبِيَّ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوْسَطُ مَحْمُولًا فِيهِمَا وَهُوَ الثَّانِي وَلَا يُنْتِجُ إلَّا السَّلْبَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا فِيهِمَا وَلَا يُنْتِجُ إلَّا الْجُزْئِيَّاتِ وَالرَّابِعُ يُنْتِجُ الْجُزْئِيَّاتِ وَالسَّلْبَ الْكُلِّيَّ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ الطَّبْعِ . ثُمَّ إذَا أَرَادُوا بَيَانَ الْإِنْتَاجِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ احْتَاجُوا إلَى [ الِاسْتِدْلَالِ ] بِالنَّقِيضِ وَالْعَكْسِ وَعَكْسِ النَّقِيضِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ الْقَضِيَّةِ كَذِبُ نَقْضِهَا وَصِدْقُ عَكْسِهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسُ نَقِيضِهَا فَإِذَا صَدَقَ قَوْلُنَا : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْحُجَّاجِ بِكَافِرِ صَحَّ قَوْلُنَا لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْكُفَّارِ بِحَاجِّ . فَنَقُولُ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَطْوِيلًا يُبْعِدُ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ . فَلَا يَخْلُو عَنْ خَطَأٍ يَصُدُّ عَنْ الْحَقِّ أَوْ طَرِيقٍ طَوِيلٍ يُتْعِبُ صَاحِبَهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْحَقِّ مَعَ إمْكَانِ وُصُولِهِ بِطَرِيقِ قَرِيبٍ كَمَا كَانَ يُمَثِّلُهُ بَعْضُ سَلَفِنَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ : أَيْنَ أُذُنُك فَرَفَعَ يَدَهُ رَفْعًا شَدِيدًا ثُمَّ أَدَارَهَا إلَى أُذُنِهِ الْيُسْرَى وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْإِشَارَةُ إلَى الْيُمْنَى أَوْ الْيُسْرَى مِنْ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ . وَمَا أَحْسَنَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } فَأَقْوَمُ الطَّرِيقِ إلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَمَّا طَرِيقُ هَؤُلَاءِ فَهِيَ مَعَ ضَلَالِهِمْ فِي الْبَعْضِ وَاعْوِجَاجِ طَرِيقِهِمْ وَطُولِهَا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ إنَّمَا تُوصِلُهُمْ إلَى أَمْرٍ لَا يُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَ لَهُمْ السَّعَادَةَ فَضْلًا عَنْ حُصُولِ الْكَمَالِ لِلْأَنْفُسِ الْبَشَرِيَّةِ بِطَرِيقِهِمْ . بَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَصْرِ الدَّلِيلِ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ حَصْرٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ; بَلْ هُوَ بَاطِلٌ . فَقَوْلُهُمْ أَيْضًا : إنَّ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ . وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْحَصْرِ بِقَوْلِهِمْ : إمَّا أَنْ يُسْتَدَلَّ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ أَوْ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ أَوْ بِأَحَدِ الْجُزْأَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقِيَاسُ وَالثَّانِي هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ وَالثَّالِثُ هُوَ التَّمْثِيلُ . فَيُقَالُ : لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى انْحِصَارِ الِاسْتِدْلَالِ فِي الثَّلَاثَةِ ; فَإِنَّكُمْ إذَا عَنَيْتُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ حَاصِرًا . وَقَدْ بَقِيَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْكُلِّيِّ الْمُلَازِمِ لَهُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَكَذَاكَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ الْمُلَازِمِ لَهُ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ وَمِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ . فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا سَمَّيْتُمُوهُ قِيَاسًا وَلَا اسْتِقْرَاءً وَلَا تَمْثِيلًا وَهَذِهِ هِيَ الْآيَاتُ . وَهَذَا كَالِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ وَبِالنَّهَارِ عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلَيْسَ هَذَا اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ بَلْ الِاسْتِدْلَالُ بِطُلُوعِ مُعَيَّنٍ عَلَى نَهَارٍ مُعَيَّنٍ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ وَبِجِنْسِ النَّهَارِ عَلَى جِنْسِ الطُّلُوعِ اسْتِدْلَالٌ بِكُلِّيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَكَذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ - بِالْكَوَاكِبِ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْجَدْيِ وَبَنَاتِ نَعْشٍ وَالْكَوْكَبِ الصَّغِيرِ الْقَرِيبِ مِنْ الْقُطْبِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ الْقُطْبَ وَكَذَلِكَ بِظُهُورِ كَوْكَبٍ عَلَى ظُهُورِ نَظِيرِهِ فِي الْعَرْضِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِطُلُوعِهِ عَلَى غُرُوبِ آخَرَ وَتَوَسُّطِ آخَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا النَّاسُ . قَالَ تَعَالَى : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } . وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَوَاقِيتِ وَالْأَمْكِنَةِ بِالْأَمْكِنَةِ أَمْرٌ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ وَالْفَلَاسِفَةُ فَإِذَا اُسْتُدِلَّ بِظُهُورِ الثُّرَيَّا عَلَى ظُهُورِ مَا قَرُبَ مِنْهَا مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا وَيَمِينًا وَشِمَالًا مِنْ الْكَوَاكِبِ كَانَ اسْتِدْلَالًا بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ لِتَلَازُمِهِمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . فَإِنْ قُضِيَ بِهِ قَضَاءً كُلِّيًّا كَانَ اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَلَيْسَ اسْتِدْلَالًا بِكُلِّيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ بَلْ بِأَحَدِ الْكُلِّيَّيْنِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَمَنْ عَرَفَ مِقْدَارَ أَبْعَادِ الْكَوَاكِبِ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ وَعَلِمَ مَا يُقَارِنُ مِنْهَا طُلُوعَ الْفَجْرِ اسْتَدَلَّ بِمَا رَآهُ مِنْهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ . وَمَنْ عَلِمَ الْجِبَالَ وَالْأَنْهَارَ وَالرِّيَاحَ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى مَا يُلَازِمُهَا مِنْ الْأَمْكِنَةِ . ثُمَّ اللُّزُومُ إنْ كَانَ دَائِمًا لَا يُعْرَفُ لَهُ ابْتِدَاءٌ . بَلْ هُوَ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ : كَوُجُودِ الْجِبَالِ وَالْأَنْهَارِ الْعَظِيمَةِ : النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وسيحان وجيحان وَالْبَحْرِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ مُطَّرِدًا . وَإِنْ كَانَ اللُّزُومُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةً مِثْلَ الْكَعْبَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْخَلِيلَ بَنَاهَا وَلَمْ تَزَلْ مُعَظَّمَةً لَمْ يَعْلُ عَلَيْهَا جَبَّارٌ قَطُّ اسْتَدَلَّ بِهَا بِحَسَبِ ذَلِكَ فَيَسْتَدِلُّ بِهَا وَعَلَيْهَا فَإِنَّ أَرْكَانَ الْكَعْبَةِ مُقَابِلَةٌ لِجِهَاتِ الْأَرْضِ الْأَرْبَعِ : الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يُقَابِلُ الْمُشْرِقَ وَالْغَرْبِيُّ - الَّذِي يُقَابِلُهُ وَيُقَالُ لَهُ : الشَّامِيُّ - يُقَابِلُ الْمَغْرِبَ وَالْيَمَانِيُّ يُقَابِلُ الْجَنُوبَ وَمَا يُقَابِلُهُ يُقَالُ لَهُ الْعِرَاقِيُّ - إذَا قِيلَ لِلَّذِي يَلِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَجَرِ الشَّامِيِّ وَإِنْ قِيلَ لِذَاكَ الشَّامِيُّ قِيلَ لِهَذَا الْعِرَاقِيُّ فَهَذَا الشَّامِيُّ الْعِرَاقِيُّ يُقَابِلُ الشَّمَالَ وَهُوَ يُقَابِلُ الْقُطْبَ وَحِينَئِذٍ فَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْجِهَاتِ وَيُسْتَدَلُّ بِالْجِهَاتِ عَلَيْهَا . وَمَا كَانَ مُدَّتُهُ أَقْصَرَ مِنْ مُدَّةِ الْكَعْبَةِ كَالْأَبْنِيَةِ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَشْجَارِ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا بِحَسَبِ ذَلِكَ . فَيُقَالُ عَلَامَةُ الدَّارِ الْفُلَانِيَّةِ أَنَّ عَلَى بَابِهَا شَجَرَةً مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَكِلَاهُمَا مُعَيَّنٌ جُزْئِيٌّ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَلِهَذَا عَدَلَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَرِيقِهِمْ فَقَالُوا : الدَّلِيلُ هُوَ الْمُرْشِدُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ ; وَهُوَ مَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ أَوْ مَا يَكُونُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ مُوَصِّلًا إلَى عِلْمٍ أَوْ إلَى اعْتِقَادٍ رَاجِحٍ . وَلَهُمْ نِزَاعٌ اصْطِلَاحِيٌّ هَلْ يُسَمَّى هَذَا الثَّانِي دَلِيلًا أَوْ يُخَصُّ بِاسْمِ الْأَمَارَةِ وَالْجُمْهُورُ يُسَمُّونَ الْجَمِيعَ دَلِيلًا . وَمِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مَنْ لَا يُسَمِّي بِالدَّلِيلِ إلَّا الْأَوَّلَ . ثُمَّ الضَّابِطُ فِي الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ فَكُلَّمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ التَّلَازُمُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِكُلِّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَسْتَدِلُّ الْمُسْتَدِلُّ بِمَا عَلِمَهُ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْهُ . ثُمَّ إنْ كَانَ اللُّزُومُ قَطْعِيًّا كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا - وَقَدْ يَتَخَلَّفُ - كَانَ الدَّلِيلُ ظَنِّيًّا . فَالْأَوَّلُ كَدَلَالَةِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى خَالِقِهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فَإِنَّ وُجُودَهَا مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ ذَلِكَ وَوُجُودَهَا بِدُونِ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَلَا تُوجَدُ إلَّا دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ وَمِثْلُ دَلَالَةِ خَبَرِ الرَّسُولِ عَلَى ثُبُوتِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ ; فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَقَّ إذْ كَانَ مَعْصُومًا فِي خَبَرِهِ عَنْ اللَّهِ لَا يَسْتَقِرُّ فِي خَبَرِهِ عَنْهُ خَطَأٌ أَلْبَتَّةَ . فَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَلْزِمٌ لِمَدْلُولِهِ لُزُومًا وَاجِبًا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ بِحَالِ . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَلْزُومُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا فَقَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَيُسْتَدَلُّ بِكُلِّ مِنْهُمَا عَلَى وُجُودٍ وَعَدَمٍ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ عَلَى انْتِفَاءِ نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ وَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ نَقِيضِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَيُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ وَبِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ . بَلْ كُلُّ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِمَدْلُولِهِ . وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ وَمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ . فَإِنَّ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ مَضْمُونُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ وَبِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْ هَذَا بِصِيغَةِ الشَّرْطِ أَوْ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ ; فَاخْتِلَافُ صِيَغِ الدَّلِيلِ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُ . لَا يُغَيِّرُ حَقِيقَتَهُ . وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةِ لَا فِي الْأَلْفَاظِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ وَإِنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ عَالِمًا قَادِرًا فَهُوَ حَيٌّ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : صِحَّةُ الصَّلَاةِ تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الطَّهَارَةِ وَقَوْلِهِ : يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ ثُبُوتُ الطَّهَارَةِ . وَقَوْلِهِ : لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إلَّا مَعَ الطَّهَارَةِ . وَقَوْلِهِ : الطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ عُدِمَ الْمَشْرُوطُ . وَقَوْلِهِ : كُلُّ مُصَلٍّ مُتَطَهِّرٌ فَمَنْ لَيْسَ بِمُتَطَهِّرِ فَلَيْسَ بِمُصَلٍّ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْلِيفِ لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَضَمَّنُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنْ حَصْرِ النَّاسِ فِي عِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ . وَإِذَا اتَّسَعَتْ الْعُقُولُ وَتَصَوُّرَاتُهَا . اتَّسَعَتْ عِبَارَاتُهَا . وَإِذَا ضَاقَتْ الْعُقُولُ وَالْعِبَارَاتُ وَالتَّصَوُّرَاتُ بَقِيَ صَاحِبُهَا كَأَنَّهُ مَحْبُوسُ الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ كَمَا يُصِيبُ أَهْلَ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ : تَجِدُهُمْ مِنْ أَضْيَقِ النَّاسِ عِلْمًا وَبَيَانًا وَأَعْجَزِهِمْ تَصَوُّرًا وَتَعْبِيرًا . وَلِهَذَا مَنْ كَانَ ذَكِيًّا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْعُلُومِ وَسَلَكَ مَسْلَكَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ : طَوَّلَ وَضَيَّقَ وَتَكَلَّفَ وَتَعَسَّفَ وَغَايَتُهُ بَيَانُ الْبَيِّنِ وَإِيضَاحُ الْوَاضِحِ مِنْ الْعِيِّ وَقَدْ يُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ السَّفْسَطَةِ الَّتِي عَافَى اللَّهُ مِنْهَا مَنْ لَمْ يَسْلُكْ طَرِيقَهُمْ . وَكَذَلِكَ تَكَلُّفَاتُهُمْ فِي حُدُودِهِمْ : مِثْلَ حَدِّهِمْ لِلْإِنْسَانِ وَلِلشَّمْسِ بِأَنَّهَا كَوْكَبٌ يَطْلُعُ نَهَارًا وَهَلْ مَنْ يَجِدُ الشَّمْسَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِّ وَنَحْوَهُ إلَّا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ . وَهَلْ عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ أَظْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّمْسَ فَإِمَّا أَنْ يَجْهَلَ اللَّفْظَ فَيُتَرْجِمَ لَهُ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ رَآهَا لِعَمَاهُ فَهَذَا لَا يَرَى النَّهَارَ وَلَا الْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ النَّاسِ مَا يُعَرِّفُ ذَلِكَ بِدُونِ طَرِيقِهِمْ . وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ مِنْ الْحَمْلِيَّاتِ يُغْنِي عَنْ جَمِيعِ صُوَرِ الْقِيَاسِ . وَتَصْوِيرُهُ فِطْرِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمِهِ مِنْهُمْ مَعَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَصَوُّرِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ .