تنسيق الخط:    (إخفاء التشكيل)
متن:
فَإِنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ عَلَى النَّاسِ وَالْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ وَالرُّؤَسَاءُ الْمُفْسِدُونَ كَفِرْعَوْنَ وَحِزْبِهِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنًا . أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ ؟ قَالَ : لَا ; إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسَ } فَبَطَرُ الْحَقِّ دَفْعُهُ وَجَحْدُهُ . وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ وَهَذَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْفَسَادَ بِلَا عُلُوٍّ كَالسُّرَّاقِ وَالْمُجْرِمِينَ مِنْ سَفَلَةِ النَّاسِ . وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : يُرِيدُونَ الْعُلُوَّ بِلَا فَسَادٍ كَاَلَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْلُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ . وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ : فَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } وَقَالَ : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } . فَكَمْ مِمَّنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا سُفُولًا وَكَمْ مِمَّنْ جُعِلَ مِنْ الْأَعْلَيْنَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا الْفَسَادَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ إرَادَةَ الْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ ظُلْمٌ ; لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِرَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى وَنَظِيرُهُ تَحْتَهُ ظُلْمٌ وَمَعَ أَنَّهُ ظُلْمٌ فَالنَّاسُ يُبْغِضُونَ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَيُعَادُونَهُ ; لِأَنَّ الْعَادِلَ مِنْهُمْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَقْهُورًا لِنَظِيرِهِ وَغَيْرُ الْعَادِلِ مِنْهُمْ يُؤْثِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاهِرُ ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ - فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ - مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِرَأْسِ . قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } . فَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِصَرْفِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالسُّلْطَانِ وَالْمَالِ هُوَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ وَإِنْفَاقَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِهِ كَانَ ذَلِكَ صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَإِنْ انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَنْ الدِّينِ أَوْ الدِّينُ عَنْ السُّلْطَانِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَمْتَازُ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } . وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إرَادَةُ الْمَالِ وَالشَّرَفِ [ وَ ] صَارُوا بِمَعْزِلِ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فِي وِلَايَتِهِمْ : رَأَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْإِمَارَةَ تُنَافِي الْإِيمَانَ وَكَمَالَ الدِّينِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الدِّينَ وَأَعْرَضَ عَمًّا لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ ; فَأَخَذَهُ مُعْرِضًا عَنْ الدِّينِ ; لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ وَصَارَ الدِّينُ عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ الرَّحْمَةِ وَالذُّلِّ . لَا فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ وَالْعِزِّ . وَكَذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْعَجْزُ عَنْ تَكْمِيلِ الدِّينِ وَالْجَزَعِ لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ فِي إقَامَتِهِ مِنْ الْبَلَاءِ : اسْتَضْعَفَ طَرِيقَتَهُمْ وَاسْتَذَلَّهَا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ وَمَصْلَحَةُ غَيْرِهِ بِهَا . وَهَاتَانِ السَّبِيلَانِ الْفَاسِدَتَانِ - سَبِيلُ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الَّذِينَ وَلَمْ يُكَمِّلْهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ وَالْمَالِ وَسَبِيلُ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْحَرْبِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إقَامَةَ الدِّينِ - هُمَا سَبِيلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ . الْأُولَى لِلضَّالِّينَ النَّصَارَى وَالثَّانِيَةُ لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ . وَإِنَّمَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ هِيَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلُ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ . وَهُمْ { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ ; فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ وَإِقَامَةَ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ دِينِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ : لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ ; فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأُمَّةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّارِ .