تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَة الْمُمْتَنِعَةِ لَوْ تَرَكَتْ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ هَلْ يَجُوزُ قِتَالُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْمُسْتَفِيضَةُ فَيُقَاتَلُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَيُؤَدُّوا الزَّكَاةَ وَيَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ وَيَلْتَزِمُوا تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ : مِنْ نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ بِمَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهِ . فَأَمَّا إذَا بَدَءُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَكَّدُ قِتَالُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ قُطَّاعِ الطُّرُقِ . وَأَبْلَغُ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ لِلْكَفَّارِ وَالْمُمْتَنِعِينَ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ كَمَا نَعِي الزَّكَاةَ وَالْخَوَارِجَ وَنَحْوَهُمْ : يَجِبُ ابْتِدَاءً وَدَفْعًا . فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءً فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ كَانَ الْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } الْآيَةَ . فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْعَدُوُّ الْهُجُومَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ دَفْعُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمَقْصُودِينَ كُلِّهِمْ وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ ; لِإِعَانَتِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْصِرِ الْمُسْلِمِ وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ لِلْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَهَذَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ عَامَ الْخَنْدَقِ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ فِي تَرْكِهِ لِأَحَدِ كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ الَّذِي قَسَمَهُمْ فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارِجٍ . بَلْ ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلَّا فِرَارًا } . فَهَذَا دَفْعٌ عَنْ الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْفَسِ وَهُوَ قِتَالٌ اضْطِرَارٌ وَذَلِكَ قِتَالٌ اخْتِيَارٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ كَغُزَاةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهَا فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ هُوَ لِلطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ . فَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ إلْزَامُهُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَمَنَّ كَانَ لَا يُصَلِّي مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ : مِنْ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يُوجِبُونَ قَتْلَهُ إذَا لَمْ يُصَلِّ فَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُرْتَدًّا أَوْ فَاسِقًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ يَقْتَضِي كُفْرَهُ وَهَذَا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ . فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ الْوُجُوبَ فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ ; بَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَأْمُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا وَيَضْرِبُوهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ } وَكَذَلِكَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ وَنَحْوِهَا . وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ تَعَاهُدُ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ وَأَمْرُهُمْ بِأَنْ يُصَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . { وَصَلَّى مَرَّةً بِأَصْحَابِهِ عَلَى طَرَفِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ : إنَّمَا فَعَلْت هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي } . وَعَلَى إمَامِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ فَلَا يَفُوتُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ كَمَالِ دِينِهِمْ ; بَلْ عَلَى كُلِّ إمَامٍ لِلصَّلَاةِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً كَامِلَةً وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْإِجْزَاءِ إلَّا لِعُذْرِ ; وَكَذَلِكَ عَلَى إمَامِهِمْ فِي الْحَجِّ وَأَمِيرِهِمْ فِي الْحَرْبِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَلِيَّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِمُوَكِّلِهِ وَلِمُوَلِّيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ لَهُ فِي مَالِهِ ؟ وَهُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ يُفَوِّتُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ فَأَمْرُ الدِّينِ أَهَمُّ وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى . وَمَتَى اهْتَمَّتْ الْوُلَاةُ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ : صَلَاحٌ لِلطَّائِفَتَيْنِ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ ; وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ . وَمِلَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ صَلَاحُ النِّيَّةِ لِلرَّعِيَّةِ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ . فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ جِمَاعُ صَلَاحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ قَدْ قِيلَ : إنَّهُمَا يَجْمَعَانِ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ . وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ مُغَازِيهِ فَقَالَ : يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فَجَعَلَتْ الرُّءُوسُ تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا } وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ - يَقُولُ : اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك } .