تعريف بالشيخ

عصره:

لابد من وقفة سريعة وموجزة عن عصر ابن تيمية وبيئته وكيف توالت الاحداث ، وتتابعت الازمات واسهمت في بلورة شخصيته ونشوء افكاره .. ذلك لأن بيان العصر والبيئة التي يعيش فيها أي مفكر أو عالم في غاية الأهمية ، لأن أي عالم لابد من ان يؤثر ويتأثر بذلك العصر وتلك البيئة التي يعيش فيها … وهكذا فمن الأهمية بمكان ان نحدد عصر ابن تيمية واسهامه ، في ذلك العصر ، في بناء شخصية هذا العالم الكبير ، واثر هذا العالم والمفكر في ذلك العصر …

واضح ان ابن تيمية برز في الثلث الأخير من القرن السابع والثلث الأول من القرن الثامن .. وقد توالت على الاسلام والمسلمين في هذه المدة المصائب والمحن وكان منها كما ينقل لنا ابن الأثير " ظهور هؤلاء التتر قبحهم الله ، اقبلوا على المشرق ففعلوا الافعال التي يستعظمها كل من سمع بها ، ومنها خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب الى الشام وقصدهم ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها ، لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم[1]

ولعل هول تلك المحنة وجللها جعلتها سابقة خطيرة لم يسبق للعالم ان يبتلى بمثلها بحسب قول ابن الاثير " فلو قال قائل ان العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم الى الآن لم يبتل بمثلها لكان صادقاً " [2] ، فهذا واحد من ابرز المؤرخين الثقات الذين ارخوا لتلك المدة يصف لنا تردي الأوضاع فيها وتتابع الغزوات من المشرق والمغرب ، وقصدهم بلاد الاسلام والمسلمين لأطفاء نور الله ولكن يأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .

ولقد كان لسقوط بغداد عاصمة الدولة الاسلامية ( 656هـ-1258م) في تلك المدة أثره البالغ في تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة الاسلامية آنذاك مع ما وقع فيها من تخريب ودمار وما لاقى أهلها من القتل والذبح مما لم يؤرخ لحادثة وقعت مثلها منذ بنيت بغداد [3]

فقد احتل التتار بغداد وقتلوا أهلها وسلبوا ونهبوا ديارها وممتلكاتها وقتلوا ابناءها ، فأزيلت معالم الحضارة والثقافة الاسلامية فيها ، مما كان له الأثر الكبير في حياة مصر والشام وسائر بلاد الاسلام [4]، وعند ذلك تحولت اكثر الدول الاسلامية الكبرى الى دويلات صغيرة وانقسم المسلمون ، وتفرقوا فيما بينهم بعد ان كانوا كلا واحدا كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، ناهيك عن تداعي الغزاة الطامعين على الأمة الاسلامية من كل حدب وصوب وهذا مصداق قول رسول الله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الشريف الذي يرويه لنا ابو داود والبيهقي ، وهو : " يوشك ان تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، فقال قائل أومن قلة نحن يارسول الله ، قال بل انتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن ، قال قائل يارسول الله ما الوهن ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت [5]" فالتمزق والفرقة في كل مضامين الحياة اصاب كيان الدولة الاسلامية في مشرقها ومغربها آنذاك ، وقد تفرق ابناؤها الى شعب وفرق ومذاهب عدة وتدهور حال الأمة سياسياً واجتماعيا [6]. فمن الناحية السياسية كان سقوط بغداد (656هـ) كما اسلفنا ابرز الاحداث ، مما حدث قبل ولادة ابن تيمية بست سنوات ، الا أن آثارها لازمت الامة الاسلامية مدة طويلة ، وعن هول هذه الكارثة التي حلت بالمسلمين يكفي ان نذكر هنا ما ذكره ابن الاثير في مؤلفه الضخم ( الكامل في التاريخ ) بقوله :

"لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فانا اقدم اليها رجلا وأأخر اخرى ، فمن الذي يسهل عليه ان يكتب نعي الاسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ، فياليت امي لم تلدني وياليتني مت من قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، الا ان حثني جماعة من الأصدقاء على تظهيره وانا متوقف ثم رأيت ان ترك ذلك لا يجدي نفعا"[7]

فأي مصاب واي جلل ذلك الذي يتمنى ابن الاثير ، من جرائه ، ان أمه لم تلده وانه مات قبل ذلك الحدث وكان نسياً منسيا ، اذن فمن الصعب بمكان ان نصف ذلك الحدث الجلل الذي اصاب المسلمين من جراء هذا الغزو وسقوط الخلافة الاسلامية الذي يعد حادثاً كبيراً من الناحية السياسية لما تمثله الخلافة من معانٍ ورموز سامية للاسلام والمسلمين ، ومما يزيد الأمر صعوبة انها انهارت امام قوم لا يعرفون للاسلام إلاً ولا ذمة.

أما من الناحية الاجتماعية فان الشيخ ابن تيمية عاش في مجتمع بعيد كل البعد عن ان تجمعه وحدة اجتماعية أو دينية لها اسسها وقواعدها التي يتحاكم الناس بموجبها مما يجعل لافراد المجتمع وحدة لها اسسها واهدافها وغاياتها المشتركة بل كان مجتمعاً متنافراً ومتباعداً من جميع النواحي.[8]

فكان ماكان من نتائج حروب التتار التي شنت على المسلمين ان التقت – اقوام اندفعوا من اقصى الشرق في الصين حاملين عاداتهم واخلاقهم وأهواءهم – بأهل الاسلام فكان من نتائج ذلك اللقاء اضطراب العادات ، واختلال التقاليد والقم ، وكذلك كان من نتائج تلك الحروب والفتن ان اختلطت الامصار الاسلامية بعضها ببعض ، فأهل العراق مثلاً خرجوا الى الشام عندما غار التتار عليهم ، وأهل الشام وما حولها ينتقلون الى مصر … وهكذا ، وكان ما انتهى اليه ذلك الاختلاط أو الخروج الذي لا مفر منه ان كان هناك اختلاط في الافكار والمضامين الحياتية والنفسية والاجتماعية ، فكان مجتمعاً ممزقاً مضطرباً في كل شيء ليس فيه قرار ولا سكون لافي العادات ولافي التقاليد ولا في اية ناحية من نواحي الحياة الأخرى ، مجتمع تسوده الفرقة والاختلاف في كل شيء ، وكان من نتائج تلك الغزوات ايضاً ان كثر الاسرى من التتار اثر انهزامهم على يد المسلمين . فنظر المسلمون الى هؤلاء الاسرى نظرة احترام وتقدير وسهلوا لهم الاقامة بينهم وسموهم الوافدية وجعلوا لهم نظام حكم يخصهم ولا يعم غيرهم من سكان مصر والشام . فكثرت الوافدية وملأوا البلدان فانتشرت عاداتهم وتقاليدهم وطرائقهم واتقنوا القرآن . وعرفوا احكام الاسلام فجمعوا بين الحق والباطل وبدلوا وحرفوا ، فأساءوا بذلك الى الاسلام والمسلمين[9] . وهكذا فان المجتمع الاسلامي في تلك المدة كان ممزقاً بكل فئاته وطبقاته ، لما تداعت عليه الغزوات والويلات والمحن . فكان ان اضطربت العادات والتقاليد والقيم كما سبق القول فكل من هذه الفئات والطبقات الاجتماعية ينظر الى الحياة بمنظاره الخاص فكان مجتمعاً لا يعرف الاستقرار في شيء ، مما كان له اثره الكبير في تردي الأوضاع الاجتماعية آنذاك وكذلك كان من ابرز سمات ذلك العصر واخطرها فرض ضرائب على الناس تلك الضرائب التي تثقل كاهل العامة وكذلك احتكار التجار لبضائعهم حتى تقل في الاسواق فيرتفع الطلب عليها ، فترتفع بذلك اسعارها فكان المجتمع آنذاك يعاني الأمرين ، العدوان الخارجي وتوالي الغزوات عليه والحصار الداخلي وانقسام المسلمين وفرض الضرائب الباهظة ، فتحولت نتيجة لذلك العلاقة الاجتماعية بين الناس الى علاقة عدوانية ، القوي فيها يأكل الضعيف والانسان ضد أخيه الانسان [10] فكان ابن تيمية كثيراً ما يتمثل بقول الشاعر:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذا عوى -- وصوت انسان فكدت أطير


  1. الكامل في التاريخ ، جـ12 ، مطبعة الاستقامة ، القاهرة ، 1950 ، ص138.
  2. الكامل في التاريخ ، جـ12 ، ص137-138.
  3. ابن كثير : البداية والنهاية ، جـ13 ، مطبعة السعادة ، القاهرة ، 1351 هـ –1932م ، ص201.
  4. موسى : محمد يوسف : ابن تيمية ، المركز العربي للثقافة والعلوم ، سلسلة اعلام العرب ، بيروت ، 1381 هـ ، 1962 م ، ص15.
  5. حديث صحيح رواه ابي داود.
  6. ابن تيمية : حياته ، وعصره ، أبو زهرة دار الفكر العربي ، القاهرة ، ط2 ، 1958 ، ص125.
  7. الكامل في التاريخ ، جـ12 ، ص28 وما بعدها.
  8. ابن تيمية ، محمد يوسف موسى ص25
  9. ابن تيمية حياته وعصره ، أبو زهرة ص 148-150.
  10. طبقات الشافعية ، ابن السبكي : دار المعرفة للطباعة والنشر، ط2، بيروت ، لبنان ، جـ5 ، ص82-83.
12345