تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)

التحليل الموضوعي

متن:
وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الْعِبَادَةِ " مُتَضَمِّنٌ لِلْمَحَبَّةِ مَعَ الذُّلِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِهَذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْقَلْبِ لِلْبَشَرِ عَلَى طَبَقَاتٍ . أَحَدُهَا : " الْعَلَاقَةُ " وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ . ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " وَهُوَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إلَيْهِ . ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ . ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُ الْمَرَاتِبِ هُوَ " التتيم " وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلْمَحْبُوبِ وَالْمُتَيَّمُ الْمَعْبُودُ وَتَيْمُ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَبْقَى ذَاكِرًا مُعَبَّدًا مُذَلَّلًا لِمَحْبُوبِهِ . وَ ( أَيْضًا فَاسْمُ الْإِنَابَةِ إلَيْهِ يَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ أَيْضًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَ ( أَيْضًا فَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ حَقًّا مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ مَجَازًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ ; فَالْمَجَازُ لَا يُطْلَقُ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ . وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَحْبُوبًا وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَحْبُوبُ إلَّا الْأَعْمَالَ لَا فِي الدَّلَالَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَا الْمُنْفَصِلَةِ بَلْ وَلَا فِي الْعَقْلِ أَيْضًا وَ ( أَيْضًا فَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ وَلَا يُحَبُّ كَمَا أَطْلَقَ إمَامُهُمْ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلِمَ دَلَالَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مَجَازًا بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ . وَ ( أَيْضًا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ الْعَمَلِ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَحَبَّتِهِ لَيْسَ إلَّا مَحَبَّةَ الْعَمَلِ لَكَانَ هَذَا تَكْرِيرًا أَوْ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةِ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ . وَكَمَا أَنَّ مَحَبَّتَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ رَسُولِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهَا بِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ الْعَمَلِ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ رَسُولِهِ وَمَحَبَّةَ الْعَمَلِ لَهُ . وَ ( أَيْضًا فَالتَّعْبِيرُ بِمَحَبَّةِ الشَّيْءِ عَنْ مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ طَاعَتِهِ لَا عَنْ مَحَبَّةِ نَفْسِهِ أَمْرٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ; فَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ تَحْرِيفٌ مَحْضٌ أَيْضًا . وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مَحْبُوبًا مُرَادًا لِذَاتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ اللَّهِ مَوْجُودًا بِذَاتِهِ بَلْ لَا رَبَّ إلَّا اللَّهُ وَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ وَيُعَظَّمَ لِذَاتِهِ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ . وَكُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَحْبُوبَاتِهَا وَمُرَادَاتِهَا مَا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَتَنْتَهِي إلَيْهِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَنَّ كُلَّ مَا أَحَبَّهُ الْمَحْبُوبُ مِنْ مَطْعُومٍ وَمَلْبُوسٍ وَمَنْظُورٍ وَمَسْمُوعٍ وَمَلْمُوسٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ قَلْبَهُ يَطْلُبُ شَيْئًا سِوَاهُ وَيُحِبُّ أَمْرًا غَيْرَهُ يتألهه وَيَصْمُدُ إلَيْهِ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ وَيَرَى مَا يُشْبِهُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } } . وَ ( أَيْضًا فَكُلُّ مَا فُطِرَتْ الْقُلُوبُ عَلَى مَحَبَّتِهِ مِنْ نُعُوتِ الْكَمَالِ فَاَللَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ وَكُلُّ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ مَحْبُوبٍ فَهُوَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُحَبَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكَمَالِ . وَإِنْكَارُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إنْكَارٌ لِكَوْنِهِ إلَهًا مَعْبُودًا كَمَا أَنَّ إنْكَارَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ يَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ مَشِيئَتِهِ وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ إنْكَارَ كَوْنِهِ رَبًّا خَالِقًا فَصَارَ إنْكَارُهَا مُسْتَلْزِمًا لِإِنْكَارِ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ . وَلِكَوْنِهِ إلَهَ الْعَالَمِينَ . وَهَذَا هُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالْجُحُودِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَتْ الْأُمَّتَانِ قَبْلَنَا عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ مَأْثُورٍ وَحِكَمٍ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ أَنَّ أَعْظَمَ الْوَصَايَا أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ بِكُلِّ قَلْبِك وَعَقْلِك وَقَصْدِك وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ الَّتِي هِيَ أَصْلُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ . وَإِنْكَارُ ذَلِكَ هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مُتَفَلْسِفٍ وَمُتَكَلِّمٍ وَمُتَفَقِّهٍ وَمُبْتَدِعٍ أَخَذَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ ; وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الإسْماعيليَّة وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ أَيْضًا : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ } { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وَهُوَ السَّلِيمُ مِنْ الشِّرْكِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : " إنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ تُوجِبُ مَحَبَّتَهُ لَهُ وَتَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ " . فَهَذَا الْكَلَامُ مُجْمَلٌ فَإِنْ أَرَادُوا بِالْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَوَالُدٌ فَهَذَا حَقٌّ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ النَّاكِحِ وَالْمَنْكُوحِ وَالْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَهُمَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحِبًّا عَابِدًا وَالْآخَرُ مَعْبُودًا مَحْبُوبًا فَهَذَا هُوَ رَأْسُ الْمَسْأَلَةِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ الْمَنْعُ . ثُمَّ يُقَالُ بَلْ لَا مُنَاسَبَةَ تَقْتَضِي الْمَحَبَّةَ الْكَامِلَةَ إلَّا الْمُنَاسَبَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ . الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ جَحْدُ كَوْنِ اللَّهِ مَعْبُودًا فِي الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا وَافَقَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَوَائِفُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحِبًّا فِي الْحَقِيقَةِ فَأَقَرُّوا بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا وَمَنَعُوا كَوْنَهُ مُحِبًّا ; لِأَنَّهُمْ تَصَوَّفُوا مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمَةِ فَأَخَذُوا عَنْ الصُّوفِيَّةِ مَذْهَبَهُمْ فِي الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَخْلِطُونَ فِيهِ وَأَصْلُ إنْكَارِهَا إنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الجهمية فَأَمَّا مَحَبَّةُ الرَّبِّ عَبْدَهُ فَهُمْ لَهَا أَشَدُّ إنْكَارًا . وَمُنْكِرُوهَا قِسْمَانِ : ( قِسْمٌ يَتَأَوَّلُونَهَا بِنَفْسِ الْمَفْعُولَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا الْعَبْدُ فَيَجْعَلُونَ مَحَبَّتَهُ نَفْسَ خَلْقِهِ . وَ ( قِسْمٌ يَجْعَلُونَهَا نَفْسَ إرَادَتِهِ لِتِلْكَ الْمَفْعُولَاتِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي " قَوَاعِدِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ " وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ وَيَرْضَى مَا أَمَرَ بِفِعْلِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَوْجُودًا وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ وُجُودَ أُمُورٍ يُبْغِضُهَا وَيَسْخَطُهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ كَالْفِسْقِ وَالْكُفْرِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا إنَّمَا هُوَ ذِكْرُ مَحَبَّةِ الْعِبَادِ لِإِلَهِهِمْ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ وَكَانُوا يُحَرِّكُونَ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ بِمَا شَرَعَ اللَّهُ أَنْ تُحَرَّكَ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِرْفَانِ الْإِيمَانِيِّ وَالسَّمَاعِ الْفُرْقَانِيِّ قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا طَالَ الْأَمَدُ صَارَ فِي طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمَةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ . وَصَارَ فِي بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ مَنْ يَطْلُبُ تَحْرِيكَهَا بِأَنْوَاعِ مِنْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ كَالتَّغْيِيرِ وَسَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ فَيَسْمَعُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَشْعَارِ مَا فِيهِ تَحْرِيكُ جِنْسِ الْحُبِّ الَّذِي يُحَرِّكُ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ مَا فِيهِ مِنْ الْحُبِّ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِمُحِبِّ الْأَوْثَانِ وَالصُّلْبَانِ وَالْإِخْوَانِ وَالْأَوْطَانِ والمردان وَالنِّسْوَانِ كَمَا يَصْلُحُ لِمُحِبِّ الرَّحْمَنِ وَلَكِنْ كَانَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَهُ مِنْ الشُّيُوخِ يَشْتَرِطُونَ لَهُ الْمَكَانَ وَالْإِمْكَانَ وَالْخُلَّانَ . وَرُبَّمَا اشْتَرَطُوا لَهُ الشَّيْخَ الَّذِي يَحْرُسُ مِنْ الشَّيْطَانِ ثُمَّ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُمْ حَتَّى خَرَجُوا فِيهِ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي بَلْ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْفُسُوقِ ; بَلْ خَرَجَ فِيهِ طَوَائِفُ إلَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ بِحَيْثُ يَتَوَاجَدُونَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا الْكُفْرُ وَالْإِلْحَادُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ وَيُنْتِجُ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْ الْأَحْوَالِ بِحَسْبِهِ كَمَا تُنْتِجُ لِعُبَّادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عِبَادَاتِهِمْ بِحَسَبِهَا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ محققوا الْمَشَايِخِ أَنَّهُ كَمَا قَالَ الجنيد رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ تَكَلَّفَ السَّمَاعَ فُتِنَ بِهِ وَمَنْ صَادَفَهُ السَّمَاعُ اسْتَرَاحَ بِهِ . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ الِاجْتِمَاعُ لِهَذَا السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ وَلَا يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُتَّخَذُ ذَلِكَ دِينًا وَقُرْبَةً فَإِنَّ الْقُرَبَ وَالْعِبَادَاتِ إنَّمَا تُؤْخَذُ عَنْ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فَكَمَا أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فَجَعَلَ مَحَبَّتَهُمْ لِلَّهِ مُوجِبَةً لِمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ رَسُولِهِ مُوجِبَةً لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ إلَّا تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يتحات الْوَرَقُ الْيَابِسُ عَنْ الشَّجَرَةِ وَمَا مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إلَّا لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ أَبَدًا وَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ ; فَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُكُمْ اقْتِصَادًا وَاجْتِهَادًا عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُسْتَحَبُّ وَتَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ لِلْمَعْبُودِ الْمَحْبُوبِ لَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَيْهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا فِي الشَّامِ وَلَا فِي الْيَمَنِ وَلَا فِي الْعِرَاقِ وَلَا فِي مِصْرَ وَلَا فِي خُرَاسَانَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ يَجْتَمِعُ عَلَى السَّمَاعِ الْمُبْتَدَعِ لِصَلَاحِ الْقُلُوبِ وَلِهَذَا كَرِهَهُ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ حَتَّى عَدَّهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إحْدَاثِ الزَّنَادِقَةِ حِينَ قَالَ : خَلَّفْت بِبَغْدَادَ شَيْئًا أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ يُسَمُّونَهُ التَّغْبِيرَ يَصُدُّونَ بِهِ النَّاسَ عَنْ الْقُرْآنِ . وَأَمَّا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَا نَهْيٌ وَلَا ذَمٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ; وَلِهَذَا إنَّمَا يَتَرَتَّبُ الذَّمُّ وَالْمَدْحُ عَلَى الِاسْتِمَاعِ لَا عَلَى السَّمَاعِ فَالْمُسْتَمِعُ لِلْقُرْآنِ يُثَابُ عَلَيْهِ وَالسَّامِعُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَكَذَلِكَ مَا يُنْهَى عَنْ اسْتِمَاعِهِ مِنْ الْمَلَاهِي لَوْ سَمِعَهُ السَّامِعُ بِدُونِ قَصْدِهِ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ فَلَوْ سَمِعَ السَّامِعُ بَيْتًا يُنَاسِبُ بَعْضَ حَالِهِ فَحَرَّكَ سَاكِنَهُ الْمَحْمُودَ وَأَزْعَجَ قَاطِنَهُ الْمَحْبُوبَ أَوْ تَمَثَّلَ بِذَلِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَكَانَ الْمَحْمُودُ الْحَسَنُ حَرَكَةَ قَلْبِهِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى مَحَبَّتِهِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَتَرْكَ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ كَاَلَّذِي اجْتَازَ بَيْتًا فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ : كُلَّ يَوْمٍ تَتْلُونَ غَيْرَ هَذَا بِك أَجْمَلُ فَأَخَذَ مِنْهُ إشَارَةً تُنَاسِبُ حَالَهُ ; فَإِنَّ الْإِشَارَاتِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ . وَمَسْأَلَةُ " السَّمَاعِ " كَبِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَقَاصِدَ الْمَطْلُوبَةَ لِلْمُرِيدِينَ تَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ الْإِيمَانِيِّ الْقُرْآنِيِّ النَّبَوِيِّ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَسَمَاعُ الْعَالَمِينَ وَسَمَاعُ الْعَارِفِينَ وَسَمَاعُ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ } إلَى قَوْلِهِ : { إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلَى قَوْلِهِ { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } الْآيَةَ . وَكَمَا مَدَحَ الْمُقْبِلِينَ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ فَقَدْ ذَمَّ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } إلَى قَوْلِهِ { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَهَذَا كَانَ سَمَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَكَابِرِ مَشَايِخِهَا وَأَئِمَّتِهَا كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمَشَايِخِ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ والفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الكرخي وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَحُذَيْفَةَ المرعشي وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ وَيَبْكُونَ . وَكَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اجْتَمَعُوا أَمَرُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَالْبَاقِي يَسْتَمِعُونَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَقْرَأُ فَجَعَلَ يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ وَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ داود وَقَالَ : مَرَرْت بِك الْبَارِحَةَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَجَعَلْت أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِك فَقَالَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْتُهُ لَك تَحْبِيرًا } أَيْ لَحَسَّنْته لَك تَحْسِينًا { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَقَالَ : { اللَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } - أَذَنًا أَيْ اسْتِمَاعًا - كَقَوْلِهِ : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أَيْ اسْتَمَعَتْ { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ مَا أَذِنَ لِنَبِيِّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } وَقَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } . وَلِهَذَا السَّمَاعُ مِنْ الْمَوَاجِيدِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَذْوَاقِ الْكَرِيمَةِ وَمَزِيدِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْجَسِيمَةِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ خِطَابٌ وَلَا يَحْوِيهِ كِتَابٌ كَمَا أَنَّ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ مِنْ مَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا لَا يُحِيطُ بِهِ بَيَانٌ .