تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا وَأَنَّ لِذَلِكَ الْبَاطِنِ بَاطِنًا إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ وَلِلْبَاطِنِ بَاطِنٌ إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ } وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : لَوْ شِئْت لأوقرت مِنْ تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ كَذَا وَكَذَا حِمْلَ جَمَلٍ وَيَقُولُونَ : إنَّمَا هُوَ مِنْ عِلْمِنَا إذْ هُوَ اللدني . وَيَقُولُونَ كَلَامًا مَعْنَاهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ فَإِنَّهُ أَمَرَ قَوْمًا بِالْإِمْسَاكِ وَقَوْمًا بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْمًا بِالْكَسْبِ وَقَوْمًا بِتَرْكِ الْكَسْبِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا ذَكَرَتْهُ أَشْيَاخُنَا فِي " الْعَوَارِفِ " وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ حُذَيْفَةَ كَانَ يَعْلَمُ أَسْمَاءَ الْمُنَافِقِينَ خَصَّهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { حَفِظْت جِرَابَيْنِ } . وَيَرْوُونَ كَلَامًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ أَنَّهُ قَالَ : لِلْعَارِفِينَ خَزَائِنُ أَوْدَعُوهَا عُلُومًا غَرِيبَةً يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِلِسَانِ الْأَبَدِيَّةِ يُخْبِرُونَ عَنْهَا بِلِسَانِ الْأَزَلِيَّةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَخْزُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهِلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ } . فَهَلْ مَا ادَّعَوْهُ صَحِيحًا أَمْ لَا ؟ . فَسَيِّدِي يُبَيِّنُ لَنَا مَقَالَاتِهِمْ ; فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى كَلَامٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ قَالَ : أَلَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي كِتَابًا سَمَّاهُ " حَقَائِقُ التَّفْسِيرِ " إنْ صَحَّ عَنْهُ فَقَدْ كَفَرَ وَوَقَفْت عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَوَجَدْت كَلَامَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُ أَوْ مَا شَابَهَهُ فَمَا رَأْيُ سَيِّدِي فِي ذَلِكَ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ } الْحَدِيثُ يُفَسِّرُونَهُ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ الْمَرْدُودَةِ شَرْعًا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
123456
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ إلَخْ فَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ : إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْفَقِيرُ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْغَنِيُّ وَلَا مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمَرِيضُ كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الصَّحِيحُ وَلَا مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ هُوَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ عِنْدَ النِّعَمِ وَلَا مَا تُؤْمَرُ بِهِ الْحَائِضُ كَمَا تُؤْمَرُ بِهِ الطَّاهِرَةُ وَلَا مَا تُؤْمَرُ بِهِ الْأَئِمَّةُ كَاَلَّذِي تُؤْمَرُ بِهِ الرَّعِيَّةُ فَأَمْرُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ أَحْوَالِهِمْ كَمَا قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَتَوْحِيده وَالْإِيمَانِ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ . وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي نَفْسِهَا تَخْتَلِفُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ زَيْدًا بِخِطَابِ يُنَاقِضُ مَا خَاطَبَ بِهِ عَمْرًا أَوْ أَظْهَرَ لِهَذَا شَيْئًا يُنَاقِضُ مَا أَظْهَرَهُ لِهَذَا كَمَا يَرْوِيهِ الْكَذَّابُونَ { أَنَّ عَائِشَةَ سَأَلَتْهُ هَلْ رَأَيْت رَبَّك ؟ فَقَالَ : لَا . وَسَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : نَعَمْ } . " وَأَنَّهُ أَجَابَ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ بِجَوَابَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ لِاخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلَيْنِ " فَهَذَا مِنْ كَلَامِ الْكَذَّابِينَ الْمُفْتَرِينَ ; بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنَافِقِينَ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ } وَالْحَدِيثُ فِي سُنَنِ أَبِي داود وَغَيْرِهِ { وَكَانَ عَامَ الْفَتْحِ قَدْ أَهْدَرَ دَمَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ لِيُبَايِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ بَايَعَهُ ثُمَّ قَالَ : أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَنْظُرُ إلَيَّ وَقَدْ أَعْرَضْت عَنْ هَذَا فَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هَلَّا أَوْمَضْت إلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ } وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي اسْتِوَاءِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ عَلَى عَادَةِ الْمَكَّارِينَ الْمُنَافِقِينَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ وَأَمْثَالَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ : إنَّهُ أَظْهَرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ وَأَنَّهُ خَاطَبَ الْعَامَّةَ بِأُمُورِ أَرَادَ بِهَا خِلَافَ مَا أَفْهَمَهُمْ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِمْ ; إذْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ صَلَاحُهُمْ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَقَدْ زَعَمَ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَأَصْحَابُ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ ; فَإِنَّ ابْنَ سِينَا كَانَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَتْبَاعِ الْحَاكِمِ القرمطي العبيدي الَّذِي كَانَ بِمِصْرِ . وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَكْفَرِ الْأَقْوَالِ فَجَهْلُهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهْلِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَهُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالذَّكَاءِ مِنْ النَّاسِ وَإِذَا عَلِمُوهُ امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَإِنَّهُ كَمَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُ الْجَمِيعِ عَلَى الْكَذِبِ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى كِتْمَانِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى بَيَانِهِ وَذِكْرِهِ لَا سِيَّمَا مِثْلُ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي مَعْرِفَتُهَا وَالتَّكَلُّمُ بِهَا مِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَاطِنِيَّةَ وَنَحْوَهُمْ أَبْطَنُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوهُ لِلنَّاسِ وَسَعَوْا فِي ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ . حَتَّى الْتَبَسَ أَمْرُهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ . ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ اطَّلَعَ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ جَمِيعُ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ مِنْ مُوَافَقِيهِمْ وَمُخَالِفِيهِمْ وَصَنَّفُوا الْكُتُبَ فِي كَشْفِ أَسْرَارِهِمْ وَرَفْعِ أَسْتَارِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي الْبَاطِنِ حُرْمَةٌ عِنْدَ مَنْ عَرَفَ بَاطِنَهُمْ وَلَا ثِقَةٌ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَلَا الْتِزَامُ طَاعَةٍ لِمَا يَأْمُرُونَ وَكَذَلِكَ مَنْ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ عَلِمَ أَمْرَهُ ثِقَةٌ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ وَبِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَحِينَئِذٍ فَيُنْتَقَضُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا خَاطَبَ بِهِ النَّاسَ فَإِنَّهُ مَا مِنْ خِطَابٍ يُخَاطِبُهُمْ بِهِ إلَّا وَيُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ مَا أَظْهَرَهُ لَهُمْ فَلَا يَثِقُونَ بِأَخْبَارِهِ وَأَوَامِرِهِ فَيَخْتَلُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَيَكُونُ مَقْصُودُهُ صَلَاحَهُمْ فَيَعُودُ ذَلِكَ بِالْفَسَادِ الْعَظِيمِ ; بَلْ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا أَبْطَنَ كَاتِّبَاعِ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ مِنْ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ مُوَافِقِيهِمْ إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ ظَاهِرَهُ خِلَافُ بَاطِنِهِ وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ مَا يَصِيرُونَ بِهِ مِنْ شِرَارِ الْكُفَّارِ . وَإِذَا كَانَتْ الرُّسُلُ تُبْطِنُ خِلَافَ مَا تُظْهِرُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهَذَا الِاخْتِلَافِ مُمْكِنًا لِغَيْرِهِمْ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا كَانَ مُدَّعِي ذَلِكَ كَذَّابًا مُفْتَرِيًا ; فَبَطَلَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَأَمْثَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مُمْكِنًا عَلِمَ بَعْضُ النَّاسِ مُخَالَفَةَ الْبَاطِنِ لِلظَّاهِرِ وَلَيْسَ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ ; بَلْ إذَا عَلِمَهُ هَذَا عَلَّمَهُ هَذَا وَعَلَّمَهُ هَذَا فَيَشِيعُ هَذَا وَيَظْهَرُ ; وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ كَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَنَحْوِهِمْ مُعْرِضِينَ عَنْ حَقِيقَةِ خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ لَا يَعْتَقِدُونَ بَاطِنَ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَا مَا أَمَرَ ; بَلْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ خَبَرِهِ مَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَا تَجِدُ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ يُحْسِنُ بِهِمْ الظَّنَّ ; بَلْ يَظْهَرُ فِسْقُهُمْ وَنِفَاقُهُمْ لِعَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ خَوَاصِّهِمْ . وَأَيْضًا فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ كَانَ خَوَاصُّهُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِبَاطِنِهِ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ يُوجِبُ الِانْحِلَالَ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عَلِمَ حَالَ خَاصَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ - عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ تَصْدِيقًا لِبَاطِنِ أَمْرِ خَبَرِهِ وَظَاهِرِهِ وَطَاعَتَهُمْ لَهُ فِي سِرِّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ فِي خَبَرِهِ وَأَمْرِهِ مَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ مَا بَيَّنَهُ لَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَهُمْ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ نُصُوصِهِ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ اللَّهُ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ هَذَا مَا ظَهَرَ إلَّا مِمَّنْ هُوَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالِاتِّحَادِ كَالْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ والجهمية نفاة حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ . وَمِنْ تَمَامِ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ بِخِطَابِ فِي عِلْمِ الدِّينِ قَصَدَ كِتْمَانَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَكِنْ كَانَ قَدْ يَسْأَلُ الرَّجُلَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ جَوَابُهَا ; فَيُجِيبُهُ بِمَا يَنْفَعُهُ { كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ السَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ لَا يُعْلَمُ مَتَى هِيَ ؟ فَقَالَ : مَا أَعْدَدْت لَهَا ؟ فَقَالَ مَا أَعْدَدْت لَهَا مِنْ كَثِيرِ عَمَلٍ ; وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } فَأَجَابَهُ بِالْمَقْصُودِ مِنْ عِلْمِهِ بِالسَّاعَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُخَاطِبُ أَصْحَابَهُ بِخِطَابِ لَا يَفْهَمُونَهُ ; بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْمَلَ فَهْمًا لِكَلَامِهِ مِنْ بَعْضٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ ; فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ : بَلْ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ } فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدًا مُطْلَقًا لَمْ يُعَيِّنْهُ وَلَا فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لَكِنْ أَبُو بَكْرٍ لِكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فَلَمْ يُخَصَّ عَنْهُمْ بِبَاطِنِ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ; بَلْ يُوَافِقُهُ وَلَا يُخَالِفُ مَفْهُومَ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ .