تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَأَمَّا إنْ كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِسَبَبِ مُحَرَّمٍ : كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْحَشِيشَةِ أَوْ كَانَ يَحْضُرُ السَّمَاعَ الْمُلَحَّنَ فَيَسْتَمِعُ حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ أَوْ الَّذِي يَتَعَبَّدُ بِعِبَادَاتِ بِدْعِيَّةٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ فَيُغَيِّرُوا عَقْلَهُ أَوْ يَأْكُلُ بَنْجًا يُزِيلُ عَقْلَهُ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَحِقُّونَ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ عَلَى مَا أَزَالُوا بِهِ الْعُقُولَ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَسْتَجْلِبُ الْحَالَ الشَّيْطَانِيَّ بِأَنْ يَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ فَيَرْقُصَ رَقْصًا عَظِيمًا حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ أَوْ يَغُطَّ وَيَخُورَ حَتَّى يَجِيئَهُ الْحَالُ الشَّيْطَانِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقْصِدُ التَّوَلُّهَ حَتَّى يَصِيرَ مُولَهًا . فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُمْ " مُكَلَّفُونَ " فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِمْ ؟ وَالْأَصْلُ " مَسْأَلَةُ السَّكْرَانِ " وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَ زَوَالِ عَقْلِهِ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ طَلَاقَ السَّكْرَانِ لَا يَقَعُ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَالَ عَقْلُهُمْ بِمِثْلِ هَذَا يَكُونُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ . وَمَنْ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ عُقَلَاءِ الْمَجَانِينِ الَّذِينَ ذَكَرُوهُمْ بِخَيْرِ فَهُمْ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانَ فِيهِمْ خَيْرٌ ثُمَّ زَالَتْ عُقُولُهُمْ . وَمِنْ " عَلَامَةِ هَؤُلَاءِ " أَنَّهُمْ إذَا حَصَلَ لَهُمْ فِي جُنُونِهِمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّحْوِ تَكَلَّمُوا بِمَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ لَا بِالْكُفْرِ وَالْبُهْتَانِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ إذَا حَصَلَ لَهُ نَوْعُ إفَاقَةٍ بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَيَهْذِي فِي زَوَالِ عَقْلِهِ بِالْكُفْرِ فَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ كَافِرًا لَا مُسْلِمًا وَمَنْ كَانَ يَهْذِي بِكَلَامِ لَا يُعْقَلُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ التُّرْكِيَّةِ أَوْ الْبَرْبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ لِبَعْضِ مَنْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ وَيَحْصُلُ لَهُ وَجْدٌ يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى يَهْذِيَ بِكَلَامِ لَا يُعْقَلُ - أَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ - فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ الشَّيْطَانُ كَمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ . وَمَنْ قَالَ : إنْ هَؤُلَاءِ أَعْطَاهُمْ اللَّهُ عُقُولًا وَأَحْوَالًا فَأَبْقَى أَحْوَالَهُمْ وَأَذْهَبَ عُقُولَهُمْ وَأَسْقَطَ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ بِمَا سَلَبَ . قِيلَ : قَوْلُك وَهَبَ اللَّهُ لَهُمْ أَحْوَالًا كَلَامٌ مُجْمَلٌ ; فَإِنَّ الْأَحْوَالَ تَنْقَسِمُ إلَى : حَالٍ رَحْمَانِيٍّ وَحَالٍ شَيْطَانِيٍّ وَمَا يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ خَرْقِ عَادَةٍ بِمُكَاشَفَةٍ وَتَصَرُّفٍ عَجِيبٍ " فَتَارَةً " يَكُونُ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ لِلسَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ و " تَارَةً " يَكُونُ مِنْ الرَّحْمَنِ مِنْ جِنْسِ مَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَالْإِيمَانِ ; فَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ فِي حَالِ عُقُولِهِمْ كَانَتْ لَهُمْ مَوَاهِبُ إيمَانِيَّةٌ وَكَانُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ بِمَا سُلِبَ مِنْ الْعُقُولِ وَإِنْ كَانَ مَا أُعْطُوهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ - كَمَا يُعْطَاهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ - فَهَؤُلَاءِ إذَا زَالَتْ عُقُولُهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِذَلِكَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ كَمَا لَمْ يَخْرُجْ الْأَوَّلُونَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى كَمَا أَنَّ نَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَمَوْتَهُ وَإِغْمَاءَهُ لَا يُزِيلُ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ زَوَالِ عَقْلِهِ مِنْ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ أَوْ كُفْرِهِ وَفِسْقِهِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ غَايَتُهُ أَنْ يُسْقِطَ التَّكْلِيفَ . وَرَفْعُ الْقَلَمِ لَا يُوجِبُ حَمْدًا وَلَا مَدْحًا وَلَا ثَوَابًا وَلَا يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ بِسَبَبِ زَوَالِ عَقْلِهِ مَوْهِبَةٌ مِنْ مَوَاهِبِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَلَا كَرَامَةٌ مِنْ كَرَامَاتِ الصَّالِحِينَ بَلْ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ كَمَا قَدْ يُرْفَعُ الْقَلَمُ عَنْ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَيِّتِ وَلَا مَدْحَ فِي ذَلِكَ وَلَا ذَمَّ بَلْ النَّائِمُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ ; وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ يَنَامُونَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَجْنُونٌ وَلَا مُولَهٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْجُنُونُ وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ .