تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَنَقُولُ : أَمَّا طُرُقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَهِيَ - بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ - " الْكِتَابُ " لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ كَمَا خَالَفَ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ . ( وَالثَّانِي - " السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ " الَّتِي لَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ ; بَلْ تُفَسِّرُهُ مِثْلُ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَنُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَصِفَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تُعْلَمْ إلَّا بِتَفْسِيرِ السُّنَّةِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي لَا تُفَسِّرُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَوْ يُقَالُ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُ كَالسُّنَّةِ فِي تَقْدِيرِ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَذْهَبُ جَمِيعِ السَّلَفِ الْعَمَلُ بِهَا أَيْضًا إلَّا الْخَوَارِجُ ; فَإِنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ - أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ - مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ : إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ . وَيُحْكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُفَسِّرَةِ لَهُ وَأَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ إذَا خَالَفَهُ الرَّسُولُ فَلَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِظَاهِرِهِ وَلِهَذَا كَانُوا مَارِقَةً مَرَقُوا مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَوَّلِهِمْ : { لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَعْدِلْ } فَإِذَا جُوِّزَ أَنَّ الرَّسُولَ يَجُوزُ أَنْ يَخُونَ وَيَظْلِمَ فِيمَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى وَحْيِهِ فَقَدْ اتَّبَعَ ظَالِمًا كَاذِبًا وَجَوَّزَ أَنْ يَخُونَ وَيَظْلِمَ فِيمَا ائْتَمَنَهُ مِنْ الْمَالِ مَنْ هُوَ صَادِقٌ أَمِينٌ فِيمَا ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ ; وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيَأْمَنَّنِي مَنْ فِي السَّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي ؟ } أَوْ كَمَا قَالَ . يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الْوَحْيِ أَعْظَمُ وَالْوَحْيُ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَتَهُ هُوَ الْوَحْيُ بِحُكْمِهِ وَقَسْمِهِ . وَقَدْ يُنْكِرُ هَؤُلَاءِ كَثِيرًا مِنْ السُّنَنِ طَعْنًا فِي الْعَقْلِ لَا رَدًّا لِلْمَنْقُولِ كَمَا يُنْكِرُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ السُّنَنَ الْمُتَوَاتِرَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ وَالْقَدَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . ( الطَّرِيقُ الثَّالِثُ - " السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا مُتَلَقَّاةٌ بِالْقَبُولِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا ; أَوْ بِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ لَهَا . وَهَذِهِ أَيْضًا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى اتِّبَاعِهَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ أَنْكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَأَنْكَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِشَيْءِ مِنْهَا وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ وَغَيْرِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ قَدْ يُنْكِرُ كَثِيرًا مِنْهَا بِشُرُوطِ اشْتَرَطَهَا وَمُعَارَضَاتٍ دَفَعَهَا بِهَا وَوَضَعَهَا كَمَا يَرُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَنَّهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِيمَا زَعَمَ أَوْ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأُصُولِ أَوْ قِيَاسُ الْأُصُولِ أَوْ لِأَنَّ عَمَلَ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْرُوفَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ . ( الطَّرِيقُ الرَّابِعُ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ لَكِنَّ الْمَعْلُومَ مِنْهُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَأَمَّا مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِهِ غَالِبًا وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يُذْكَرُ مِنْ الإجماعات الْحَادِثَةِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ وَاخْتَلَفَ فِي مَسَائِلَ مِنْهُ كَإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الصَّحَابَةِ وَالْإِجْمَاعِ الَّذِي لَمْ يَنْقَرِضُ عَصْرُ أَهْلِهِ حَتَّى خَالَفَهُمْ بَعْضُهُمْ وَالْإِجْمَاعِ السكوتي وَغَيْرِ ذَلِكَ . ( الطَّرِيقُ الْخَامِسُ - " الْقِيَاسُ عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ " . وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ أَسْرَفَ فِيهِ حَتَّى اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ النَّصِّ وَحَتَّى رَدَّ بِهِ النُّصُوصَ وَحَتَّى اسْتَعْمَلَ مِنْهُ الْفَاسِدَ وَمِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الْقِيَاسِ مَنْ يُنْكِرُهُ رَأْسًا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ وَالْحَقُّ فِيهَا مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالنَّقْصِ . ( الطَّرِيقُ السَّادِسُ - " الِاسْتِصْحَابُ " وَهُوَ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ بِالشَّرْعِ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِقَادِ بِالِاتِّفَاقِ وَهَلْ هُوَ حُجَّةٌ فِي اعْتِقَادِ الْعَدَمِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَمِمَّا يُشْبِهُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِثْلِ أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَتْ الْأُضْحِيَّةُ أَوْ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَنَصَبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا إذْ وُجُوبُ هَذَا لَا يُعْلَمُ بِدُونِ الشَّرْعِ وَلَا دَلِيلَ فَلَا وُجُوبَ . فَالْأَوَّلُ يَبْقَى عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ الْمَعْلُومِ بِالْعَقْلِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمُغَيِّرُ لَهُ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الْمُثْبِتِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ إذْ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ دَلِيلِهِ السَّمْعِيِّ ; كَمَا يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ النَّقْلِ لَمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَمَا تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ نَقْلَهُ وَمَا يُعْلَمُ مِنْ دِينِ أَهْلِهَا وَعَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ; كَالِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى عَدَمِ زِيَادَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الشَّرِيعَةِ الظَّاهِرَةِ وَعَدَمِ النَّصِّ الْجَلِيِّ بِالْإِمَامَةِ عَلَى عَلِيٍّ أَوْ الْعَبَّاسِ أَوْ غَيْرِهِمَا ; وَيَعْلَمُ الْخَاصَّةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ وَسِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ انْتِفَاءُ أُمُورٍ مِنْ هَذَا لَا يَعْلَمُ انْتِفَاءَهَا غَيْرُهُمْ ; وَلِعِلْمِهِمْ بِمَا يَنْفِيهَا مِنْ أُمُورٍ مَنْقُولَةٍ يَعْلَمُونَهَا هُمْ ; وَلِعِلْمِهِمْ بِانْتِفَاءِ لَوَازِمِ نَقْلِهَا فَإِنَّ وُجُودَ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يَنْفِي الْآخَرَ وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ . ( الطَّرِيقُ السَّابِعُ - " الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ " وَهُوَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَجْلِبُ مَنْفَعَةً رَاجِحَةً ; وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيه ; فَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فَالْفُقَهَاءُ يُسَمُّونَهَا " الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ " وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهَا الرَّأْيَ وَبَعْضُهُمْ يُقَرِّبُ إلَيْهَا الِاسْتِحْسَانَ وَقَرِيبٌ مِنْهَا ذَوْقُ الصُّوفِيَّةِ وَوَجْدُهُمْ وَإِلْهَامَاتُهُمْ ; فَإِنَّ حَاصِلَهَا أَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَصْلَحَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَيَذُوقُونَ طَعْمَ ثَمَرَتِهِ وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَخُصُّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ بِحِفْظِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَفِي دَفْعِ الْمَضَارِّ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ . وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ فَفِي الدُّنْيَا كَالْمُعَامَلَاتِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِلْخَلْقِ مِنْ غَيْرِ حَظْرٍ شَرْعِيٍّ وَفِي الدِّينِ كَكَثِيرِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ والزهادات الَّتِي يُقَالُ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِلْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ شَرْعِيٍّ . فَمَنْ قَصَرَ الْمَصَالِحَ عَلَى الْعُقُوبَاتِ الَّتِي فِيهَا دَفْعُ الْفَسَادِ عَنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ لِيَحْفَظَ الْجِسْمَ فَقَطْ فَقَدْ قَصَّرَ . وَهَذَا فَصْلٌ عَظِيمٌ يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِهِ فَإِنَّ مِنْ جِهَتِهِ حَصَلَ فِي الدِّينِ اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ رَأَوْا مَصَالِحَ فَاسْتَعْمَلُوهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهَا مَا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ يَعْلَمُوهُ وَرُبَّمَا قَدَّمَ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ كَلَامًا بِخِلَافِ النُّصُوصِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ أَهْمَلَ مَصَالِحَ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا شَرْعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهَا فَفَوَّتَ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ أَوْ وَقَعَ فِي مَحْظُورَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ وَقَدْ يَكُونُ الشَّرْعُ وَرَدَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْهُ . وَحُجَّةُ الْأَوَّلِ : أَنَّ هَذِهِ مَصْلَحَةٌ وَالشَّرْعُ لَا يُهْمِلُ الْمَصَالِحَ بَلْ قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهَا وَحُجَّةُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا . وَالْقَوْلُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يُشْرَعُ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [ غَالِبًا ] . وَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْسَانِ وَالتَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ وَالرَّأْيِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ طَلَبُ الْحُسْنِ وَالْأَحْسَنُ كَالِاسْتِخْرَاجِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ حُسْنًا كَمَا أَنَّ الِاسْتِقْبَاحَ رُؤْيَتُهُ قَبِيحًا وَالْحُسْنُ هُوَ الْمَصْلَحَةُ فَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِصْلَاحُ مُتَقَارِبَانِ وَالتَّحْسِينُ الْعَقْلِيُّ قَوْلٌ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ الْحَسَنَ لَكِنَّ بَيْنَ هَذِهِ فُرُوقٌ . وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُهْمِلُ مَصْلَحَةً قَطُّ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثَنَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنَا عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدَهُ إلَّا هَالِكٌ لَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ الْعَقْلُ مَصْلَحَةً وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ لَهُ إمَّا أَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ هَذَا النَّاظِرُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْلَحَةِ وَإِنْ اعْتَقَدَهُ مَصْلَحَةً ; لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْحَاصِلَةُ أَوْ الْغَالِبَةُ وَكَثِيرًا مَا يَتَوَهَّمُ النَّاسُ أَنَّ الشَّيْءَ يَنْفَعُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَيَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَرْجُوحَةٌ بِالْمَضَرَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } . وَكَثِيرٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ مِنْ بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَأَهْلِ التَّصَوُّفِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَأَهْلِ الْمُلْكِ حَسِبُوهُ مَنْفَعَةً أَوْ مَصْلَحَةً نَافِعًا وَحَقًّا وَصَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْخَارِجِينَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئِينَ وَالْمَجُوسِ يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْعِبَادَاتِ مَصْلَحَةً لَهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَمَنْفَعَةً لَهُمْ { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } وَقَدْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ عَمَلِهِمْ فَرَأَوْهُ حَسَنًا . فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَرَى حَسَنًا مَا هُوَ سَيِّئٌ كَانَ اسْتِحْسَانُهُ أَوْ اسْتِصْلَاحُهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَهَذَا بِخِلَافِ الَّذِينَ جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا . فَإِنَّ بَابَ جَحُودِ الْحَقِّ وَمُعَانَدَتِهِ غَيْرُ بَابِ جَهْلِهِ وَالْعَمَى عَنْهُ وَالْكُفَّارُ فِيهِمْ هَذَا وَفِيهِمْ هَذَا وَكَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْقِسْمَانِ . فَإِنَّ النَّاسَ كَمَا أَنَّهُمْ فِي بَابِ الْفَتْوَى وَالْحَدِيثِ يُخْطِئُونَ تَارَةً وَيَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ أُخْرَى فَكَذَلِكَ هُمْ فِي أَحْوَالِ الدِّيَانَاتِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ قَدْ يَفْعَلُونَ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ظُلْمٌ وَقَدْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِظُلْمِ هُوَ ظُلْمٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } فَتَارَةً يَجْهَلُ وَتَارَةً يَظْلِمُ : ذَلِكَ فِي قُوَّةِ عِلْمِهِ وَهَذَا فِي قُوَّةِ عَمَلِهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ فَذَلِكَ يَقُولُ هَذَا جَائِزٌ أَوْ حَسَنٌ بِنَاءً عَلَى مَا رَآهُ وَهَذَا يَفْعَلُهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهِ أَوْ اعْتِقَادِ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ كَمَا يَجِدُ نَفْعًا فِي مِثْلِ السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ : سَمَاعِ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالْيَرَاعِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الشَّبَّابَةُ وَالصَّفَّارَةُ وَالْأَوْتَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا يَفْعَلُهُ لِمَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّتِهِ وَقَدْ يَفْعَلُهُ لِمَا يَجِدُهُ مِنْ مَنْفَعَةِ دِينِهِ بِزِيَادَةِ أَحْوَالِهِ الدِّينِيَّةِ كَمَا يَفْعَلُ مَعَ الْقُرْآنِ . وَهَذَا يَقُولُ هَذَا جَائِزٌ لِمَا يَرَى مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَقَالَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ . وَهَذَا يَقُولُ هُوَ حَقٌّ لِدَلَالَةِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عَلَيْهِ . وَهَذَا يَقُولُ يَجُوزُ وَيَجِبُ اعْتِقَادُهَا وَإِدْخَالُهَا فِي الدِّينِ إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ سِيَاسَاتُ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَاقِلَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ يُمَيِّزُ بِعَقْلِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَبَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ . وَلَا يُمْكِنُ الْمُؤْمِنَ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ إيمَانِهِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِمَا هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَجَاءَتْ بِمَا هُوَ النَّافِعُ وَالْمَصْلَحَةُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدْخُلُ فِيهَا الِاعْتِقَادَاتُ وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ النَّاسُ أَنَّ الْحَسَنَ أَوْ الْقَبِيحَ إذَا فُسِّرَ بِالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْمُلَائِمُ لِلْإِنْسَانِ وَالْمُنَافِي لَهُ وَاللَّذِيذُ وَالْأَلِيمُ - فَإِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ هَذَا فِي الْأَفْعَالِ . وَكَذَلِكَ إذَا فُسِّرَ حُسْنُهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ أَوْ كَمَالُ الْمَوْجُودِ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَقَوْلُهُ { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحَيَّ أَكْمَلُ مِنْ الْمَيِّتِ فِي وُجُودِهِ وَأَنَّ الْعَالَمَ أَكْمَلُ مِنْ الْجَاهِلِ وَأَنَّ الصَّادِقَ أَكْمَلُ مِنْ الْكَاذِبِ - فَهَذَا أَيْضًا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ . وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْعَقْل هَلْ يَعْتَبِرُ الْمَنْفَعَةَ وَالْمَضَرَّةَ . وَأَنَّهُ هَلْ " بَابُ التَّحْسِينِ " وَاحِدٌ فِي الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ؟ فَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ فَثَابِتَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَمِنْهُمَا مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ : الْأَوَّلُ فِي الْحَقِّ الْمَقْصُودِ وَالثَّانِي فِي الْحَقِّ الْمَوْجُودِ . ( الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِحُبِّ الْقَلْبِ وَبُغْضِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَخِطَابِهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَ ( الثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِتَصْدِيقِهِ وَتَكْذِيبِهِ وَإِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ وَخِطَابِهِ الْخَبَرِيِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّ الْحَقَّ يَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْجُودِ الثَّابِتِ وَالْبَاطِلِ بِمَعْنَى الْمَعْدُومِ الْمُنْتَفِي وَالْحَقِّ بِإِزَاءِ مَا يَنْبَغِي قَصْدُهُ وَطَلَبُهُ وَعَمَلُهُ وَهُوَ النَّافِعُ . وَالْبَاطِلُ بِإِزَاءِ مَا لَا يَنْبَغِي قَصْدُهُ وَلَا طَلَبُهُ وَلَا عَمَلُهُ وَهُوَ غَيْرُ النَّافِعِ . وَالْمَنْفَعَةُ تَعُودُ إلَى حُصُولِ النِّعْمَةِ وَاللَّذَّةِ وَالسَّعَادَةِ الَّتِي هِيَ حُصُولُ اللَّذَّةِ وَدَفْعُ الْأَلَمِ هُوَ حُصُولُ الْمَطْلُوبِ وَزَوَالُ الْمَرْهُوبِ . حُصُولُ النَّعِيمِ وَزَوَالُ الْعَذَابِ . وَحُصُولُ الْخَيْرِ وَزَوَالُ الشَّرِّ . ثُمَّ الْمَوْجُودُ وَالنَّافِعُ قَدْ يَكُونُ ثَابِتًا دَائِمًا وَقَدْ يَكُونُ مُنْقَطِعًا لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ زَمَنًا يَسِيرًا فَيُسْتَعْمَلُ الْبَاطِلُ كَثِيرًا بِإِزَاءِ مَا لَا يَبْقَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَبِإِزَاءِ مَا لَا يَدُومُ مِنْ الْوُجُودِ . كَمَا يُقَالُ الْمَوْتُ حَقٌّ وَالْحَيَاةُ بَاطِلٌ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ مِنْ الْمَنَافِعِ خَالِصًا أَوْ رَاجِحًا كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فِيمَا يَزْهَدُ فِيهِ وَهُوَ مَا لَيْسَ بِنَافِعِ . وَالْمَنْفَعَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الْخَالِصَةُ أَوْ الرَّاجِحَةُ . وَأَمَّا مَا يَفُوتُ أَرْجَحُ مِنْهَا أَوْ يُعْقِبُ ضَرَرًا لَيْسَ هُوَ دُونَهَا فَإِنَّهَا بَاطِلٌ فِي الِاعْتِبَارِ وَالْمَضَرَّةُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْبَاطِلِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . وَأَمَّا مَا يُظَنُّ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَوْ يَحْصُلُ بِهِ لَذَّةٌ فَاسِدَةٌ فَهَذَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ بِحَالِ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يُشْرَعُ الزُّهْدُ فِيهَا وَتَرَكَهَا وَهِيَ بَاطِلٌ ; وَلِذَلِكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ بَاطِلٌ مُمْتَنِعٌ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَنْفَعَةٍ خَالِصَةٍ أَوْ رَاجِحَةٍ . وَلِهَذَا صَارَتْ أَعْمَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بَاطِلَةً لِقَوْلِهِ { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } الْآيَةَ . أَخْبَرَ أَنَّ صَدَقَةَ الْمُرَائِي وَالْمَنَّانِ بَاطِلَةٌ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لَهُ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وَكَذَلِكَ الْإِحْبَاطُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَلِهَذَا تُسَمِّيه الْفُقَهَاءُ الْعُقُودَ . وَالْعِبَادَاتُ بَعْضُهَا صَحِيحٌ وَبَعْضُهَا بَاطِلٌ وَهُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُهُ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } وَقَوْلُهُ { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } وَلِذَلِكَ وَصَفَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْمَقَالَاتِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ لَيْسَتْ مُطَابِقَةً وَلَا حَقًّا كَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ نَافِعَةً .