تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَلَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَزِمَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَيْسَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِهِ مَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْوَفَاءُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ هَذَا طَاعَةٌ لِلَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَلَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ أَوْ السَّفَرَ إلَى مُجَرَّدِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَإِنَّ هَذَا السَّفَرَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ قَدْ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا كَانَ طَاعَةً وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَّى بِنَذْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ . لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي " الْمَبْسُوطِ " وَمَعْنَاهَا فِي " الْمُدَوَّنَةِ " و " الْخِلَافِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ . يَقُولُ : إنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يُؤْتَى إلَّا لِلصَّلَاةِ وَمَنْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ وَفَّى بِنَذْرِهِ وَإِنْ قَصَدَ شَيْئًا آخَرَ مِثْلَ زِيَارَةِ مَنْ بِالْبَقِيعِ أَوْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ لِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا يُشْرَعُ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ بِخِلَافِهِ بَلْ كَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ قَوْلَيْنِ : التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ . وَقُدَمَاؤُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ قَالُوا : إنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ . وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ فَيَكُونُ حَرَامًا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بِنَهْيٍ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بَلْ مُبَاحٌ كَالسَّفَرِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا . فَيُقَالُ لَهُ : تِلْكَ الْأَسْفَارُ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْعِبَادَةُ بَلْ يُقْصَدُ بِهَا مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مُبَاحَةٌ وَالسَّفَرُ إلَى الْقُبُورِ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْعِبَادَةُ وَالْعِبَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِوَاجِبِ أَوْ مُسْتَحَبٍّ فَإِذَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْقُبُورِ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ كَانَ مَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ مُبْتَدِعًا مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَالتَّعَبُّدُ بِالْبِدْعَةِ لَيْسَ بِمُبَاحِ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ فَإِذَا بُيِّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا التَّعَبُّدُ بِمَا نَهَى عَنْهُ كَمَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ ; وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ . فَالطَّوَائِفُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهَا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فَمَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا . وَإِذَا قِيلَ هَذَا كَانَ قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ فَيُبَيَّنُ لِصَاحِبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ - لَمْ يُسَافِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ . و " قَبْرُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " بِالشَّامِ لَمْ يُسَافِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَكَانُوا يَأْتُونَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ وَلَا يَذْهَبُونَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بَلْ كَانَ فِي الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ داود عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَلَا كَانَ : " قَبْرُ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ " يُعْرَفُ وَلَكِنْ أُظْهِرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَلِهَذَا وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُنْكِرُهُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَزُورُونَهُ فَيُعْرَفُ . وَلَمَّا اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى الشَّامِ نَقَبُوا الْبِنَاءَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاِتَّخَذُوا الْمَكَانَ كَنِيسَةً . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا . وَأَمَّا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ قَبْرُ الْخَلِيلِ مِثْلَ قَبْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يُسَافِرُ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَجْلِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانُوا يَأْتُونَ فَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُ مَنْ يُسَلِّمُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْفُونٌ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يَدْخُلُونَ الْحُجْرَةَ وَلَا يَقِفُونَ خَارِجًا عَنْهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ السُّورِ . وَكَانَ يَقْدَمُ فِي خِلَافِهِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْدَادُ الْيَمَنِ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْهَبُ إلَى الْقَبْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ وَلَا يَقُومُ خَارِجَهَا فِي الْمَسْجِدِ بَلْ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ . وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِيهِ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَوْ قَالَهُ نِصْفُ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ . فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ هُوَ الدِّينَ الْحَقَّ وَتُسْتَحَلَّ عُقُوبَةُ مَنْ خَالَفَهُ أَوْ يُقَالَ بِكُفْرِهِ فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَخِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِنْ كَانَ الْمُخَالِفُ لِلرَّسُولِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَكْفُرُ فَاَلَّذِي خَالَفَ سُنَّتَهُ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءَ أُمَّتِهِ فَهُوَ الْكَافِرُ . وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَطَأِ لَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا فِي غَيْرِهَا . وَلَكِنْ إنْ قُدِّرَ تَكْفِيرُ الْمُخْطِئِ فَمَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ - إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ - أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالصَّحَابَةَ وَسَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ فَمَا أَمَرَ بِهِ هُوَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ وَمَا نَهَى عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ شِرْكًا كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ حَيْثُ يَتَّخِذُونَ الْمَسَاجِدَ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُصَلُّونَ إلَيْهَا وَيَنْذِرُونَ لَهَا وَيَحُجُّونَ إلَيْهَا . بَلْ قَدْ يَجْعَلُونَ الْحَجَّ إلَى بَيْتِ الْمَخْلُوقِ أَفْضَلَ مِنْ الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ . وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " الْحَجَّ الْأَكْبَرَ " وَصَنَّفَ لَهُمْ شُيُوخُهُمْ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ كَمَا صَنَّفَ الْمُفِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ كِتَابًا فِي مَنَاسِكَ الْمَشَاهِدِ سَمَّاهُ " مَنَاسِكُ حَجِّ الْمَشَاهِدِ " وَشَبَّهَ بَيْتَ الْمَخْلُوقِ بِبَيْتِ الْخَالِقِ . وَأَصْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا نَجْعَلَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نِدًّا وَلَا كُفُوًا وَلَا سَمِيًّا . قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ رَسُولِهِ { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } . فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْحُبِّ لَهُ أَوْ الْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ دَقِيقِ الشِّرْكِ وَجَلِيلِهِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } رَوَاهُ . أَبُو داود وَغَيْرُهُ . { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت ; فَقَالَ : أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } وَقَالَ : { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ ; وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } و { جَاءَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مَرَّةً فَسَجَدَ لَهُ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ . فَقَالَ : يَا مُعَاذُ ؟ إنَّهُ لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } . فَلِهَذَا فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ زِيَارَةِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَبَيْنَ زِيَارَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَزِيَارَةُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ لِقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ تَتَضَمَّنُ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءَ لَهُمْ وَهِيَ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ ; وَزِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يُشَبِّهُونَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ يَنْذِرُونَ لَهُ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيَدْعُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّونَ الْخَالِقَ فَيَكُونُونَ قَدْ جَعَلُوهُ لِلَّهِ نِدًّا وَسَوَّوْهُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ فَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَيَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ فَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ عَبِيدُهُ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ . وَنَهَى سُبْحَانَهُ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ مَثَلٌ بِالْمَخْلُوقِ فَلَا يُشَبَّهُ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْأَعْوَانِ وَالْحُجَّابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى . { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ لَدَيْهِ وَشَفَاعَتُهُ أَعْظَمُ الشَّفَاعَاتِ وَجَاهُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ الجاهات وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا طَلَبَ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ ثُمَّ مِنْ نُوحٍ ثُمَّ مِنْ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مِنْ مُوسَى ثُمَّ مِنْ عِيسَى كُلُّ وَاحِدٍ يُحِيلُهُمْ عَلَى الْآخَرِ فَإِذَا جَاءُوا إلَى الْمَسِيحِ يَقُولُ : اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ; قَالَ : { فَأَذْهَبُ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا وَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . قَالَ : فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } الْحَدِيثَ . فَمَنْ أَنْكَرَ شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ كَمَا يُنْكِرُهَا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَخْلُوقًا يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَنُصُوصَ الْقُرْآنِ ; قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا } { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَالدِّينُ هُوَ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَيُنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَيُحَبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَيُبْغَضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَشْخَاصِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفُرْقَانِ فَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ; فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ .