تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . سُورَةُ الْإِخْلَاصِ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد ابْنُ تيمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا وَرَدَ فِي سُورَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي سُورَةِ ( الزَّلْزَلَةِ وَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَ ( الْفَاتِحَةِ هَلْ مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ ثَابِتٌ فِي الْمَجْمُوعِ أَمْ فِي الْبَعْضِ ؟ وَمَنْ رَوَى ذَلِكَ ؟ وَمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمُعَادَلَةِ وَكَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ وَهَلْ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ - بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا - مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَمْ لَا ؟ وَالصِّفَاتُ الْقَدِيمَةُ وَالْأَسْمَاءُ الْقَدِيمَةُ هَلْ يَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهَا مَعَ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ ؟ وَمَنْ الْقَائِلُ بِذَلِكَ وَفِي أَيِّ كُتُبِهِ قَالَ ذَلِكَ وَوَجْهُ التَّرْجِيحِ فِي ذَلِكَ بِمَا يُمْكِنُ مِنْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَنَقْلِيٍّ ؟
12345678910111213141516171819202122
فَصْلٌ وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - وَهُوَ مَقَامُ حِكْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : فَالْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ حَسَنًا وَقَبِيحًا قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَاشِفٌ عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَا يُكْسِبُهُ حَسَنًا وَلَا قُبْحًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لِحِكْمَةِ تَنْشَأُ مِنْ الْأَمْرِ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا أَنْكَرُوا جَوَازَ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَنَسْخِ الْخَمْسِينَ صَلَاةً الَّتِي أَمَرَ بِهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ إلَى خَمْسٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى مَنْعِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْعِبَادَةِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حِكْمَةٍ تَكُونُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ . وَهَذَا قِيَاسُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الْأَزْمَانِ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ بِرَفْعِ جَمِيعِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُمْ تَنَاقَضُوا والجهمية الْجَبْرِيَّةُ يَقُولُونَ : لَيْسَ لِلْأَمْرِ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ لَا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ شَيْئًا لِحِكْمَةِ وَلَكِنْ نَفْسُ الْمَشِيئَةِ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ مَا وَقَعَ وَتَخْصِيصَ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصَّصٍ وَلَيْسَتْ الْحَسَنَاتُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا السَّيِّئَاتُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ وَلَا لِوَاحِدِ مِنْهُمَا صِفَةٌ صَارَ بِهَا حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بَلْ لَا مَعْنَى لِلْحَسَنَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهَا وَلَا مَعْنَى لِلسَّيِّئَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْهِيَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى عَنْ التَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَهُوَ لَوْ فُعِلَ لَكَانَ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . هَكَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : يَجُوزُ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا لَا يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْأَمْرِ . بِخِلَافِ مَا يُنَافِي مَعْرِفَتَهُ . وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ وَلَكِنْ إذَا اقْتَرَنَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ خُلُقًا أَوْ شَرْعًا صَارَ عَلَامَةً عَلَيْهِ فَالْأَعْمَالُ مُجَرَّدُ عَلَامَاتٍ مَحْضَةٍ لَا أَسْبَابَ مُقْتَضِيَةً . وَقَالُوا : أَمْرُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِيمَانِ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمْ وَعَدَمُ إيمَانِكُمْ عَلَامَةٌ عَلَى الْعَذَابِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالْإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُثِيبَك وَالْإِيمَانُ عَلَامَةٌ . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ وَالتَّعْلِيلَ لِلْأَحْكَامِ وَمَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ مِنْهُمْ لَمْ يَجْعَلْ الْعِلَلَ إلَّا مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ . ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى الْعِلَّةِ ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَلَامَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا تُطْلَبُ عِلَّتُهُ بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ الْجَحِيمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعَلَامَةِ . وَأَمَّا الْفَرْعُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً لِلْأَصْلِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلَلَ الْمُنَاسِبَةَ وَيَقُولُ : الْمُنَاسَبَةُ لَيْسَتْ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُنَاسَبَةِ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ اعْتَبَرَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارَ الْمُنَاسِبِ فَيَسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ لَا لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْحُكْمِ وَلَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَصْلًا فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ وَلَا أَمْرِهِ لَامُ كَيْ . فَجَهْمٌ - رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ - وَأَتْبَاعُهُ فِي طَرَفٍ وَالْقَدَرِيَّةُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَالْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ والمتكلمين فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فَيُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ وَيُقِرُّونَ بِالشَّرْعِ وَيُقِرُّونَ بِالْحِكْمَةِ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ - لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ الْحِكْمَةَ وَقَدْ لَا يَعْرِفُهَا - وَيُقِرُّونَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَعَلَهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ سَوَاءٌ عَرَفَ الْعَبْدُ وَجْهَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ . وَالْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ - وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ - كَمَا فِي الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ صَارَ مُتَّصِفًا بِحُسْنِ اكْتَسَبَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَقُبْحٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ النَّهْيِ كَالْخَمْرِ الَّتِي كَانَتْ لَمْ تُحَرَّمُ ثُمَّ حُرِّمَتْ فَصَارَتْ خَبِيثَةً وَالصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي كَانَتْ حَسَنَةً فَلَمَّا نَهَى عَنْهَا صَارَتْ قَبِيحَةً . فَإِنَّ مَا أَمَرَ بِهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا نَهَى عَنْهُ يُبْغِضُهُ وَيَسْخَطُهُ . وَهُوَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَوَالَاهُ أَعْطَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ مَا يَمْتَازُ بِهَا عَلَى مَنْ أَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ . وَكَذَلِكَ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ - كَالْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ - يَخُصُّهُ بِصِفَاتِ يُمَيِّزُهُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فَتَخْصِيصُهَا بِالْخُبْثِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ . قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا حَرَّمَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا . وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا وَسَيِّئًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ كَوْنِهِ نَافِعًا وَضَارًّا وَمُلَائِمًا وَمُنَافِرًا وَصِدِّيقًا وَعَدُوًّا وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ : فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَافِعًا فِي وَقْتٍ ضَارًّا فِي وَقْتٍ وَالشَّيْءُ الضَّارُّ قَدْ يُتْرَكُ تَحْرِيمُهُ إذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ أَرْجَحَ كَمَا لَوْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ; فَإِنَّ النُّفُوسَ كَانَتْ قَدْ اعْتَادَتْهَا عَادَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ مَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَلَا كَانَ إيمَانُهُمْ وَدِينُهُمْ تَامًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ إلَّا مَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ صَدِّهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَوَّلًا فِيهَا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ثُمَّ أَنْزَلَ فِيهَا - لَمَّا شَرِبَهَا طَائِفَةٌ وَصَلَّوْا فَغَلِطَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ - آيَةُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ سُكَارَى : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّحْرِيمِ : وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ نَاشِئَةً مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِلَاءُ الْعَبْدِ هَلْ يُطِيعُ أَوْ يَعْصِي فَإِذَا اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ وَعَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ فَيُنْسَخُ حِينَئِذٍ كَمَا جَرَى لِلْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ : فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ مَصْلَحَةً وَلَا كَانَ هُوَ مَطْلُوبُ الرَّبِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ كَانَ مُرَادُ الرَّبِّ ابْتِلَاءَ إبْرَاهِيمَ لِيُقَدِّمَ طَاعَةَ رَبِّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْوَلَدِ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْوَلَدَ مَحَبَّةً شَدِيدَةً وَكَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهُ أَنْ يَهَبَهُ إيَّاهُ - وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ - فَأَرَادَ تَعَالَى تَكْمِيلَ خَلَّتِهِ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يُزَاحِمُ بِهِ مُحِبَّةَ رَبِّهِ : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ } { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } { إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى كَانَ الْمَقْصُودُ ابْتِلَاءَهُمْ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ . وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُورِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ بَلْ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا الْأَوَّلَ . وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْحِكْمَةَ عِنْدَهُمْ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ لَا يَعْتَبِرُونَ حِكْمَةً وَلَا تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِأَمْرِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فَيَبْنُونَ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ وَلَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ أَقْوَالِهِمْ إلَّا مَنْ عَرَفَ مَأْخَذَهُمْ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ قَدْ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهَا مُمَاثِلَةً لِسَائِرِ السُّوَرِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِكَثْرَةِ ثَوَابِ قَارِئِهَا أَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْفَاتِحَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ جَهْمٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ . وَكَتَبَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي فِيهَا آثَارُ السَّلَفِ يَذْكُرُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَيَجْعَلُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِجَهْمِ فِي أَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَالسَّلَفُ كَانُوا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الجهمية كَمَا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَالزُّبَيْدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعِهِ وَذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا هُنَا عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَلَا يَظُنُّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ إلَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلَ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ الْمُجَبِّرَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ أَيْضًا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِ جَهْمٍ . وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ . وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي فِيهَا أَقْوَالُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ فِي الْفِقْهِ كَثِيرًا وَالْعُلَمَاءُ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ مِنْ تَصْنِيفِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِيهَا . وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ جَاهِلِينَ بِهَا وَلَا مُعْرِضِينَ عَنْهَا . بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْجَاهِلُ بِالْحَقِّ فِيهَا وَبِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالصَّوَابُ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .