تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
سُئِلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } فَمَا الْعِبَادَةُ وَفُرُوعُهَا ؟ وَهَلْ مَجْمُوعُ الدِّينِ دَاخِلٌ فِيهَا أَمْ لَا ؟ وَمَا حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ ؟ وَهَلْ هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَمْ فَوْقَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ ؟ وَلِيَبْسُطُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ .
12345678
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . " الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ : مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ; وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَالْجِهَادُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْجَارِ وَالْيَتِيمِ وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ . وَكَذَلِكَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالْإِنَابَةُ إلَيْهِ . وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالصَّبْرُ لِحُكْمِهِ وَالشُّكْرُ لِنِعَمِهِ وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ ; وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ; وَالرَّجَاءُ لِرَحْمَتِهِ وَالْخَوْفُ لِعَذَابِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ هِيَ مِنْ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ وَالْمَرْضِيَّةُ لَهُ الَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَبِهَا أَرْسَلَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إلَى الْمَوْتِ كَمَا قَالَ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } وَقَالَ : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الْآيَاتِ . وَلَمَّا قَالَ الشَّيْطَانُ : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِذَلِكَ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمَسِيحِ - الَّذِي اُدُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ - { إنْ هُوَ إلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرَائِيلَ } وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا : عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } وَقَدْ نَعَتَهُ اللَّهُ " بِالْعُبُودِيَّةِ " فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فَقَالَ فِي الْإِسْرَاءِ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } وَقَالَ فِي الْإِيحَاءِ : { فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } وَقَالَ فِي الدَّعْوَةِ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } وَقَالَ فِي التَّحَدِّي : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ قَالَ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا . قَالَ : فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ . قَالَ فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } فَجَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الدِّينِ . وَ " الدِّينُ " يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ . يُقَالُ : دِنْته فَدَانَ أَيْ : ذَلَّلْته فَذَلَّ وَيُقَالُ يَدِينُ اللَّهَ وَيَدِينُ لِلَّهِ أَيْ : يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُطِيعُهُ وَيَخْضَعُ لَهُ فَدِينُ اللَّهِ عِبَادَتُهُ وَطَاعَتُهُ وَالْخُضُوعُ لَهُ . وَ " الْعِبَادَةُ " أَصْلُ مَعْنَاهَا الذُّلُّ أَيْضًا يُقَالُ : طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إذَا كَانَ مُذَلَّلًا قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ . لَكِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الذُّلِّ وَمَعْنَى الْحُبِّ فَهِيَ تَتَضَمَّنُ غَايَةَ الذُّلِّ لِلَّهِ بِغَايَةِ الْمَحَبَّةِ لَهُ فَإِنَّ آخِرَ مَرَاتِبِ الْحُبِّ هُوَ التَّتْمِيمُ وَأَوَّلُهُ " الْعَلَاقَةُ " لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ " الصَّبَابَةُ " لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إلَيْهِ ثُمَّ " الْغَرَامُ " وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ ثُمَّ " الْعِشْقُ " وَآخِرُهَا " التَّتْمِيمُ " يُقَالُ : تَيْمُ اللَّهِ أَيْ : عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُتَيَّمُ الْمُعَبَّدُ لِمَحْبُوبِهِ . وَمَنْ خَضَعَ لِإِنْسَانِ مَعَ بُغْضِهِ لَهُ لَا يَكُونُ عَابِدًا لَهُ وَلَوْ أَحَبَّ شَيْئًا وَلَمْ يَخْضَعْ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا لَهُ كَمَا قَدْ يُحِبُّ وَلَدَهُ وَصَدِيقَهُ وَلِهَذَا لَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إلَى الْعَبْدِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ بَلْ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَحَبَّةَ وَالذُّلَّ التَّامَّ إلَّا اللَّهُ . وَكُلُّ مَا أُحِبَّ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ وَمَا عُظِّمَ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ كَانَ تَعْظِيمُهُ بَاطِلًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَجِنْسُ الْمَحَبَّةِ تَكُونُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَالطَّاعَةِ ; فَإِنَّ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْإِرْضَاءَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } . وَأَمَّا " الْعِبَادَةُ " وَمَا يُنَاسِبُهَا مِنْ التَّوَكُّلِ ; وَالْخَوْفِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كَقَوْلِهِ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } . وَأَمَّا الحسب وَهُوَ الْكَافِي فَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك اللَّهُ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَعْنَى حَسْبُك اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } . وَ " تَحْرِيرُ ذَلِكَ " أَنَّ الْعَبْدَ يُرَادُ بِهِ " الْمُعَبَّدُ " الَّذِي عَبَّدَهُ اللَّهُ فَذَلَّلَهُ وَدَبَّرَهُ وَصَرَّفَهُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوقُونَ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ مِنْ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ; إذْ هُوَ رَبُّهُمْ كُلُّهُمْ وَمَلِيكُهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ ; فَمَا شَاءَ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَاءُوا . وَمَا شَاءُوا إنْ لَمْ يَشَأْهُ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَمُحْيِيهِمْ وَمُمِيتُهُمْ وَمُقَلِّبُ قُلُوبِهِمْ وَمُصَرِّفُ أُمُورِهِمْ لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ وَلَا مَالِكَ لَهُمْ سِوَاهُ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سَوَاءٌ اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرُوهُ وَسَوَاءٌ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ جَهِلُوهُ ; لَكِنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ عَرَفُوا ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِهِ ; بِخِلَافِ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ ; أَوْ جَاحِدًا لَهُ مُسْتَكْبِرًا عَلَى رَبِّهِ لَا يُقِرُّ وَلَا يَخْضَعُ لَهُ ; مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ . فَالْمَعْرِفَةُ بِالْحَقِّ إذَا كَانَتْ مَعَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِهِ وَالْجَحْدِ لَهُ كَانَ عَذَابًا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } . فَإِنْ اعْتَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ ; وَأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ عَرَفَ الْعُبُودِيَّةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَهَذَا الْعَبْدُ يَسْأَلُ رَبَّهُ فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ لَكِنْ قَدْ يُطِيعُ أَمْرَهُ ; وَقَدْ يَعْصِيهِ وَقَدْ يَعْبُدُهُ مَعَ ذَلِكَ ; وَقَدْ يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَالْأَصْنَامَ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَا يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مُؤْمِنًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَشْهَدُهَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا وَفِي شُهُودِهَا وَمَعْرِفَتِهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَإِبْلِيسُ مُعْتَرِفٌ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ ; وَأَهْلُ النَّارِ . قَالَ إبْلِيسُ : { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وَقَالَ : { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } وَأَمْثَالَ هَذَا مِنْ الْخِطَابِ الَّذِي يُقِرُّ فِيهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ وَخَالِقُ غَيْرِهِ ; وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } فَمَنْ وَقَفَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَعِنْدَ شُهُودِهَا وَلَمْ يَقُمْ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِلَهِيَّتِهِ وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ إبْلِيسَ وَأَهْلِ النَّارِ ; وَإِنْ ظَنَّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ الَّذِينَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الشَّرْعِيَّانِ كَانَ مِنْ أَشَرِّ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَضِرَ وَغَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُمْ الْأَمْرُ لِمُشَاهَدَةِ الْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ هَذَا مِنْ شَرِّ أَقْوَالِ الْكَافِرِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . حَتَّى يَدْخُلَ فِي " النَّوْعِ الثَّانِي " مِنْ مَعْنَى الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَبْدُ بِمَعْنَى الْعَابِدِ فَيَكُونُ عَابِدًا لِلَّهِ لَا يَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ; فَيُطِيعُ أَمْرَهُ وَأَمْرَ رُسُلِهِ وَيُوَالِي أَوْلِيَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ ; وَيُعَادِي أَعْدَاءَهُ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِإِلَهِيَّتِهِ وَلِهَذَا كَانَ عُنْوَانُ التَّوْحِيدِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " بِخِلَافِ مَنْ يُقِرُّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَلَا يَعْبُدُهُ : أَوْ يَعْبُدُ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ فَالْإِلَهُ الَّذِي يألهه الْقَلْبُ بِكَمَالِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ هِيَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا وَبِهَا وَصَفَ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ وَبِهَا بَعَثَ رُسُلَهُ . وَأَمَّا " الْعَبْدُ " بِمَعْنَى الْمُعَبَّدِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْكَرَهُ : فَتِلْكَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ . وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَ " الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ " الدَّاخِلَةِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَأَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَيُوَالِي أَهْلَهَا وَيُكْرِمُهُمْ بِجَنَّتِهِ وَبَيْنَ " الْحَقَائِقِ الْكَوْنِيَّةِ " الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ الَّتِي مَنْ اكْتَفَى بِهَا وَلَمْ يَتَّبِعْ الْحَقَائِقَ الدِّينِيَّةَ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ وَالْكَافِرِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَمَنْ اكْتَفَى بِهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ فِي مَقَامٍ أَوْ حَالٍ نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلَّهِ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ مِنْ الْحَقَائِقِ الدِّينِيَّةِ . وَهَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ فِيهِ غَلِطَ الغالطون وَكَثُرَ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ عَلَى السَّالِكِينَ حَتَّى زَلَقَ فِيهِ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ الْمُدَّعِينَ التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مَا لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالْإِعْلَانَ ; وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ " عَبْدُ الْقَادِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ فَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ إذَا وَصَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا إلَّا أَنَا فَإِنِّي انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ ; وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ; لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ الرِّجَالِ غَلِطُوا فَإِنَّهُمْ قَدْ يَشْهَدُونَ مَا يُقَدَّرُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ ; أَوْ مَا يُقَدَّرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ بَلْ مِنْ الْكُفْرِ ; وَيَشْهَدُونَ أَنَّ هَذَا جَارٍ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ رُبُوبِيَّتِهِ وَمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ فَيَظُنُّونَ الِاسْتِسْلَامَ لِذَلِكَ وَمُوَافَقَتَهُ وَالرِّضَا بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دِينًا وَطَرِيقًا وَعِبَادَةً ; فَيُضَاهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } . وَقَالُوا : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } . وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } وَلَوْ هُدُوا لَعَلِمُوا أَنَّ الْقَدَرَ أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ وَنَصْبِرَ عَلَى مُوجَبِهِ فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُنَا كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ الْمُصِيبَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَرْضَى وَيُسَلِّمُ وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { احْتَجَّ آدَمَ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى أَنْتَ آدَمَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ فَهَلْ وَجَدْتَ ذَلِكَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } . وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِالْقَدَرِ ظَنًّا أَنَّ الْمُذْنِبَ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا عُذْرًا لَكَانَ عُذْرًا لإبليس وَقَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَكُلِّ كَافِرٍ وَلَا مُوسَى لَامَ آدَمَ أَيْضًا لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ تَابَ إلَى رَبِّهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَى وَلَكِنْ لَامَهُ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ بِالْخَطِيئَةِ وَلِهَذَا قَالَ : فَلِمَاذَا أَخْرَجْتَنَا وَنَفْسَكَ مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَأَجَابَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ فَكَانَ الْعَمَلُ وَالْمُصِيبَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهِ مُقَدَّرًا وَمَا قُدِّرَ مِنْ الْمَصَائِبِ يَجِبُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ الرِّضَا بِاَللَّهِ رَبًّا . وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُذْنِبَ وَإِذَا أَذْنَبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ فَيَتُوبُ مِنْ المعائب وَيَصْبِرُ عَلَى الْمَصَائِبِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ يُوسُفُ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَكَذَلِكَ ذُنُوبُ الْعِبَادِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ فِيهَا أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ - وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُعَادِيَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيُحِبَّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضَ فِي اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلَى قَوْلِهِ : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } { وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ } { وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ } { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَأَهْلِ الْبِرِّ وَأَهْلِ الْفُجُورِ وَأَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَأَهْلِ الْغَيِّ وَالرَّشَادِ وَأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . فَمَنْ شَهِدَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " دُونَ " الدِّينِيَّةِ " سَوَّى بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهَا غَايَةَ التَّفْرِيقِ حَتَّى يَئُولَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهَ بِالْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بَلْ قَدْ آلَ الْأَمْرُ بِهَؤُلَاءِ إلَى أَنْ سَوَّوْا اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَجَعَلُوا مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ حَقًّا لِكُلِّ مَوْجُودٍ إذْ جَعَلُوهُ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ بِرَبِّ الْعِبَادِ . وَهَؤُلَاءِ يَصِلُ بِهِمْ الْكُفْرُ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ وَلَا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ عَابِدُونَ ; إذْ يَشْهَدُونَ أَنْفُسَهُمْ هِيَ الْحَقَّ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ طَوَاغِيتُهُمْ كَابْنِ عَرَبِيٍّ صَاحِبِ " الْفُصُوصِ " وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ الْمُفْتَرِينَ كَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ وَهَذَا لَيْسَ بِشُهُودِ لِحَقِيقَةِ ; لَا كَوْنِيَّةٍ وَلَا دِينِيَّةٍ ; بَلْ هُوَ ضَلَالٌ وَعَمًى عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ وَجَعَلُوا كُلَّ وَصْفٍ مَذْمُومٍ وَمَمْدُوحٍ نَعْتًا لِلْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ إذْ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودُ هَذَا عِنْدَهُمْ . وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ عَوَامُّهُمْ وَخَوَّاصُهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ } فَهَؤُلَاءِ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ وَأَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ لَيْسَ هُوَ حَالًّا فِيهِ وَلَا مُتَّحِدًا بِهِ وَلَا وُجُودُهُ وَجُودُهُ . وَ " النَّصَارَى " كَفَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ قَالُوا : بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ خَاصَّةً فَكَيْفَ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَامًّا فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ . وَيَعْلَمُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَنَهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ فَيُطِيعُوا أَمْرَهُ وَيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . فَيَجْتَهِدُونَ فِي إقَامَةِ دِينِهِ مُسْتَعِينِينَ بِهِ دَافِعِينَ مُزِيلِينَ بِذَلِكَ مَا قُدِّرَ مِنْ السَّيِّئَاتِ دَافِعِينَ بِذَلِكَ مَا قَدْ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُزِيلُ الْإِنْسَانُ الْجُوعَ الْحَاضِرَ بِالْأَكْلِ وَيَدْفَعُ بِهِ الْجُوعَ الْمُسْتَقْبَلَ وَكَذَلِكَ إذَا آنَ أَوَانُ الْبَرْدِ دَفَعَهُ بِاللِّبَاسِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَطْلُوبٍ يُدْفَعُ بِهِ مَكْرُوهٌ . كَمَا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقَاةً نَتَّقِي بِهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ فَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } فَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَةِ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَهِيَ رُبُوبِيَّتُهُ تَعَالَى لِكُلِّ شَيْءٍ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الضَّلَالِ . فَغُلَاتُهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُطْلَقًا عَامًّا فَيَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ فِي كُلِّ مَا يُخَالِفُونَ فِيهِ الشَّرِيعَةَ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } . وَقَالُوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ تَنَاقُضًا ; بَلْ كُلُّ مَنْ احْتَجَّ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِرَّ كُلُّ آدَمِيٍّ عَلَى مَا فَعَلَ ; فَلَا بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ هَذَا الْقَدَرَ ; وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ أَمْثَالِهِ . فَيُقَالُ لَهُ إنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً فَدَعْ كُلَّ أَحَدٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِكَ وَبِغَيْرِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بَطَلَ أَصْلُ قَوْلِكَ : حُجَّةٌ . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ [ الَّذِينَ ] يَحْتَجُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ لَا يَطْرُدُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا يَلْتَزِمُونَهُ وَإِنَّمَا هُمْ بِحَسَبِ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ ; كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ ; أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ . وَمِنْهُمْ " صِنْفٌ " يَدَّعُونَ التَّحْقِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِمَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِعْلًا وَأَثْبَتَ لَهُ صُنْعًا ; أَمَّا مَنْ شَهِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مَخْلُوقَةٌ ; أَوْ أَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى ذَلِكَ ; وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ كَمَا تُحَرَّكُ سَائِرُ الْمُتَحَرِّكَاتِ ; فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ . وَقَدْ يَقُولُونَ : مَنْ شَهِدَ " الْإِرَادَةَ " سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ وَيَزْعُمُ أَحَدُهُمْ أَنَّ الْخَضِرَ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِشُهُودِهِ الْإِرَادَةَ فَهَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ وَقَدْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا وَبَيْنَ مَنْ يَرَاهُ شُهُودًا فَلَا يُسْقِطُونَ التَّكْلِيفَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ فَقَطْ وَلَكِنْ عَمَّنْ يَشْهَدُهُ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ فِعْلًا أَصْلًا وَهَؤُلَاءِ لَا يَجْعَلُونَ الْجَبْرَ وَإِثْبَاتَ الْقَدَرِ مَانِعًا مِنْ التَّكْلِيفِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَاقَ نِطَاقُهُمْ عَنْ كَوْنِ الْعَبْدِ يُؤْمَرُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ خِلَافُهُ كَمَا ضَاقَ نِطَاقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ عَنْ ذَلِكَ . ثُمَّ الْمُعْتَزِلَةُ أَثْبَتَتْ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الَّذِي هُوَ إرَادَةُ اللَّهِ الْعَامَّةُ وَخَلْقُهُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ وَنَفَوْا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي حَقِّ مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ إذْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لِلْمَحْجُوبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ مَنْ وَصَلَ إلَى شُهُودِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَصَارَ مِنْ الْخَاصَّةِ . وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وَجَعَلُوا الْيَقِينَ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كُفْرٌ صَرِيحٌ . وَإِنْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كُفْرٌ ; فَإِنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَازِمٌ لِكُلِّ عَبْدٍ مَا دَامَ عَقْلُهُ حَاضِرًا إلَى أَنْ يَمُوتَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا بِشُهُودِهِ الْقَدَرَ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ عَرَّفَهُ ; وَبَيَّنَ لَهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ سُقُوطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ . وَقَدْ كَثُرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي الْمُسْتَأْخِرِينَ . وَأَمَّا الْمُسْتَقْدِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتُ مَعْرُوفَةً فِيهِمْ . وَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ هِيَ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُعَادَاةٌ لَهُ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِهِ وَمُشَاقَّةٌ لَهُ ; وَتَكْذِيبٌ لِرُسُلِهِ ; وَمُضَادَّةٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ قَدْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ هُوَ طَرِيقُ الرَّسُولِ ; وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُحَقِّقِينَ ; فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الْقَلْبِيَّةِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ شُرْبُ الْخَمْرِ ; أَوْ أَنَّ الْفَاحِشَةَ حَلَالٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَحْرِ لَا تُكَدِّرُهُ الذُّنُوبُ ; وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ يَتَرَدَّدُونَ بَيْنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللَّهِ ; وَبَيْنَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ ; فَهَؤُلَاءِ الْأَصْنَافُ فِيهِمْ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إمَّا أَنْ يَبْتَدِعُوا وَإِمَّا أَنْ يَحْتَجُّوا بِالْقَدَرِ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ بِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ : { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } إلَى قَوْلِهِ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ ي